الحكمة (30): «حليب سوفييتي» لنورا إكستينا

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (30): «حليب سوفييتي» لنورا إكستينا

أقف اليوم في محطتي الثلاثين: لاتفيا. الدولة التي لم أعلم بوجودها سوى مؤخراً عبر رواية «حليب سوفييتي» لنورا إكستينا، والتي نشرت نسختها العربية دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في سوريا في 2019، ونقلتها إلى العربية ضحوك رقية.

تتداخل الأصوات في داخل الرواية، فقد يجد القارئ نفسه في مواضع كثيرة غير مدرك من الراوي، هل هي الأم المولودة بعد أربع سنوات من سيطرة الاتحاد السوفيتي الثانية على لاتفيا في عام 1944 أم ابنتها المولودة بعد خمس وعشرين سنة، لكنه سرعان ما سيُدرك أن الفرق بينهما شاسع، وسيستنج بسهولة من المتكلم. فالأم سوداوية واقعية، أمّا الفتاة فيملؤها الأمل وحب الحياة أو هكذا هي في بداية الرواية.

من مأساة الخارج إلى مأساة الداخل تبدأ الرواية، وهي تقارن ولادة المرأتين.

في مأساة الخارج، وأثناء تحرر العاصمة اللاتفية، ريغا، من النازيين ووقوعها تحت يد السوفياتيين، تولد الأم في جو ملوث ببقايا الحرب و”أصوات عويل، وصفير قنابل في الجو، وروائح الاحتراق تتسرب من النوافذ.” هرّبتها والدتها من جناح الولادة، وهي تضمّها بقوة إلى صدرها، وترش حليبها على أنفها، فيسيل قيح وحليب ودم من أنفها الصغير، فتتقيأ وتتنفس. (ص. 9)

تستمر المأساة باعتقال والدها، المنحدر من طبقة النبلاء وموته عاجزاً عن مداراة سوداوية الواقع والقمع السوفييتي. تصف الأم موته بأنه كان في “زاوية معتمة؛ لأنه لم يستطع التكيف وابتلاع الذل والعار والخزي والخيبة، مات مرمياً على مزبلة عصرنا. دفن، على الأرجح، في مقبرة جماعية للمشردين في ضواحي المدينة.” (ص. 15)

يزيد من عمق المأساة الازدواجية التي عاشها الشعب اللاتفي في أثناء فترة الحكم السوفييتي، والتي تطورت في داخل الأم في أثناء عيشها حياة مزدوجة، جزء منها يحمل الأعلام في المسيرات تكريماً للجيش الأحمر وللثورة الشيوعية، والآخر ينتظر الجيش الإنجليزي ليأتي ويحرر لاتفيا من الحذاء العسكري الروسي. وبعدما أدت دورها المنافق بنجاح وشرف “أصبحت مولعة بالكتب وانطوائية.” (ص. 20)

ولعل ما يزيد حدة المأساة غياب أي سبل روحانية من شأنها أن تمنح هذه الحياة أو المأساة أي معنى. فلقد عُزلوا عن العالم، وقدّر لهم أن يحيوا حالة السائرين نياماً، وحكم عليهم أن يسموها حياة. ووجدت الأم نفسها في قلب هذه السرنمة، تعزز اللا معنى يوماً بعد يوم، وتكرسه مثل عامة الشعب. (ص. 63) وحتى عندما حاولت الأم البحث عن معنى ينقذها من هذه العبثية، كان ذلك ممنوعاً، فيسوع محظور، وكان عليها “الإيمان عوضاً عنه بـ (أرض اللوتس) الحقيقية؛ أي: بالشيوعية.” (ص. 37)

وصلت الأم إلى حالة الاختناق. إلى حالة اليأس القصوى من الحياة، وحاولت الانتحار. وهكذا انتقلت المأساة من الخارج إلى الداخل بنجاح!

في مأساة الداخل، تختفي الأم بعد ولادة ابنتها رافضةً إرضاعها. فبعد تجسيدها المأساة شخصياً، تدرك الأم “أن حليبها سوف يضر طفلتها أكثر مما ينفعها”، فهو “حليب عدم فهم، أو حليب هلاك.” (ص. 8 و29)

كانت مشكلة الأم الكبرى تتمثل في سوداوية الواقع وقمعه وظلمه، بينما كانت الأم هي مأساة الابنة، وهو ما تعبر عنه في قولها: “لم أخف من العم سام، أو من الحرب النووية، خفت من أمي: بدا أن قوة شيطانية تتلبسها في بعض الأحيان، وترغمها على تدمير كل شيء حولها، خاصة حب أعز الناس على قلبها… كانت تحبس نفسها في الحمام، وتنتحب، فيما أقف أنا عاجزة عند نهاية الممر. ترجف نحيبها عظامي الصغيرة، فمعاناتها لا نهائية وغير مفهومة، تتذمر من ظلم القدر، ومن تعاسة الحياة غير القابلة للتفسير.” (ص. 13)

