الحكمة (31): «حيرة العائد» لمحمود درويش

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (31): «حيرة العائد» لمحمود درويش

أقف اليوم في محطتي الواحدة والثلاثين: فلسطين. أرض الزيتون والحنين. أرض أسطورة الشعر التي نجحت في تحويل الخيال إلى معنى وكلمات. أرض شاعر القضية الفلسطينية والإنسانية بلا منازل: محمود درويش.

كل من قرأ شعر محمود درويش، وانتشى بالمعنى والبلاغة المُتقنة، سيغرق مؤكداً في امتدادات نصه النثري وما يثيره في الروح والنفس. سطران أو فقرتان أو صفحتان فقط كفيلة بأن تفجر في داخلك شلالات من المعنى والكلمات. هكذا عرفتُ درويش دائماً معدياً في الإحساس والتعبير.

هكذا كانت تجربتي مع مجموعته النثرية الفريدة «حيرةُ العائد» التي نشرت طبعتها الأولى الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عام 2016 في رام الله. يحتوي الكتاب على 25 مقالاً نثرياً. إلا أنني أفضل أن أسميها لآلِئُ نثرية. فدرويش لا يكتب المقالة. درويش لا يكتب الجمود والموضوعية. درويش يكتب الموسيقى في حركتها وفنّها وتحررها من رتابة الواقع والمتكرر.

تنتمي اللآلئ إلى ثلاثة فصول كما يلي: (1) هنا/ هناك… الآن، (2) أكثر من وداع، و(3) ولادة الشعر العسيرة. بعض اللآلئ كانت كلمات ألقاها في مناسبات مختلفة، منها على سبيل المثال: (كما لو نودي بشاعر أن انهض) التي كتبها في ذكرى محمود عدوان و(ياسر عرفات: فاجأنا بأنه لم يفاجئنا) التي كتبها يوم رحيل ياسر عرفات.

وكما توحي عناوين الفصول، تفرّد كل واحد منها بموضوع مختلف عن الآخر. فكان الفصل الأول (هنا/ هناك… الآن) في وصف حيرة العائد إلى وطن مُقسم وخريطة مٌستحدثة بعد اثنتي عشرة سنة قضتها منظمة التحرير الفلسطينية في تونس إبان خروجها من لبنان في 1982، إلا أن القلم الكوني الذي تميز به محمود درويش يكسر الحد الفاصل بين الشخصي (القضية الفلسطينية) والعام (التجربة الإنسانية).

فتساؤلات درويش الملحة عن الهوية والذات والوطن نطرحها جميعاً على أنفسنا في عصر اختلطت في التعريفات والمصطلحات، وأصبحنا ننتمي فيه إلى أراض لا تعنينا، وتعنينا أراض لا ننتمي إليها. أليست هذه هي مشكلة الإنسان المُعاصر؟ مشكلة اقتران الوجود الإنساني بورقة تحدد من يكون، بل تحدد أيضاً المتوقع من شكله الخارجي وطريقة تصرفه وكلامه، وحتى طعامه.

أمّا الفصل الثاني (أكثر من وداع)، فهو مجموعة من النعايا والكلمات التي كتبها في ذكرى شعراء وشخصيات فلسطينية منها على سبيل المثال لا الحصر: توفيق زيادة، إميل حبيبي، إبراهيم أبو لغد، وفدوى طوقان.

يتفرد محمود درويش في الجزء الأخير (ولادة الشعر العسيرة) بالكتابة عن غيره من الشعراء المعاصرين مثل بدر شاكر السياب ونزار قباني.

آه يا درويش. أي ملائكة شعرية أنتَ نزلت على سطح هذا الكوكب، حتى تخفف من شجن الإنسان بكلمات ستبقى منقوشة إلى الأبد في مخيلتنا العربية والكونية! أن تكتب على منافسيك، وتشكرهم وتتغزل بهم، أليست هذه هي القداسة في أجمل تجلياتها؟ أليس هذا هو العطاء في أرقى امتداداته؟

هذا الوسع الكوني غير المحدود هو السبب وراء عبقرية درويش. هذا التحرر من الذاتي والمحلي، هو ما فتح له أبواب النجاح الكوني؛ هو الذي أدرك حقائق كثيرة لا يزال المنظرون من علماء الاجتماع والمؤرخين والباحثين يسعون وراءها، ولا يلحقون عليها بينما تثقل عليهم أناهم المتضخمة وغرورهم العظيم.

