الحكمة (26): «النوم عند قدمي الجبل» لحمور زيادة

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (26): «النوم عند قدمي الجبل» لحمور زيادة

أقف اليوم في محطتي الخامسة والعشرين: السودان.

ومن عمق الواقع السوداني تحديداً، يقدم حمور زيادة مجموعة قصص القصيرة تناقش قضايا محلية والملحة. تحمل المجموعة اسم القصة القصيرة الأولى «النوم عند قدمي الجبل»، والتي حازت بعد تحويلها إلى فيلم على جائزة مهرجان فينسيا في دورته الـ 76 وجائزة النجمة الذهبية في مهرجان الجونة السينمائي دورة سنة 2019. نشرت المجموعة دار العين للنشر في الإسكندرية في سنة 2020.

تشمل المجموعة أيضاً أربع قصص أخرى، وهي: «حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها» و«لكل عام خريف» و«عندما هاجرت الداية» و«حلة ود أزرق».

كتبت سابقاً مراجعة عن رواية «شوق الدرويش» لنفس الكاتب، والتي حازت بدورها على جائزة نجيب محفوظ للرواية في سنة 2014. ويبدو جلياً من العملين تعلق الكاتب بتفاصيل الواقع المحلي السوداني، وما يتخلله من خرافات ومعتقدات وتعقيدات.

أمّا ما يميز كتاباته، فهو النظرة النقدية التي يخلّفها عند القارئ. فعلى سبيل المثال، تطرح قصة «النوم عند قدمي الجبل» سؤال في غاية الأهمية عن تأثير الإيحاء على الواقع، وخاصة إذا ما صدر الإيحاء عن شخص ذي مرجعية دينية أو ثقل اجتماعي. فهل تتحقق الإيحاءات أو النبوءات؛ لأنها حقيقة في أصلها أم نتيجة لقوة الإيمان بها؟

تروي القصة حكاية مزمل النور الذي تنبأ له خليفة الشيخ أبو عاقلة عند ولادته بالموت يوم يكمل عامه العشرين. وانطلاقاً من هذه النبوءة، عاش مزمل حياته في انتظار الموت الذي لن يأتيه إلا عندما يأتيه هو ويحفر “بيديه العاريتين قبره.” (ص. 57)

يزيد من قوة الإيحاء وسطوته تأكيد المجتمع المستمر على هذه الإيحاءات والنبوءات وكأنها حقائق مطلقة. فنجد أن كل من خاطب مزمل النور أردف لاسمه عبارة “سيموت يوم يكمل عامه العشرين” وكأنها حقيقة مسلّم بها.

أمّا المصيبة، فهي في خلو هذه التنبؤات من أي منطق عدى المرجعية الدينية “المنسوبة” لها. فعند استغراب والد المزمل نبوءة الموت المبكر وطلب نفيها، أجابه خليفة الشيخ أبو عاقلة في وجوم: “لله الأمر يا أحباب. أمر الله نافذ. والفأل من الله يا جماعة. إنها سنة. والعبد أمام أمر الله ضعيف.” (ص. 20)

وبذلك، نجح حمور زيادة برمزية وحبكة متقنة في نقل تعقيدات الواقع السوداني في قصة قصيرة لا تتعدى 60 صفحة.

ومن تعقيدات هذا الواقع أيضاً العلق في المنتصف بين حكمة الماضي العتيقة وحداثة الحاضر المثبتة. والعلق هنا كناية عن ضياع أغلب المجتمعات العربية بين الاثنين دون استفادة حقيقية من أيّهما. فأغلب حكماء الماضي قد رحلوا أو على قيد الرحيل دون محاولة فعلية لنقل هذه الحكمة للأجيال الجديدة، بينما تبقى أغلب مجتمعاتنا بعيدة عن مقومات الحداثة وخاصة في حال عجزها المادي وقلة أهميتها الاستراتيجية أو السياسية.

تعكس قصة «عندما هاجرت الداية» هذا الصراع بإتقان حيث وقفت قرية كلّرو في المنتصف بين حكمة الداية عرضو قاسي التي قررت الرحيل عن القرية، وتجاهل المسؤولون احتياجهم الطبي. فبعد أربعة وثلاثين عاماً ولّدت فيها الداية كل نساء القرية، واعتنت بهن في فترة نفاسهن، رحلت عرضو.

كان رحيلها بداية النهاية. فلم تستطع أي داية أخرى أن تحل محلّها، وتوفيت النساء أثناء ولادتهن مما دفعهن إلى الامتناع عن رجالهن. وهذا بدوره خلق بيئة من التوتر والحرمان. فقرر وجهاء القرية السفر إلى المدينة، وطلب إرسال طبيب مختص إلى القرية. إلا أن رحلة الوفد فشلت. وانطوى “الجميع على أنفسهم، وخيمت سحابة من التوجس والإحباط على سماء المعاملات بين الأهالي.” (ص. 150) يقرر أهالي القرية أن يعرضوا على الداية العودة إلى القرية، وتنتهي القصة هنا. فهل تعود الداية حقاً؟ هل من أمل يرجى في عودة حكمة الأجداد التي ضيّعناها دون حفظ أو تدوين أو أدنى اهتمام؟

سؤالان بقيا معلقين بعد انتهاء القصة.

الحكمة من الكتاب:

ولأن قصتي المفضلة هي «عندما هاجرت الداية»، وجدت الحكمة في اتباع ما ورثنا منها، فقد تكون العودة إلى الحكمة المتوارثة المنقذ الوحيد لمجتمعاتنا العربية من فجوة الضياع بين أشلاء ماض وآمال مستقبل قد لا تأتي.

اقتباسات من الكتاب:

“كيف يعيش للطاعة من لم يعرف المعصية؟ وكيف يأتي إنسان إلى ربه، وليس معه معصية أو كبيرة؟ هذا تحقير لرحمة الله وعفوه. لا يجوز.” (ص. 33)

“الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.” (ص. 39)

“الدنيا سيئة. ربك لن يغضبه إن أخذنا منها ساعة فرح وفرفشة لأنفسنا. ما هي الدنيا بلا ساعة انبساط؟ في النهاية الدنيا آخرها كوم تراب. وكل شيء زائل، وكل حي للموت. إن ما انبسطنا كيف نقول إننا عشنا؟” (ص. 55)

“بدت السعادة كوجه الله إذا تجلى.” (ص. 71)

“الحرمان أقسى عقوبة يواجهها إنسان. هذه الرغبة إذا لم تجد متنفساً تصعد إلى الدماغ فتؤثر عليه.” (ص. 146)

الختام:

بين واقع مفرط في غرابته وأساطيره ومستقبل قد لا تطاله الأيادي، يقدم حمّور زيادة نقد واقعي وغير مباشر للمجتمع السوداني. يدخل في خصائصه وتفاصيله، ويعرّف القارئ على عالم من السحر والمعاني باقتدار وبلاغة.

قصص قصيرة أجل، ولكنّها مثيرة بالتأكيد.

أحدث التعليقات