تحاول الابنة، رغم قلة حيلتها وسنوات عمرها القليلة، أن تنتشل والدتها من بؤسها، وتعبر عن ذلك بقولها: “بدا لي أنني أحاول وصل أمي بالحياة منذ ولادتي؛ بكوني رضيعة عاجزة، وبكوني طفلة محدودة الفهم، وبكوني مراهقة خائفة، وبكوني شابة. وبدا أنها تسعى دائماً لإطفاء نور حياتها؛ لذلك اختلفنا، ووصلنا دائماً إلى طريق مسدود. مع أن الضوء سينطفئ ذات يوم إلى الأبد.” (ص. 159)

وهو ما تطفئه الأم في نهاية الرواية، على الرغم من وشوك خروج لاتفيا من الاتحاد السوفييتي، إلا أنّها رفضت هذه الحرية الوشيكة (ص. 159) أو بالأصح رفضت أمل تصديق حدوثها، فخيانة الأمل قاتلة!

أمّا الابنة، فتحلم في نهاية الرواية أنّها قد تذوقت حليب أمّها أخيراً. رضعت، وشربت، وشربت حتى ارتوت “من صدر أمّها الناعم الدافئ.” (ص. 149) وهو ما يترافق مع وعيها بظلم النظام السوفييتي وبداية ثورتها عليه، مما يرمز إلى أن “الهلاك” وصلها رغماً عن محاولات أمّها لحمياتها منه.

الحكمة من الكتاب:

أحياناً نحتاج إلى مواجهة أسوأ مخاوفنا أو القراءة عنها، حتى نتمكن من تجاوزها، وهذه هي الحكمة الوحيدة التي تمكنت من استخراجها من رواية «حليب سوفييتي» لنورا إكستينا، على الرغم من تأثري الكبير بها.

فعبر عرض مدى تأثير المأساة الخارجية على الداخلي، والذي أوصل الأم إلى الانتحار في نهاية الرواية، ترسم الكاتبة صورة واضحة لما يحدث للأشخاص في ظل الظلم والسلطة الشمولية وخاصةً عندما يستسلمون لبؤسها، ويفقدون الرغبة في تحدي هذه الظروف أو التحلي بالأمل.

اقتباسات من الكتاب:

“هنا كانت الحقيقة برمتها، حقيقة المخلوق التعس المنافق الذي ندعوه الإنسان: فوضى الأوعية الدموية، والتفافات الأمعاء، والغدد، والخصى، والأرحام. كان الموت – ضمن هذا المفهوم – مجرد نقطة توقف عرضية، لا مفر منها.” (ص. 20)

“من أجل حل لغز الحياة، عليك استخدام لغز الموت بكونه المرشد.” (ص. 22)

“لا شيء حقيقي هنا، لا في الشوارع ولا في المقاهي. مجرد حياة مثيرة للشفقة في كل مكان. الجميع يتظاهرون بالحياة في كل مكان، هذه ليست حياة.” (ص. 47)

“لكن، كيف تعرفين أنك لا تعرفين؟” (ص. 85)

“يجب تقبل الظروف والتعامل معها وفق ما لدينا. إننا مرهقون من حمل الأعباء الثقيلة. علينا قبول كل شيء بتواضع … بعد ذلك نستعيد قوانا الروحية.” (ص. 143)

“كل ما تحتاجين إليه هو الرغبة في الحياة يا ماما. الرغبة في أن تعيشي، وكل شيء سيكون على ما يرام.” (ص. 108)

الختام:

لست أذكر كتاباً عذبني بقدر رواية «حليب سوفييتي» لنورا إكستينا، رواية قرأتها بأدمعي وذكرياتي. كل ما فيها يذكرني أو يقودني إلى حادث عشته أو مشاعر عاشتني ولكأنني اقرأ هواجسي في رواية.
دفعتني الرواية إلى سؤال في غاية السوداوية، وهو: في حال كان الانتحار غير محرم، فكم من الأشخاص في عالمنا سيقدمون عليه؟
ولعل الوجه الآخر لهذا السؤال هو: كم من الأشخاص يعيشون هذه الحياة فقط لأنهم غير قادرين على الخروج منها بعدما استسلموا للمأساة؟ يعيشونها دون رغبة حقيقية في عيشها، دون روابط حقيقية مع تفاصيلها وتجلياتها المبهرة؟
والسؤال الأصعب هنا هو: كم من هؤلاء أصبحوا آباء وأمهات؟
أسئلة صعبة وموجعة خلّفتها الرواية في ذهني.

أحدث التعليقات