الحكمة (24): «اليد واللسان: القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة» لعبد الله الغذامي

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (24): «اليد واللسان: القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة» لعبد الله الغذامي

أقف اليوم في محطتي الرابعة والعشرين: المملكة العربية السعودية. ترددت كثيراً قبل اختيار كتاب من مسقط رأسي والدولة التي اعتبرتها دائماً موطني الثاني إلى أن جذبني عنوان كتاب عبد الله الغذّامي والذي نجح في الوفاء به بسلاسة وبساطة. فكتاب «اليد واللسان: القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة» لعبد الله الغذامي، الذي نشر طبعته الأولى المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء في 2012، نجح في عرض منظور فريد للقراءة والأمية ورأسمالية الثقافة. منظور مخالف لكل ما تعودنا على سماعه من أغلب المثقفين ودور النشر.

قسّم عبد الله الغذّامي الكتاب إلى ثلاثة فصول: (القراءة: مفاهيم أولية) و(رأسمالية الثقافة: الأكثر مبيعاً) و(الأمية: سؤال آخر)، وهي في الأساس مجموعة من المقالات اللواتي “ظهرت تباعاً في ملحق جريدة الرياض الثقافي على عدد من الحلقات في أواخر العام 2009 حتى منتصف العام 2010.”  (ص. 12)

بدايةً، يتطرق الكاتب إلى “اليد واللسان” ودورهما في أي مجتمع بشري، فيقول: “هناك نازع ثقافي باتجاه الرأي الواحد والصوت الواحد والرأس الواحد فكرياً واجتماعياً وسياسياً، وكل حالة اختلاف هي حالة مروق، وظل اللسان في زمن الشفاهية هو مصدر الخطر وهو الخط الأحمر، ثم جاءت ثقافة الكتابة لتجعل اليد هي القيمة الثقافية المشاغبة، واليوم جاءت الآلة الجديدة، التي هي (لوحة المفاتيح) لتكون إضافة أخرى للآلتين التقليديتين، اليد واللسان، وفي هذه الأدوات تكمن الألاعيب كلها، لعبة التغالب والتكالب. ففي الوقت الذي يكون اللسان أداة لحرية التعبير فإنه أيضاً أداة للتسلط ومثله الكتابة مثلهما لوحة المفاتيح، وفي كل منهما أبواب للقول والكشف والنقد من جهة، مثلما فيها أبواب للقمع والعدوان اللفظي والثقافي، والذي يظل دائماً ويبقى هو قدرة الإنسان على اكتشاف سبل التعبير واختراع حيل لا حصر لها في ذلك، حتى ليكتب بدمه إذا استعصت عليه الأقلام.” (ص. 11)

يوضّح الكاتب في الفصل الأول أن التعميم السائد بأن العرب لا يقرؤون يحتاج إلى إعادة النظر، وأن “أصحاب المهنة، كانوا وراء تغذية هذا التصور، فالناشرون وباعة الكتب ومعهم المؤلفون ظلوا يردّدون بلا هوادة القول بأن العرب أمة لا تقرأ، وأن أمة اقرأ لا تقرأ، وحدث في عام 1999 في معرض بيروت للكتاب أن وضعت إحدى دور النشر العربية كفناً صغيراً على مدخل جناحها وقالت إنه كفن القارئ العربي ميتاً، وركزت تغطيات الصحافة على هذا المنظر وصار نادرة من نوادر الأقاويل. إن الربط بين القراءة والثقافة حتى لتكون هذه علامة على تلك لهو ربط قسري ويتجاهل حقائق جوهرية حول مصادر الثقافة، وأولها الرواية الشفاهية التي كانت مصدراً تاريخياً شاملاً وكلياً وله مفعول جبار في القديم مثلما له مفعول حديث.” (ص. 21)

أمّا بالنسبة للفصل الثاني (رأسمالية الثقافة: الأكثر مبيعاً)، فليس بوسعي سوى أن أهنئه على فهمه العميق لأصول المشكلة، وأن الثقافة في أساسها فعل مجاني قبل أن تخلل الرأسمالية جميع تفاصيل حياتنا اليومية. يقول: “كانت الثقافة مجانية في معظم أمورها من مثل دخول المتاحف وتوفر المكتبات العامة مثلها مثل المراكز الصحية والضمان الاجتماعي وغيرها. ولكن رياح الرأسمالية كانت تهب شيئاً فشيئاً لتشمل أمراً كان تلقائياً وها هو يصير استثمارياً.” (ص. 76)

“لقد كانت الرأسمالية نظرية اقتصادية من إنتاج الثقافة ومن بنات أفكار الكتب، على أنها نظرية للتجارة والصناعة وما يتبعهما من سياسة مساندة، ولم تكن نظرية في الثقافة، ولكن الصنم يرتد على صانعه ليهمين عليه ولذا انتهى المطاف بأن خضعت الثقافة للشرط الرأسمالي، وترسملت حتى صارت من المسلمات الكلية التي لم تعد موضع تساؤل ولا موضع تحرج، وزالت الطهورية الأولى التي كانت تصبغ الكلمة بالنزاعة والتسامي، وتباعد بينها وبين المال حتى صارت الفتاوى الدينية محددة الأسعار بناء على استثمار الوقت والفكر، بوصفهما بضاعة ومادة تجارية.” (ص. 80)

