الحكمة (27): «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» لأليف شافاك

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (27): «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» لأليف شافاك

أقف اليوم في محطتي السابعة والعشرين: تركيا، حيث قد يكون للعادات والتقاليد وزن المُعتقد والعَقيدة وهو ما نجحت أليف شافاك في إيصاله عبر روايتها «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» التي نشرت طبعتها الأولى دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت في 2016.

كعادتها، تناقش الكاتبة العديد من المسائل المعاصرة بشخصيات تاريخية (وإن لم تكن معتقة في القدم، فأغلب الشخصيات من مواليد منتصف التسعينات)، وتنتقد المنظور الذي يرى العالم على أنه مجموعة من المتناقضات: أبيض أو أسود، جيد أو سيئ، جميل أو قبيح. فالحياة أوسع من الطرفين والمتطرفين والمتيبسين، ومن هذا الموروث المتحجر الذي ينتج أفراداً غير قادرين على خوض الحياة، ولقمة سائغة في فم الأطماع كما هو الحال بالنسبة لليلى تكيلا، بطلة الرواية.

تبدأ الرواية بخبر موت ليلى، ثم تسترجع محطات من حياتها في ثلاثة أجزاء: العقل والجسد والروح. عبر هذه المحطات يتبين أن ليلى ولِدت في عائلة تقليدية ومحافظة في مدينة فان حيث كانت ابنة الزوجة الثانية وتبنّتها الزوجة الأولى ظلماً وافتراءً. وتجدر الإشارة إلى أن التعداد ممنوع في تركيا منذ ذلك الحين، ولكن والديها تزوجا “زوجاّ دينياً غير رسمي، بحيث لا تعترف به المحاكم الدينية.” (ص. 31)

إلا أن حرمانها من العيش في كنف أمّها البيولوجية لم يكن الظلم الأخير الذي سيلحق بها من عائلتها، إذ ستعيش بعدها طفولة تعيسة يتخللها الاغتصاب والتعدي والألم مما دفعها إلى الهرب إلى إسطنبول في عمر السادسة عشر لتقع ضحية عملية نصب أوصلتها إلى الدعارة. باعوها النصابون – كما تباع السلع – إلى شخص غريب ثم إلى غرباء آخرين بعد دفعها إلى تناول الكثير من المشروبات، “حتى لا تتذكر إلا قل القليل.” (ص. 174)

برعت الكاتبة في تصوير القصور الفكري والعقائدي الكبير في عائلة ليلى وتمسكهم بالقشور تعويضاً على هذا القصور. فوالدها – على سبيل المثال – كان بائساً أكثر من كونه مطلعاً على الدين. كان “رجل تناقضات واضحةٍ جداً: فتراه يوماً كريماً ومحسناً على نحو مدهش، وفي يوم آخر مستغرقاً في ذاته، مشوش الفكر إلى حد صارم. ولأنه كان أكبر إخوته، فقد تعين عليه أن يربي أخويه بنفسه على إثر رحيل والديه في حادث سيارة حطم عالمهم. ورسمت تلك المأساة شخصيته، فجعلته يغالي في حماية أسرته والعناية بها، ويرتاب في الغرباء ولا يثق بهم. كان يدرك أحياناً أن شيئاً ما في أعماقه قد انكسر، فتساوره رغبة شديدة في إصلاح ذلك الكسر. غير أن هذه الأفكار لم تتجه به في أي وجهة. فقد كان مولعاً بالمشروبات الكحولية، وإن كان يهاب الدين بالدرجة نفسها. فما إن يحتسي كأساً جديدة من العرق حتى يطلق الوعود الكبيرة لندمائه، ثم يصحو بعد ذلك مثقلاً بالإثم، فيطلق وعوداً أكبر لله. ولئن صعب عليه لجم لسانه، فقد أثبت جسده أنه لا يزال يمثل تحديا أكبر له.” (ص. 30)

تتقاطع حكاية ليلى البائسة مع حكايات شخصيات أخرى، وهم أصدقاؤها الخمسة: نالان وسنان وجميلة وزينب وحُميرة، وزوجها د/علي الشيوعي المتحرر. رجل على ما يكفي من الجنون كي يتحدى كل مقاييس المجتمع، ويتزوج الفتاة التي يحبها. وبينما برعت الكاتبة في بناء جميع الشخصيات، كانت شخصية د/علي الأقرب إلى قلبي وتجربتي. هو الغريب في كل مكان واللا منتمي. التركي الألماني، والألماني التركي. إلا أن هذا السفر الحر بين الثقافتين الألمانية والتركية منحه متسعاً للتحرر والجنون كي يحب ليلى ويقبلها كما هي.

