الحكمة (29): «القارئ» لبرنهارد شلينك

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (29): «القارئ» لبرنهارد شلينك

أقف اليوم في محطتي التاسعة والعشرين: ألمانيا، حيث يحاول برنهارد شلينك فهم نفسيات العاملين في المعتقلات والسجون النازية عبر الغوص في قصة هانا شميتز في رواية «القارئ». نشرت الطبعة العربية الأولى دار روافد للنشر والتوزيع في القاهرة في 2016، ونقلها إلى العربية تامر فتحي.

غالباً ما تشير أدبيات الحروب إلى مصطلح “التجريد من الإنسانية” أو (Dehumanization)، والذي يمكن تعريفه بـ “الممارسة البلاغية لتشبيه البشر بالحيوانات أو الأشياء الجامدة”، فالمجردون “للبشر من إنسانيتهم لا يفكرون في ضحاياهم على أنهم دون البشر بمعنى ما مجازي أو تناظري فقط. يفكرون فيهم بوصفهم أقل من البشر فعلياً. لم يدع النازيون اليهود بالحشرات فقط. لقد تصوروهم حرفياً على أنهم حشرات لها هيئة بشرية.” (ليفينغستون، 2020)

إن تجريد الآخرين من إنسانيتهم يتحقق إذا ما قطع الشخص صلته الروحانية أو الإنسانية بالآخر، أي ألا يرى في الشخص المقابل امتداداً لذاته الإنسانية وإنّما يراه على أنه كيان مُختلف عنه. كيان “إرهابي” أو “كافر” أو “قذر” أو “منحرف” وغيرها من الوصمات التي تبني حاجزاً بينهما.

يتعمق برنهارد شلينك فيما وراء هذا المصطلح، ليتساءل إذا ما كان القاتل يشعر بإنسانيته من الأساس، ويطرح سؤاله بخفة وبراعة كاتب ماهر ومتمرس، فعوضاً عن طرح هذا السؤال في بداية الرواية مما سيدفع القارئ إلى الحكم على شخصية القاتل منذ السطور الأولى، يخفي الكاتب حقيقة هانا شميتز حتى منتصف الرواية. أمّا نصفها الأول، فخصصه لوصف هانا المعشوقة والمُشتهاة نقلاً عن الراوي العليم، مايكل بيرغ.

عندما بلغ مايكل سن الخامسة عشر، أصيب بالتهاب الكبد مما أقعده في المنزل من فصل الخريف إلى الربيع. وفي أول مرة تجاسر فيها للخروج من المنزل، تقيأ في قارعة الطريق، فأسعفته هانا، البالغة من العمر آنذاك ستة وثلاثون عاماً.

تحسنت حالة مايكل بعد عدة أيام، فعاد إلى هانا محملاً بالورود للتعبير عن امتنانه لمساعدتها. حينها استشعرت هانا نظراته الحارقة وانجذابه نحوها، وهو ما فاق طاقته على التحمل، ودفعه إلى مغادرة منزلها على عجل.

أمّا في لقائهما الثالث، نشأت بينهما علاقة غرامية طقوسها الاستحمام، وممارسة الغرام، والقراءة، إذ كانت تطلب منه أن يقرأ لها دائماً.

وقع مايكل في غرام هانا، ويشير النص في بعض تقاطعاته إلى أن هانا ربّما تعلقت به أيضاً بقدر ما تستطيع امرأة عملية مثلها أن تتعلق بمراهق عاشق.

تختفي هانا بدون سابق إنذار، مما يدفع مايكل إلى الانغلاق على نفسه. يقول معبراً عن ذلك: “أقل بادرة حنان كانت تجلب في حلقي غصة، سواء كانت موجهة لي أو لغيري، وأحياناً مجرد مشهد في فيلم كان يكفي.” (ص. 90-91)

وبعد سبع سنوات تخرّج فيها مايكل من الثانوية، وأثناء دراسته الجامعية للقانون والمحاماة، يقابل هانا مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت متهمة بالتسبب في مقتل مئات النساء اليهوديات عبر إغلاقها، هي وسجّانات أخريات، أبواب كنيسة مهجورة على المئات منهن في حين كان بوسعهن أن يطلقن سراحهن، “لكنهن لم يفعلن ذلك، وحُبست النساء في الكنيسة، واحترقن حتى الموت.” (ص. 109)

وبينما كان مايكل يتابع المحاكمة، اكتشف معنى “الخدر” أول مرة. وهو ذات الشعور الذي لا يكتفي بتجريد الآخرين من إنسانيتهم، وإنّما يجرّد الإنسان نفسه من إنسانيته.