الأنا: لعنة الشاعر وتحديه الأكبر والسؤال الأكثر إلحاحاً الذي يطرحه درويش في آخر الكتاب بمهارته الشاعرية المعتادة:

“كيف للشاعر أن يتقن الرحلة من داخله إلى خارجه، ومن خارجه إلى داخله، دون أن يغرق في (أناه) ودون أن يفقدها، بتحويلها إلى ناطقة باسم الجماعة، وكيف يحميها من قصدية التمثيل؟

لعل مصدر الشعر واحد، هو هويتنا الإنسانية، من ماضي غربتها على هذه الأرض إلى حاضره المغترب. لقد وُلد الشعر من أولى أسئلة الدهشة عن وجودنا، من ذلك البعيد الذي تساءل فيه طفلنا الإنساني عن أسرار وجوده الأولى. من هنا لم تكن العالمية، منذ البداية، إلا محلية.

في سياق السفر الواحد من الذات إلى العالم، في هذا السياق المتعدد اللغات والمناطق ودرجات التطور التاريخ، تتوحد التجربة الشعرية الإنسانية، وتحقق (عولمتها) الخاصة بها، متحررة من هيمنة المركز وتبعية الطرف، بإسهام كُلّ محلية شعرية في صوغ ما نسميه الشعر العالمي.

لكن، لا بُد للجهات من تسميات على ما يبدو. فماذا يعني أن أقول إن شعري قادم من الجنوب، من شرط تاريخي لم تتحقق فيه حرية الفرد، ولا تحرر الجماعة، ومن بلد انكسرت فيه العلاقة بين المكان والزمان، وتحول فيه الكائن إلى شبح؟ إن ذلك لا يرمي إلى أكثر من الإشارة إلى مأزق الحداثة الشعرية العربية، على طريق الرحلة من القبيلة التي اندثرت خيامها إلى المدينة التي لم تنشأ بعد. ماذا تفعل الحداثة في مجتمعات عربية تعيش مرحلة ما قبل الحداثة؟ من الطبيعي أن تبقى هامشية ومجازية. ومن الطبيعي أيضاً أن تتشظى إلى حداثات لا يجمعها غير الشكل.” (ص. 157)

الحكمة من الكتاب:

هكذا هو كتاب «حيرة العائد» ملغمٌ بمعاني كونية، وإن كانت في سياق الدفاع عن فوضى العودة. معاني درويشية بامتياز تتمرد على الانصياع والانقياد وراء العادي والطبيعي. فمن هذه اللآلئ يتساءل محمود درويش إذا كان في الوسع “أن تكون طبيعياً في واقع غير طبيعي؟” (ص. 15) ثم يجيب بالتأكيد أن: “ما علينا إلا أن نكون كما نريد لنا أن نكون!” (ص. 21)

اقتباسات من الكتاب:

“كيف نشفى من حب تونس؟ كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس؟ لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند المسح ما لم نر في أي مكان آخر. ولذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر.  نقفز من حضنها إلى موطئ القدم الأول، في ساحة الوطن الخلفية، بعدما تجلت لنا فيها، في البشر والشجر والحجر صور أرواحنا المعلقة كعاملات النحل على أزهار السياج البعيد. في هذا الوداع، نحبك يا تونس أكثر مما كنا نعرف، نرسِّب في صمت الوداع الحزين شفافية تجرح ونصفي كثافة مركزة إلى حد العتمة التي تحل بالعشاق. ما أجمل الأسرار الكامنة وراء الباب الموارب، وراء بابك وهو المساحة المثالية لتعامل الشاعر الحاذق مع العناصر التبادلية للقصيدة. فهل نقول لك شكراً؟ لم أسمع عاشقين يقولان شكراً. ولكن شكراً لكِ؛ لأنكِ أنتِ من أنتِ. حافظي على نفسك يا تونس. سنلتقي غداً على أرض أختك: فلسطين.  هل نسينا شيئاً ورائنا! نعم، نسينا تلفت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركان شهداءنا الذين نوصيك بهم خيراً.” (ص. 12)

“لا أحد يعود. لا أحد يعود تماماً إلى من كانه، وإلى ما كان فيه. لا أحد يعود إلا جماعة أو مجازاً. ومجازاً عدنا. فنحن في حاجة رمزية إلى تحميل عودة الأفراد بمدلولات عامة، فلعل ربيعاً ما، حقيقياً أو متخيلاً، يندلع من جناح سنونوة واحدة.” (ص. 24)

