الحكمة (25): «أبيض يتوحش» لناصر الظفيري

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (25): «أبيض يتوحش» لناصر الظفيري

أقف في محطتي السادسة والعشرين: الكويت، البلد الذي لا يزال يسكنه شبح الحرب حتى بعد مرور ما يزيد عن قرنين على قيامها. في سنة 2017، نشرت منشورات المتوسط مجموعة قصصية لناصر الظفيري بعنوان «أبيض يتوحش» في ميلانو. تشمل المجموعة 12 قصة قصيرة: «عندما يقف الز… من» و«المرأة الغريبة» و«قلب جديد لأبيض» و«المقعد الخالي» و«ترنيمة متأخّرة لشتاء 92» و«للموت اشتهاءات» و«لعبة الموت» و«أول الدم» و«البغدادي» و«حينما في الصيف» و«يوم للحياة» و«مكتبة».

بين العبثية والسوداوية والحزن القابع في جميع الشخصيات بدون استثناء، يقدّم ناصر الظفيري قراءة معمقة لإنسان ما بعد الحرب أو بالأصح ما بقي منه. وبينما كُتبت سبع قصص بعد سنوات قليلة من حرب الخليج الثانية (2 أغسطس 1990 إلى 28 فبراير 1991)، إلا أن آثار الحرب تتخل جميع القصص بدون استثناء.

فهذه الحرب تسكن في العلاقة اليومية بين المرأة وزوجها، وفي الجارة العاشقة التي تتحول إلى عدوه “تبعاً لحسابات ما بعد الحرب” (ص. 22)، وفي الطفل الذي ضاعت طفولته إلى الأبد. تقول إحدى الشخصيات معبرةً عن تأثير الحرب “غيرتنا الحرب، أصبحنا لا ندري ماذا نقول، أو ماذا نريد أو نفعل. غيرتنا الحرب، سرقت منّا إنساننا الصغير، ولغتنا العظيمة.” (ص. 42).

بين الحرب والخيبة والمبادئ والحب، لامست قصة «ترنيمة متأخّرة لشتاء 92» قلبي بكل قوة. ترصد القصة بندول مجريات الحياة بين زوجين في فترة الحرب وبعدها بعامين. فتبدأ بشهر يناير بعد عامين، ثم تعود للشهر ذاته “والسماء تشتعل بهدير الطائرات، والجنود يعدلون أوضاعهم، وأطفال يتعلمون صنع الكمامات المنزلية.” (ص. 39)

ترصد القصة التغيرات التي تطرأ إنساناً ما بعد الحرب. وتبدأ بسؤال الحبيبة “أما تزال تحتفظ بمبادئك القديمة؟” (ص. 40) وتنتهي بوقوف الحبيب تحت المطر. “ولا يقف المطر. يفتح عينيه. تتساقط الأمطار فيهما. تنهمر قلوب سريعة من زاويتيهما. قلوب صغيرة ترتجف، فيها صورة قديمة وأحلام قادمة. قلوب صغيرة تتساقط منها المبادئ التي لا تموت.” (ص. 45).

وبين المبادئ وموتها، محطات أخرى كثيرة، منها اعتراف الحبيب بمصير الأحلام “بعد فترات متقطعة، توقفت الأحلام في أعين الكثيرين – كان ذلك في يناير بعد عامين – شاهدت بعضهم يجسد الخيانات الكبرى للدول في أصدقائهم، وبعضهم يجسد سرقات الدول في جيوب إخوتهم. وكنت أفهم إسقاطات الحرب الصغرى على الآخرين… ولم تكن تفهم إسقاطات الحرب الصغرة عليها، أو عليّ. ولم يتغير شيء. حاولت أن تعود لأشيائها في السلم وها هي تعود. ولم يبق سوى السؤال الصغير داخلي: هل أعود أنا؟” (ص. 44).

هل يعود إنسان ما بعد الحرب إلى حالته الأولى؟ سؤال يبقى معلقاً بعد نهاية القصة. سؤال يبقى معلقاً بعد نهاية المجموعة القصصية.

الحكمة من الكتاب:

ليت قادة الحروب يقرأون القصص والروايات التي تكتبها النفوس المجهدة. ليتهم يفهمون مدى المأساة التي تخلفها الحروب – وإن قصرت – في نفوس الأشخاص وأحلام الأطفال وأمانيهم. ليتهم يدركون أن كل صافرة إنذار تصيب الروح بخوف وأسى قد لا تشفى منه أبداً أو ربّما ليتهم يقرأون. ليتهم يقرأون!