تنتهي الرواية بعد 471 صفحة، وآلام وأوجاع كثيرة تتغلب عليها جميعاً رابطة الصداقة التي تجمع بين الأصدقاء وقبولهم لبعضهم البعض دون أي شروط أو قيود. تقول عنهم الكاتبة في ملاحظتها إلى القارئ: “على الرغم من أن الأصدقاء الخمسة هم من نتاج مخيلتي، فإن شخصياتهم مستوحاة من أشخاص حقيقيين – من أهل البلد، ومن قادمين إليه بعد ذلك، ومن أجانب – كنت قد التقيتهم في إسطنبول. وإذا كانت ليلى وأصدقاؤها شخصيات متخيلة تماماً، فإن الصداقة التي وصفت في هذه الرواية هي، في نظري على الأقل، حقيقية مثل هذه المدينة القديمة، الفاتنة والمضللة.” (ص. 474)

الحكمة من الكتاب:

يمكن الجزم أن الموضوع الرئيسي للرواية هو أهمية الصداقة، وكيف بإمكانها أن تُشفي الجروح العائلية وما يتبعها من خلل، مما دفعني إلى أن أتمنى الحصول على أصدقاء مثل ليلى تكيلا على اختلافهم وجنونهم.

اقتباسات من الكتاب:

“إن البشر يكشفون عن نفاذٍ بالغ في الصبر حينما يتعلق الأمر بالمراحل الفاصلة في حياتهم. فهم أولاً، يفترضون أن الإنسان يصبح على نحو تلقائي زوجاً أو زوجة في اللحظة التي يتفوه فيها بكلمة «أوافق». بيد أن الحقيقة هي أن الزواج يتطلب سنوات طويلة كي يدرك كل منهما كيف يكون زوجاً. وعلى نحو مشابه، يتوقع المجتمع أن تدخل غرائز الأمومة أو الأبوة حيز العمل حالما يُرزق المرء بطفل. والحق أن المرء يصرف وقتاً طويلاً حتى يتبين كيف يصبح أباً أو جداً. كذلك الأمر بخصوص التقاعد والشيخوخة، إذ كيف يمكنك أن تكيف نفسك حالما تغادر الدائرة التي أفنيت فيها نصف عمرك وبددت معظم أحلامك؟ ليس سهلاً.” (ص. 12) 

“بالنسبة إلى ليلى، ليست نهاية العالم أسوأ ما يمكن أن يحدث. وأما احتمال فناء الحضارة، الفوري والمطلق، فإنه لا يبعث فيها نصف الذعر الذي تتسبب به فكرة بسيطة: ليس لموتنا الفردي أي تأثير في نظام الأشياء، وستواصل الحياة مسيرتها كالسابق، بوجودنا أو من دوننا. هذا ما كان يفزع ليلى شديد الفزع.” (ص. 15) 

كانت القابلة طوال سنين عملها قد شاهدت عدداً كبيراً من الأطفال الذين كانوا، قبل ولادتهم بلحظات أو بعد ولادتهم مباشرة، يهابون سطوة الحياة التي تضغط عليهم من كل الجهات، فتخور عزيمتهم ويفتر حماسهم، ثم يرحلون بهدوء من هذا العالم. كان النسا يطلقون على ذلك «القدر»، ولا يسترسلون في الحديث عنه، لأنهم اعتادوا إطلاق أسماء بسيطة على أشياء معقدة تثير هلعهم. إلا أن القابلة كانت تعتقد أن بعض الأطفال لا يمنحون الحياة فرصة المحاولة، وكأنهم يعلمون مشاق الحياة التي تنتظرهم، ومن ثم يرغبون في تجنبها. فهل كانوا جبناء أم حكماء مثل سليمان العظيم نفسه؟ من يدري؟” (ص. 34) 