“لا شيء في حياتنا جدير بأن يكرم سوى حقنا في حياتنا ذاتها. حياتنا التي كدنا أن ننساها في زحام البحث عن معنى خارجها.” (ص. 24)

“لا نريد أن نكون أبطالاً أكثر، ولا نريد أن نكون ضحايا أكثر، لا نريد أكثر من أن نكون بشراً عاديين.” (ص. 27-28)

“محرجٌ، لأني لا أقوى على النظر في ماضيّ الذي يوبخني قائلاً: أين كنت؟ دون أن تغرورق اللغة بدمعها السري.” (ص. 29)

“إغواء الشعر فينا يحث السائر الحالم على ابتكار جهاته، بذكاء القلب وطيشه، متوهماً أن طريقه هي خطاه، وأن الطريق المعبد ليس طريق الحالمين.” (ص. 30)

“ما من شيء غير الخيال بقادر على إعادة تركيب الزمن المُنكسر، أما الواقع، فهو كالتاريخ، من صنع إرادة البشر القادرين على وضع الزمان الصحيح في المكان الصحيح.” (ص. 31)

“شعوري بالعنفوان هنا أقوى من شعوري بالقنوط، وبالخشية من سقوط المعنى في البراغماتية المبتذلة السائدة.” (ص. 33)

“الماضي لا يصلح للإقامة الدائمة، بل لزيارة ضرورية، نحاكم خلالها أفعالنا، ونجس ما في الزمن من تاريخ، ونسأل: هل كنا جديرين بأحلامنا الأولى؟” (ص. 35)

“كان الكتاب يتغذى من القوة، وكانت القوة في حاجة إلى كتاب.” (ص. 38)

“-ولكنك القوي. القادر، السجان، فلماذا تنازع الضحية على مكانتها؟ – لأبرر أفعالي، لأكون على حق دائم، لأصل إلى مرتبة القداسة، ولأنجو من داء الندم.” (ص. 42)

“لكن المسافة بين المنفى الداخلي والخارجي لم تكن مرئية تماماً. كانت مجازية ما دامت هذه البلاد، معنى، أكبر من مكانها. وفي المنفى الخارجي أدركت كم أنا قريب من بعيد معاكس، كم أن هناك كانت هنا. لم يعد أي شيء شخصياً من فرط ما يُحيل إلى العام. ولم يعد أي شيء عاماً من فرط ما يمس الشخص.” (ص. 44)

“لا تحتاج البلاغة إلى أكثر من زيارة مصدرها الأول، لتدرك كم أنهكتها جماليات الحزن على واقع، أدى بها الإفراط في وصفه الواقعي، إلى الإحباط من جهة، وأدى بها التأمل العميق في حركته إلى إحياء الأمل، من جهة ثانية. ومنذ البدء، لم يكن للقول من معنى إلا إذا كان حافزاً للفعل.” (ص. 47)

“بمرور الزمن، تعلمنا أن تحرر الإرادة شرطاً لتحرير الأرض. وأن في أعماق كل شعب طاقة روحية قادرة على ابتكار بلاغتها الوطنية التي تتلاءم مع الظرف الخاص والمحدد.” (ص. 48)

“لعل بعض الانتصارات أخطر على البعض من الهزيمة، لأنه يعفيه من ضرورة الإصغاء إلى صوت الزمن.” (ص. 50)

“ماذا لو انتصر الكائن البشري على حماقته؟ إنه بداية الرشد، ومقدمة واعدة بعقد السلام مع الذات.” (ص. 52)

“لا هوية تحيا من ذاتها المنغلقة على ذاتها وعلى ثباتها.” (ص. 57)

“ولكن الشاعر، يعمل وحده بلا علماء آثار وأجناس ومؤرخين وخرّاس. يعمل وحده، بقليل من العشب اليابس والملح والغيوم، لا ليجعل المستقبل القريب أقل بعداً فقط، ولا ليجعل الماضي البعيد أكثر قرباً أيضاً، بل ليتمكن مما هو أبسط: ليتمكن من إعادة سقف عالمه الشخصي المنهار بين يديه إلى ارتفاع الشجر، مشيراً بطريقته الخاصة على أن وجوده ما زال موجوداً، وإلى أنه هو الذي يعبر عن ذاته، لا شخص آخر يحتلها برضاه!” (ص. 59-60)

“هل هنالك ما هو أوضح من أن تكون المرأة امرأة؟ وهل هنالك ما هو أصعب من أن تكتب الأنثى أنوثتها في مجتمع ذكوري الثقافة؟” (ص. 75-76)