وفي الفصل الأخير يتساءل عبد الله الغذّامي عن الأمية، وكما عوّدنا في المقالات السابقة، فهو يطرح فهماً مغايراً للمنظور السائد. فالأمية بالنسبة للكتاب ليست جهلاً، وليست “هي التي تعيق الأمة عن التقدم، ومؤشر [قلة عدد] المخطوطات العربية يؤكد أن أسلافنا وقد تقدموا وصرنا نفاخر بهم، إنما تقدموا بجهد أفراد صنعوا المعرفة بمثابرة وجهد مكثف صادق، وليس بطوابير من الملايين، ولا شك أن الملايين ضرورية للمعارك الحربية، ولكنها ليست شرطاً للتقدم العلمي. والظن أن العرب متأخرون اليوم بسبب عموم الأمية يصبح وهماً وسذاجة في التحليل، والعلة ولا شك ليست من الأمية، والأمية لم تكن عائقاً في القديم ولا هي عائق في الحديث. ولكن العلة هي في الضعف التخصصي وضعف أخلاقيات العمل وحوافر الإبداع. وعلى رأسها عندنا تأتي القوامع التي تمارسها المؤسسة والمجتمع ضد التحفز الذاتي مما يؤدي إلى تدجين الروح الإبداعية وترويضها حتى تصبح مثل سائر القطيع، وهذه سيرة ذاتية لكل واحد منا تقريباً وهي في الوقت ذاته سيرة اجتماعية عامة ومشهودة.” (ص. 98-99)

الحكمة من الكتاب:

تفرض طبيعة الكتاب واشتماله على مجموعة متنوعة من المقالات أن يكون لكل مقال رسالة أو حكمة يسعى لإيصالها للقارئ؛ مما يجعل مهمة استخلاص حكمة واحدة شبه مستحيلة، ولكن وبعد تبني منظور أوسع للمواضيع التي تطرق إليها عبد الله الغذامي ستضح أن الحكمة الحقيقية من كتاب «اليد واللسان: القراءة والأمية ورأسمالية الثقافة» تتلخص في أهمية النظرة النقدية والتساؤل عن أصل كل الأفكار والمعتقدات التي تصلنا دون التسليم بصحة أي فكرة أو معتقد.

وتبعاً، نجح الكاتب في دحض ثلاث أفكار سائدة ومسلّم بصحتها، وهي: 1) أمة اقرأ لا تقرأ، و2) التسليم برأسمالية الثقافة ولزوم ارتباط الثقافة بقيمة مادية، و3) العلاقة الطردية بين معدلات الأمية ونهضة الأمم وتقدمها.

اقتباسات من الكتاب:

“القراءة هي مجرد صيغة من صيغ التفاعل، وليست هي سر التفاعل ولا تصنع قيمته، ولا تفترض خطورته في حال غيابها، والمسألة ليست مسألة أفراد وعينات بشرية محصورة، بل هي علامة ثقافية أكبر من أن ننساها أو نتناساها، فالآداب العظمى في التاريخ كله تحدرت، وتناسلت عبر الرواية والمشافهة والحفظ، مثلما تحدرت عبر الورقة والمخطوطات، وليس هذا سوى افتراض أولي ولكنه افتراض كاشف وبنيوي.” (ص. 17)

“العرب يقرأون، ولكن السؤال هو عن نوعية المقروء، خاصة إذا عرفنا أن كتاباً مثل كتاب (لا تحزن) لمؤلفه الشيخ عائض القرني قد باع أكثر من ثلاثة ملايين نسخة في فترة وجيزة، وهي إحصائية شملت مصر واليمن والأردن ومنطقة الخليج العربي، بينما تقف دواوين أدونيس عند أعداد محدودة وضيقة، والأمر هنا هو في خيارات ثقافية للجمهور، مما يجب أن يكون موضع سؤال وتفكر.” (ص. 19)

“الكتاب صامت ومطلق والمؤلف في الكتاب سلطة متعالية، بينما القارئ للكتاب سلبي وهو مجرد مستقبل سالب، وليس بينه وبين المؤلف صلة من أي نوع فهو لا يراه ولا يسمعه ولا يستطيع محاورته، ومعظم المؤلفين هم أموات أو بحكم الأموات من حيث غيابهم المطلق، والكلمة في الكتاب هي صورة جامدة، وهذه مفارقة كبرى مع الشفاهية؛ حيث إن الكلمة الشفاهية حية وقابلة للتبدل والتغير والتفاعل، ويكون المستقبل فيها إيجابياً وفعّالاً، مع اشتراك لغة الجسد في صناعة الرسالة وصياغة التواصل، وفيما بين الشفاهية والكتابية تحولت الأنماط الثقافية ومالت لمصلحة الكتابة وقيم النص المكتوب، وتولد عن ذلك أعراف ونظم معرفية منها وجود الوسطاء بين المؤلف والقارئ وهم الناشرون والموزعون من جهة، ومن جهة أخرى جاء وسطاء آخرون من الشراح والمفسرين والنقاد وعارضي الكتب، وهم فئات شكلت مهناً ثقافية كبرى على مر التاريخ.” (ص. 22)