يقول مايكل في وصف هذا الشعور: “على مدار أسابيع المحاكمة، لم أشعر بشيء، مشاعري كانت مخدرة. أحياناً كنتُ ألكزها… كان الأمر مثل يدٍ تقرض ذراعاً مُخدراً بسن محقن. الذراع لا تستطيع أن تميز أنها قرصت بيدٍ، اليدُ تميز أنها تقرصُ الذراع، وقد لا يستطيع العقل في الأول تمييز كل منهما على حدة، لكن وبعد لحظةٍ يميز كلاً منهما بشكل واضح، وقد تكون اليد، التي قرصت الذراع قاسية جداً لدرجة تجعل اللحم يبيض لفترة، ثم يتدفق الدم ثانية، وتستعيد البقعة لونها، غير أن ذلك لا يعيد الإحساس ثانية.

من الذي خدرني؟ هل فعلتُ ذلك بنفسي، لأنه لم يكن بوسعي أن أتدبر أمري دون مخدر؟ لقد عمل المخدر، ليس في غرفة المحكمة فقط، ولم يجعلني فقط أرى هانا كما لو أن من أحبها، وأرغب فيها كان شخصاً آخر، شخصٌ أعرفه جيداً، لكنه ليس أنا. في كل جزءٍ من حياتي، أيضاً، كنتُ أقف خارج نفسي وأراقبها، فرأيت نفسي، وأنا أعملُ في الجامعة، ومع والدي وأخي وأختي وأصدقائي، لكن في داخلي لا أشعر بأنني متورط.” (ص. 102 – 103)

“كل أعمال الناجين الأدبية تتحدث عن هذا الخدر، الذي تقل فيه وظائف الحياةِ إلى أقل معدلاتها، ويصبح السلوك أنانياً تماماً لا يعنى بالآخرين، ويكون إطلاق الغازِ والحرق من الأمور اليومية المعتادة، وفي بعض مرويات الجناة النادرة، أيضاً، تصبح غرف الغاز والأفران مشهداً عادياً، وتقل وظائف الجناة الحيوية إلى أقل معدلاتها، وبدا عليهم شلل ذهني، وبلادة يبدون معها كمتعاطي المخدرات أو المخمورين.” (ص. 104)

بعد وصف الخدر، يعود الكاتب إلى وصف التجريد من الإنسانية في حوار دار بين مايكل وسائق شاحنة. يقول سائق الشاحنة في وصف من عملوا في المعسكرات النازية: “هل تعتقد بأنني أتحدث عن الأوامر والطاعة، وأن الحرس في المعسكرات كانوا خاضعين للأوامر، وعليهم أن ينفذوها؟ … لا، أنا لا أتحدث عن الأوامر والطاعة. الجلاد ليس خاضعاً لأي أمر. إنه يؤدي عمله، ولا يكره الناس الذين يعدمهم، ولا يأخذ ثأره منهم، إنه لا يقتلهم لأنهم عقبة طريقه، أو لأنهم يهددونه أو يهاجمونه. إنهم مجرد أمر غير ذي بال بالنسبة لهم لدرجة أنه بوسعه أن يقتلهم بالسهولة نفسها، التي يمكنه بها ألا يقتلهم.” (ص. 151)

ما يحاول سائق الشاحنة وصفه هو حالة الانقياد التام للظروف بدون أي وعي داخلي. الجلاد “يؤدي عمله” بكل بساطة غير مكترث بموت الناس أو حياتهم. إنها أقصى حالات التجريد من الإنسانية التي تحول الإنسان إلى أداة بعيدة كل البعد عن مشاعره وإنسانيته وتعاطفه.

هكذا كانت هانا، مجرد أداة في يد الظروف بصرف النظر عن عدلها أو ظلمها. فهي “لم يكن بوسعها القراءة ولا الكتابة”. (ص. 132) إنسان غير قادر على معالجة الواقع أو تحليله.