اقتباسات من الكتاب:

“فتاة بشعر صبي وأنوثة مستترة خلف خشونة شاب. أذكر أنني أثرتها ذات لقاء “أنت مشروع صبي شوارع”. غضبت، ثم ابتسمت. دنت مني، همست “سأريك أنثى، لن تعرفها في حياتكَ أبداً “، وانصرفت.” (ص. 9)

“أعرف أنك لا تتذكرني، لا يبدو عليك أنك تتذكر اسمي الآن، وربمّا لم تتذكره أبداً طوال الفترة التي غادرتنا فيها، يبدو أنك حتى لم تعد لأهلك خلال تلك السنوات. ولكنني أحببتك، أحببتك كما تحب فتاة للمرة الأولى، وحلمتُ بك كما تحلم فتاة برجل اختارته ليكون لها أبداً. التقيتك مرة واحدة… كان ذلك قبل عشرين عاماً أو أكثر قليلاً. كنتَ تسكن في البيت المقابل لبيتنا، شاب هادئ بالكاد ترفع رأسك عن الأرض، وحتى حين تجلس أمام البيت لا تهتم كثيراً بفتاة، تنظر إليك من فرجة صغيرة بين حافة الستارة والشباك… في صيف تلك السنة التي سألتحق بها في الجامعة وأحلامي تتمدد حتى يصعب على خيالي أن يحيط بها. كنتُ أحلم أن أراك. أسير إلى جانبك. أجعلك تحبني. ذات ليلة جاءت الحرب، وضاع كل شيء. ولم أركَ طيلة ذلك الصيف. رفضت شقيقاتك حتى القريبة مني أن تقول لي أين أنت. ثم رفضن استقبالي في البيت. ليس بسبب أنني أحبك، أعرف ذلك. تحولنا إلى أعداء تبعاً لحسابات ما بعد الحرب. وقبل أن تنتهي حرب، وتبدأ أخرى أكثر مرارة منها، غادرنا البلد الذي أحببنا إلى البلد الذي غادره والدي، وهو لا ينوي العودة إليه. حاصرنا الجوع، وضاعت مدخراتنا، ولكنني لم أتوقف عن حبك أبداً.” (ص. 20-22)

“كانت بلادي دافئة كقلوب أهلها. يعرفها البحر والجيران. لم تخن، لكنها سقطت مطعونة في أحضان جيرانها.” (ص. 60)

“ماذا على الصغار أن يفعلوا حين تندلع الحرب؟ وأنام وعقلي مفهم بالسؤال ومُغلق بالإجابة.” (ص. 67)

“ذهبنا للحفل، وكان كل شيء مستعاراً، الورد، والعرس، وأقنعة الناس، وملابس العريس، ووجه العروس.” (ص. 91)

“سوء سلوك أمارسه بخصوص الكتب هو أنني لا أعير كتاباً، ولا أعيد كتاباً استعرته، إذا لم يُطالبني به صاحبه. كان المبدأ الذي اعتمده هو أن من لا يسأل عن كتاب أعاره، لا يستحق أن يمتلكه، وإن لم يكن في مكتبتي، سيكون في كيس قمامة منزوع الغلاف يوماً ما.” (ص. 107)

الختام:

ليس الأدب تدريباً للخيال فقط، وإنّما هو أيضاً تمرين للضمير والشعور. هو قراءة في النفس البشرية المختلفة، وفتح أبواب على الآخر لن ندخلها بدونه. وبذلك كان الأدب قمة الإنسانية، وقراءته ممارسة لها، وفهمها، واستيعابها في الآخرين وفي أنفسنا دائماً.

وبذلك، تأتي مجموعة ناصر الظفيري «أبيض يتوحش» كمثال رائع على ذلك، فتدخل القارئ في نفسية إنسان ما بعد الحرب وكأنه هو من عاش الحرب ومخاوفها وتابعاتها، وتأخذه إلى عالم سوداوي مفرط في اكتئابه وحزنه، وصمته. صمت يمكن الشعور به من بين السطور. صمت الداخلي في مواجهة فوضى الخارجي، فوضى الحروب والخوف وفقدان الأمل.

أحدث التعليقات