“جمالية الشعر تأتي من طريقة الخاصة في التعامل مع الواقع العيني، وتحويله إلى واقع لغوي مجازي.” (ص. 78)

“الحياة لا توهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتعاش. وتعاش بكاملها، وتلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز.” (ص. 84)

“أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جندي أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، إلى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت إلى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.” (ص. 85)

“لكن الأسطورة في حاجة إلى واقع، فهل سينجح الأسطوري في امتحان العمل على أرض الواقع؟” (ص. 88)

“لن نعتذر عن حلم جميل، مهما ارتدى من أقنعة الفجر الكاذب.” (ص. 99)

“لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!” (ص. 105)

“ماذا على الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرةً لانتمائه إلى الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟” (ص. 105)

“هو الآن، في غيابه، أقل موتاً منا، وأكثر منا حياة!” (ص. 107)

“هل قدر للجماليات أن تبقى أسيرة التراجيديات؟ (ص. 111)

“اللغة التي ورثناها، بلا انتظام، قد بلغت حد الإشباع في وصف ما لا يقترب من وصف حالتنا الجديدة. ولكنها هي، تلك اللغة، ما يُشير إلى هويتنا وإلى شكل وجودنا ونسيجه. وفيها، لا في الواقع الطارئ، نعثر على دفاع الجسد عن الروح، وعن حاجة الروح إلى الجسد.” (ص. 120)

“على أرض الأسطورة المهددة بالسقوط، لنقنع أنفسنا مرة أخرى بجدوى هذا العبث الجميل، وبأن الشعر مازال ضرورياً ومازال ممكناً، ولنجدد إقامتنا على الأرض: أرض اللغة، ولغة الحلم.” (ص. 124)

“في شعرنا العربي، إذاً، ما زال هناك الكثير مما لا يُقال، ما دام هذا آتيا من سياق بعيدنا الذي آن للغتنا، ذات الجماليات الفذة، أن تهيئه لاستقبال حداثة لا نشارك في صوغ منظومتها الكونية، ونكتفي باستهلاكها كسائر المواد الأخرى.” (ص. 127)

“هنالك حسد طيب تجاه مكانة الشاعر العربي المعاصر في مجتمعه. تلك المكانة التي شكلت صورتها من زمن مضى تحتاج الآن إلى مراجعة وتدقيق. فهل ما زال العرب حقاً هم شعب الشعر، لأنهم لا يملكون من القوة إلا قوة اللغة؟ إن مكانة الشعر العربي الحالية في تراجع أيضاً، في تراجع صحي ومرضي معاً، بما فرض إيقاع الزمن العالمي الحديث انقلاباً عربياً في النظرة إلى الشعر، وإلى نظام المعنى… حيث لم يعد مفهوم (الشاعر) ترجمة حرفية للمعنى العربي (العارف)، وحيث تبدل مفهوم البطل، أمام إلحاح الرؤية الحديثة، لمصلحة الهامشي، العبثي، أو اليومي العادي البسيط.” (ص. 130)

“الشعر لا يتحقق إلا بعد أن يحول الشاعر (ما هو عام) إلى شخصي، ولأن الشعر يحول، فور تحققه، كل ما هو شخصي إلى (عام)، فإن في وسع الشاعر أن يعترف دائماً بأنه لا يعرف كيف فعل ذلك أثناء الكتابة.” (ص. 141)

“الشعر دائماً هو ما لا نعرفه، هو القادم المجهول. ولعل أسوأ تعريف للشعر هو أن يعرف، فالمعرف ممتلك. ولعل أجمل الشعر هو ما يغير مفهومنا عن الشعر.” (ص. 143)

“كم من بلد أحببناه، دون أن نعرفه، لأننا أحببنا أدبه!” (ص. 149)

“الزمن يعلمني الحكمة، بينما يعلمني التاريخ السخرية.” (ص. 154)

الختام:

عندما يكتُب محمود درويش، فهو لا يتفاعل مع القلم والورقة فقط، وإنّما يخلق وجوداً مغايراً يسعدني تسميته بـ “الواقع الدرويشي”. إنه يبني عالماً ذهبياً المعنى وماسيّ المفردات، فتأخذك صورته الشعرية إلى ما وراء ذاتك اليومية المكررة إلى أسطورة الكلمات إن هي رقصت تفرداً وتميزاً.

هذا ما تتميز به كل كتابات محمود درويش، وخاصة مجموعته النثرية «حيرة العائد».

أحدث التعليقات