فالأمية “هي التبعية، وبعثورها على الشجاعة لتعلم القراءة والكتابة، تقدمت هانا من التبعية إلى الاستقلال، وهي خطوة ناحية التحرر.” (ص. 184) التحرر من استقلالية الظروف ورحيل الخدر، وهو ما يحدث لهانا في نهاية الرواية إلا أنه يكلّفها غالياً. يكلّفها حياتها.

رحيل الخدر هو حضور الوعي والحضور الآني. ذلك الشعور المفرط بالأشياء والإنسان من حولها، وهو ما عززته عبر قراءتها عن معسكرات الاعتقال، فما كان نتيجة ذلك إلا الانتحار.

تصف مسؤولة السجن ما أصاب هانا مع حلول الوعي فتقول: “لسنوات وسنوات عاشت هنا بالطريقة نفسها، التي كانتَ ستحياها لو كنت في دير، وكأنها انتقلت إلى هنا طواعية، وعن طيب خاطر مخضعة نفسها لنظامنا، كما لو أن العمل الرتيب صار نوعاً من أنواع التأمل. كانت بقية النساء تحترمها كثيراً، وكانت ودودة معهن، ولكن في تحفظ، بل أكثر من ذلك، كانت لها هيبة، وإن سُئلت للإدلاء بنصيحتها عند حدوث المشاكل، وإن تدخلت في نقاش كان قرارها يُقبل، بعد ذلك ومنذ بضع سنوات استسلمت، فقد كانت تعتني دائماً بنفسها بشكل شخصي، وكانت لطيفة، على الرغم من بنيانها القوي، ونظيفة بعناية، إلا أنها مؤخراً بدأت تأكل كثيراً، وقليلاً ما كانت تستحم، إلى أن صارت بدينة وذات رائحة. لم تبد غير سعيدة أو غير راضية. في الحقيقة كان الأمر كما لو أن التراجع إلى داخل الدير ما عاد كافياً، كأن حياة الدير ما زالت اجتماعية جداً ومليئة بالأحاديث، لذا كان عليها أن تنسحب أكثر وأكثر، إلى داخل زنزانة فردية في مأمن من العيون، حيث ما عاد شكل الملبس والروائح يعني شيئاً. لا، إنه من الخطأ القول إنها استسلمت. لقد أعادت تعريف مكانها بطريقة تناسبها، لكنها ما عادت تُبهر بقية النساء.” (ص. 202-203)

أو ربّما هي الحياة، ما عادت تبهرها.

الحكمة من الكتاب:

انطلاقاً من عنوان الرواية، يمكن تلخيص الحكمة الأولى في أهمية القراءة، وخاصة قراءة الأدب، في بناء الوعي الفردي والضمير الحي. أمّا الحكمة الثانية فهي أكثر تعقيداً، إذ يرى برنارد شلينك استحالة الحكم على الآخرين (بما في ذلك الحكم القانوني) دون تجريدهم من إنسانتيهم، وهو المأزق الذي وقع فيه مايكل أثناء محاكمة هانا. يعبر مايكل عن هذا المأزق في قوله: “أردت أن أتفهم جريمة هانا، وأن أدينها في الوقت نفسه، لكنه كان أمراً مريعاً للغاية، ففي الوقت الذي كنتُ أحاول فيه تفهم الجريمة، كان ينتابني إحساس بأنني أخفق في إدانتها، كما ينبغي، وعندما أدينها كما ينبغي، لم يكن هناك مجال للفهم… ولم أتمكن من حل هذا. أردت أن أقوم بكلتا المهمتين، التفهم والإدانة، لكنه كان من المستحيل فعلُ الأمرين.” (ص. 156-157)

الاقتباسات من الكتاب:

“كانت تتهادى في رشاقة وغواية، غواية لا علاقة لها بالنهود والأرداف والسيقان، بل الدعوة للاستكانة داخل الجسد ونسيان العالم.” (ص. 18)

