البحث عن بطل

منذ طفولتنا، ونحن نبحث عن البطل. ذاك البطل الذي كان يسكن قصص الكرتون التي نشاهدها، والكتب التي تُقرأ لنا، أو التي كنا نقرأها بأنفسنا. البطل المقدام الذي يأتي على جواده الأبيض لينقذ الأميرة من التنين، أو ذلك الذي يضحي بنفسه من أجل وطنه أو مبادئه. كنا ننبهر بشهامته، نغرم به نحن الفتيات، بينما الفتيان يتخذونه قدوة، يرتدون زيه، ويتقمصون شخصيته.

لكن الأيام مرت، ورؤيتنا للحياة تغيّرت. أصبحت أكثر تعقيدًا، وكشفت لنا أن الفارس الأبيض والتنين الشرير مجرد أساطير. كثيرًا ما صدمنا الواقع؛ فالأشخاص الذين ظننا أنهم أبطال تبيّن أنهم عاديون، أو حتى بعيدون عن البطولة. حتى معلمتنا التي أحببناها في طفولتنا، اكتشفنا لاحقًا أنها لم تحبنا حبًا خالصًا، بل كانت تؤدي وظيفتها. وآباؤنا الذين كنا نحلم أن نكون مثلهم حين نكبر، رأيناهم يتصارعون على أشياء بسيطة، أو يدلون بتعليقات طبقية أو عنصرية صدمتنا وأحبطت آمالنا.

ومع هذه الصدمات، بدأت صورة البطل تتلاشى تدريجيًا من قلوبنا. مع كل تجربة واقعية، كانت الفكرة المثالية عن البطل تنهار أكثر فأكثر. وعندما كبرنا وحاولنا أن نكون نحن أبطالًا، اكتشفنا كم هو صعب أن نثبت على المبادئ، أن نضحي دون مقابل، أو أن نتعامل بنبل في لحظات الضعف. وعندما اشتدت علينا الأزمات، وجدنا أنفسنا نصرخ: “نفسي، نفسي”. حينها، أدركنا أن البطل الذي حلمنا به ربما كان مجرد وهم طفولي، أسطورة نسجناها من القصص التي كنا نحبها.

مات البطل في داخلنا دون أن نرثيه. لم نشيع جنازته، لم نقرأ الفاتحة على قبره، ولم نطلب له الرحمة. ودّعناه بانكساراتنا، بعجزنا، باستسلامنا، وبأنانيتنا. وحين كنا نصادف من لا يزال يؤمن بوجود البطل، كنا نشعر بالسخرية، وربما الضيق. من هذا الذي يصدق مثل هذه “الخرافة”؟ من يؤمن بالمثاليات في زمن الواقعية الباردة؟ لجأنا إلى تبرير ضعفنا بالواقعية، وإلى تزييف القيم لإخفاء فشلنا، حتى اقتنعنا بأن البطولة حلم مستحيل.

لكن الحقيقة أننا كنا مخطئين. البطل لم يمت. كان دائمًا هنا، في أعماقنا. يستيقظ معنا كل صباح، يحتسي قهوته بجوارنا، ويسألنا عن الطقس والحياة والحب. البطل لم يغب، بل نحن من قررنا تجاهله ودفنه في ركن بعيد من نفوسنا. قررنا ذلك لنريح أنفسنا من عناء المسؤولية، ومن صعوبة الالتزام بالقيم النبيلة التي يجسدها. دفناه حتى نبرر ضعفنا، وحتى نغطي أنانيتنا وشرهنا بقناع من الحجج الزائفة.

لكن مهما حاولنا الهروب، يبقى البطل في داخلنا. ربما لم يكن البطل مثاليًا كما تخيلنا، وربما نحن لسنا أبطالًا خارقين، لكن البطولة لا تعني الكمال. البطل الحقيقي هو من يعترف بأخطائه، يتعثر لكنه ينهض، ينحرف عن مبادئه أحيانًا لكنه يعود إليها. البطولة تكمن في المثابرة، في المحاولة المستمرة، وفي الشجاعة لمواجهة الذات وتصحيح المسار.

لذا، علينا أن نتوقف عن البحث عن البطل في الآخرين. البطولة ليست شخصية خيالية تأتي لإنقاذنا؛ إنها قوة دفينة في أعماق كل واحد منا. إن أردنا رؤية البطل حيًا، فعلينا أن نبدأ بالبحث عنه في ذواتنا. البطولة قرار ومسؤولية، وكلما اعترفنا بها وتقبلناها، اقتربنا أكثر من أن نكون أبطالًا حقيقيين، في عيوننا قبل عيون الآخرين.

أحدث التعليقات