“لا تخجلي من دموعك أبداً. ابكي، وسيعرف الجميع أنك على قيد الحياة.” (ص. 37) 

“احترموه مثلما يحترم الناس القساة الجبابرة منذ فجر التاريخ – احتراماً يكتنفه قدر كبير من الخوف، ولكن من غير أن يحبوه مقدار ذرة.” (ص. 54) 

“ذات مرة، عمدتا سراً إلى قطع الحبل الذي يربط الحيوان بزريبته، إلا أن الحيوان لم يهرب خلافاً لتوقعاتهما. وبعد أن جال هنا وهناك بحثاً عن عشب طازج، عاد إلى المكان نفسه، إذ وجد الأسر أكثر ألفة من نداء الحرية الغريب.” (ص. 58) 

“في عقل كل إنسان سليم أثر من آثار الجنون، وفي أعماق الجنون تومض بذرة التعقل والاستبصار.” (ص. 72) 

“إن ذاكرة البشر تشبه دائماً معربداً في آخر الليل، احتسى عديدَ الكؤوس من الشراب، فعجزت ذاكرته – رغم صعوبة المحاولة – على اقتفاء آثار خط مستقيم، فبقيت مترنحة وسط متاهة من التقلبات، متنقلة في مسارات تسبب الدوار، غير خاضعة للعقل، معرضة للانهيار كلياً.” (ص. 73) 

“إنه يتعين على المرء أن يكون أرق مع الأحياء من الأموات، لأن الأحياء هم الذين يكافحون من أجل فهم العالم وإيجاد معنى له.” (ص. 115) 

“الخطر، كل الخطر، في أن يصدق المرءُ شخصاً ما.” (ص. 195) 

“الأمل مركب كيمياوي خطير، وقادر على إحداث سلسلة من ردود الأفعال في الروح البشرية.” (ص. 198) 

“في صحراء الحياة، الحمقى فقط هم من يسافرون وحدهم؛ أما العقلاء، فيسافرون أفواجاً.” (ص. 200) 

“في بلد لا تأتي فيه العدالة إلا في وقت لاحق – هذا إن أتت حقاً – كان المواطنون يسعدون بالانتقام لأنفسهم، ويبادلون الأذى بأذى أكبر.” (ص. 284) 

“إن الحزن طائر سنونو. قد يستيقظ المرء من نومه في أحد الأيام ليجد أنه قد رحل. لكنه في الواقع لم يرحل، وإنما هاجر إلى مكان آخر كي يدفئ ريشه، وسيعود عاجلاً أم آجلاً ليتربع على القلب مجدداً.” (ص. 299) 

“القانون قانون في بعض الأحيان فقط، ولكنه في أحيان أخرى – واستناداً إلى الظروف المتوافرة – يصير القانون مفردات جوفاء وعبارات عبثية. والقانون أشبه بمناخل ذات ثقوب تبلغ من الاتساع ما يسمح لكل الأشياء بالمرور من خلالها. إنه أشبه بعلكة فقدت مذاقها منذ زمن بعيد، ولكن لا يمكن التخلص منها. القانون في هذا البلد، وعلى امتداد الشرق الأوسط كله، يمثل كل شيء إلا القانون.” (ص. 381) 

الختام:

جميل هو العالم الذي تخلقه أليف شافاك في أعمالها. نظرتها الإنسانية، عكسها للتفاصيل البسيطة، وقبولها للاختلاف بكل أنواعه يجعل منها من أبرز الكتاب الشرق أوسطيين المعاصرين.

وعلى الرغم من أن هذا العالم يتخلله الوجع والألم والخذلان، إلا أنها تنجح دائماً في إيجاد الجانب المُشرق والعاطفي. الجانب الذي يشع على ظلام تخلف العادات والتقاليد وضيقها وتيبسها.

أحدث التعليقات