“ما أيام المرض في فترة الطفولة أو البلوغ إلا فاصل زمني من السحر! يكون فيه العالم الخارجي، عالم أوقات الفارغ في باحة البيت أو الحديقة أو في الشارع مجرد همهمة بعيدة عابرة في غرفة المرض، ففي الداخل، يتنامى عالم كامل من الشخصيات والحكايات الخارجة من الكتب، التي قرأها المريض، والحمى، التي تضعف الإدراك وتشحذ الخيال، تحيل عرفة المرض إلى غرفة جديدة، مألوفة وغير مألوفة، تطل فيها الوحوش عير تموجات الستائر والسجاد، وتتجمع الكراسي والطاولات وحقائب الكتب والخزانات في هيئة جبال ومبان، أو سفن قريبة لدرجة اللمس، وبعيدة في الوقت نفسه.” (ص. 20)

“أفكر، وأصل إلى نتيجة، أحيل النتيجة إلى قرار، فاكتشف أن الفعل أمرٌ مختلف تماماً فقد يكون وليد قرار، لكنه ليس بالضرورة كذلك.” (ص. 22)

“أحياناً لا تخلص الذاكرة للسعادة حين تكون النهاية مؤلمة. هل لأن السعادة لا تكون حقيقية إلا لو دامت للأبد؟ أم لأن الأشياء تنتهي دائماً بألم فقط، إذا كانت تحتوي طيلة الوقت بداخلها ألم مدرك أو غير مدرك؟ لكن ما هو ذلك الألم الذي لا يدرك؟” (ص. 40)

“الاستيقاظ من حلم شيء لا يعني بالضرورة أنك استرحت منه، بل يجعلك فقط تعي جيداً فظاعة ما حلمت به، والحقيقة المرعبة، التي لقيتها في الحلم.” (ص. 49)

“ناقشنا في السيمينار منع تطبيق العدالة بأثر رجعي، وهل يكفي أن الفقرة، التي أدين بموجبها حرس معسكرات الاعتقال والمأمورون، كانت موجودة فعلاً في قانون العقوبات وقت ارتكابهم جرائمهم، أم أن السؤال هو كيف كانت القوانين تفسر، وتطبق في الوقت، الذي ارتكبوا فيه جرائمهم، وأنها لم تُطبق عليهم؟ ما هو القانون؟ هل ما يوجد في الكتب، أم ما يطبق بالفعل ويتبعه المجتمع؟ أم أن القانون هو ما يجب تطبيقه واتباعه، سواء كان في الكتب أم لم يكن، وإن كانت الأمور تسير على ما يرام أم لا؟” (ص. 92)

“كانت تكافح كما كانت دائماً تكافح، ليس من أجل أن تظهر ما بوسعها عمله، ولكن لإخفاء ما لم يكن بوسعها عمله. حياةٌ صنعت من إنجازات كانت في الحقيقة ملاذات مضطربة وانتصارات كانت في حقيقتها هزائم مستترة.” (ص. 135)

“حب آبائنا هو الحب الوحيد، الذي لسنا مسؤولين عنه.” (ص. 168)

“حقيقة ما يقوله الواحد تكمن فيما يفعله.” (ص. 172)

“ليس صحيحاً، كما قد يظن الدخلاء، أن بوسع الواحد أن يلاحظ غنى الحياة فقط في الماضي، بينما بوسع الواحد المشاركة في الحاضر. إن عمل التاريخ يعني بناء جسور بين الماضي والحاضر، وملاحظة كلتا الضفتين للنهر، والمشاركة بفعالية في كلا الجنبين.” (ص. 178)

الختام:

رواية «القارئ» لبرنهارد شلينك هي رواية التمرد بامتياز. التمرد على المعروف والمنطق بحثاً عن الإنساني. الإنساني المجرد من حكم المجتمع ومعاييره المتغيرة باستمرار.

انطلاقاً من علاقة مايكل بهانا غير الاعتيادية؛ نظراً لفارق العمر بينهما، وحتى محاولة تفهم وحتى التعاطف مع أحد سجّانين المعتقلات النازية، والتي تسببت في قتل مئات النساء، نجح الكاتب في طرح منظور مغايرٍ جداً للحياة. منظور متمرد من فرط إنسانيته. رواية عاصفة، وليست مجرد رواية!

المصادر:

  1. ديفيد ليفينغستون (27/10/2020) “ماهية الشر: ليس عليك أن تكون وحشاً أو مجنوناً لتجريد الآخرين من إنسانيتهم. يلزم فقط أن تكون إنساناً عادياً”، ترجمة: أزدشير سليمان، موقع حكمة

أحدث التعليقات