“إننا نعزز بالقول إن ثقافة الكتابة لكي تحافظ على قدرتها التنافسية لا بد لها أن تتمثل خصائص ثقافة الصورة، وهي خصائص واضحة المعالم، ومنها المباشرة والشرعة والتلوين والدقة والإثارة، وهي سمات تفاعلية نجحت مع النصوص التي تنطوي على هذه الصفات أن بعضها، ولقد كنا نشهد كيف أن محمود درويش يستقطب حضوراً كاملاً في كل مرة كان يلقي فيها أمسية شعرية، وذلك لما في خطابه من خصائص تشبه سمات وخصائص الصورة، وسنقول شيئاً من هذا عن أمسيات الشعر الشعبي، والاحتفاليات الثقافية، والروايات، وهي صورة ثقافية متحركة، عرفها ما يسمى بالوعّاظ الجدد واستثمروها بمهارة جاذبة.” (ص. 27)

“ثقافة الاستشفاء التي هي المحرك الأبرز لثقافة الأكثر مبيعاً، كما سنتها الثقافة الأمريكية ثم تسربّت للعالم كله في نسبة تتوافق دوماً مع ارتفاع انعزالية الفرد وتقلص دور العائلة، حيث تتفرد الحياة بالشخص لتعزز فرديته وعزلته، وتنشأ عنده الحاجة حينئذ لمثل هذه الكتب التي تملأ الفراغ الثقافي وتقدم نوعاً من الآباء الجدد والوعاظ الجدد.” (ص. 52)

“من أخطر عيوبنا الثقافية هو تصورنا لغيرنا كما نتصور أنفسنا فنقيسهم بمقياسنا، ونحن كعرب ومسلمين نشتكي دوماً من تصور الغرب لنا، ونرى أنه تصور غير واقعي، وأنه تعسفي ونمطي، وهذا صحيح، ولكن علينا أن نعترف أن تصورنا للأوروبيين هو أيضاً تصور تعسفي واختزالي، ومثله تصور بعضنا لبعض من فئات وطوائف وطبقات، مثله تصور الرجل للمرأة وتصور المرأة للرجل، وكل يقيس الآخر بحسب مرآته الداخلية، ويندر أن يسمح للصورة الخارجية المحايدة بأن تتسرب إلى ذهنه، وتأخذ دورها في التشكل والتجسد بصيغة واقعية تستبطن كل جوانب الصورة وإمكانياتها الدلالية والتلقائية. إن اللعبة الثقافية من أخطر اللعب البشرية، وهي أخطر من الحروب ذاتها، بل إن من يصنع الحروب، ويؤسس لها هو التصورات الثقافية النسقية التي تفرز البشر بين محورين: محور الخير وهي النحن دائماً ومحور الشر وهو الآخرون دائماً، ونستطيع تذكر حماسيات الشعر الجاهلي ومعها جورج دبليو بوش، والفيلسوف الوجودي الكبير سارتر وكلمته: الآخرون هم الجحيم.” (ص. 73)

الختام:

قليلة هي الكتب التي تنجح في إخراجك من الصندوق. صندوق المعتقدات والمسلمات. فمثل هذه الكتب تتطلب كاتباً متحرراً من الموروث الفكري والثقافي. كاتب قادر على التساؤل عن التساؤل ذاته. وهذا بالضبط ما نجح عبد الله الغذامي في إيصاله، بل إنه خصص فصلاً في ملحقات الكتاب للتحدث عن هذه الظاهرة. ظاهرة تحرر المثقف أو الأكاديمي من السياق والمعتاد لدرجة يصبح فيها من المستحيل تصنيفه أو قولوبته، وهذا ما حدث مع جاك دريدا. فعندما قررت جامعة كمبريدج أن تمنحه شهادة دكتوراه فخرية، “رفض قسم الفلسفة في الجامعة تبني الترشيح بحجة أن دريدا ليس فيلسوفاً، وأنه باحث لغوي، واقترحوا إحالة الموضوع إلى قسم اللغويات لدعم الترشيح، ولكن هذا القسم رد الموضوع مبرراً موقفه بأن الرجل ليس لغوياً ولا ألسنياً.” (ص. 147)

وإن كانت المجالات الثقافية لا تقبل الاختلاف والتعدد، فهل أصبحت – بعد رأسملتها – تفرض نوعاً جديداً من العبودية؟

أحدث التعليقات