الحكمة (34): «ذات يوم كنا حبيبين» لهوانغ سوك-يونغ

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (34): «ذات يوم كنا حبيبين» لهوانغ سوك-يونغ

أقف اليوم في محطتي الرابعة والثلاثين: كوريا الجنوبية، وتحديداً من إحدى عشوائيات مدينة يونغسان الصغيرة. من حي هولو موون حيث عمل معظم قاطنيه “إما في أكشاك صغيرة على الطريق الرئيسي المعبد حديثاً، وإما في وظائف حكومية، أو في المدرسة أو البلدية. أما أولئك الذين قطنوا في المنازل الجميلة ذات الطراز الكوري التقليدي التي تميزت بأفنيتها الكبيرة، فقد امتلكوا جميع الأراضي الزراعية في البلاد.” (ص. 6)

يقدم هوانغ سوك-يونغ نظرة بانورامية عن الأجيال الكورية التي ولدت في أعقاب الاحتلال الياباني (1910-1945) والحرب الكورية (1950-1953) في رواية «ذات يوم كنا حبيبين» التي نشرت طبعتها الأولى الدار العربية للعلوم ناشرون في 2019 في بيروت، ونقلها إلى العربية ماجد حامد.

إنه لمن المؤسف تبني المترجم أو الناشر اسم مختلف تماماً عن الاسم الأصلي للعمل الذي أجد فيه رمزية كبيرة منبثقة عن جوهر العمل الأدبي. إذ يشير العنوان الأصلي للرواية باللغة الكورية (해질 무렵) إلى الغروب، فهل هو غروب شمس بطل الرواية، بارك مينوو، أم غروب حي هولو موون بأكمله أم تراه غروب الإنسانية عن المجتمع الكوري الحديث؟ سؤال يبقى معلقاً في ذهن القارئ بعد الانتهاء من قراءة الرواية.

في بادئ الأمر، خيّل إلي أن الرواية عن الأحياء العشوائية الكورية، وما يواجه قاطنيها من تحديات ومصاعب في سبيل العيش الكريم أو صعود السلم الاجتماعي، ولكن ما تبين لي لاحقاً هو أن عشوائية هذه الأحياء ما هي إلا رمز لعشوائية الإنسان غير الغربي في ظل حداثة غربية غريبة عنه ومستهجنة. عشوائية تجعل هذه الحداثة نسخة زائفة غير حقيقية تخلق بدورها مجتمعات مزيفة ظاهرها حداثي، وباطنها متجذراً في فساده وتشوهه. ويتقن بطل الرواية وصف هذه المفارقة في قوله: “اكتشفت أن جحيمنا الصغير هذا ما هو إلا نسخة مصغرة عن العالم الخارجي.” (ص. 66)

أتقن هوانغ سوك-يونغ بناء جميع مكونات المجتمع الكوري بما في ذلك الهندسة المعمارية المحلية التي اتخذت جزءاً غير هين من الرواية؛ بل في مواضع كثيرة، قد ترمز الهندسة المعمارية إلى التجربة البشرية ككل. فعلى سبيل المثال، يقول أحد أصدقاء الشخصية الرئيسية: “كانت الهندسة المعمارية الكورية خلال الحقبة الاستعمارية بمثابة نسخة من الحداثة الزائفة التي استمدتها اليابان من أوروبا. هذا واضح في مبنى سيوول كابيتول ومحطة سيوول. بعد الحرب مباشرة، وبسبب قلة الأموال ومواد البناء، أنشئت هياكل مؤقتة على أنقاض المدينة، وتوجب إعادة بناء هذه الهياكل بعد عقد تقريباً. خلفت المنازل المصممة للطبقة العالمة ومدن الأكواخ طرقاً وأزقة جديدة لا تعد ولا تحصى. عندما بدأت الظروف بالتحسن، جرت إعادة تفسير للعمارة التقليدية، وتطبيق الألوان التقليدية الخشبية للهندسة المعمارية على الخرسانة بدلاً من ذلك. لقد اعتبرنا أن ذلك يقع على عاتق الجيل التالي، لأن جيلنا ركز جهوده على إعادة تطوير الأحياء الفقيرة وإنشاء جبال خرسانية مغطاة بشقق صندوقية الشكل. لكننا دفعنا ثمناً باهظاً لذلك؛ قدنا جيراننا إلى فضاء من الرغبة المشوهة. العمارة ليست تدميراً للذاكرة، بل هي إعادة الهيكلة الدقيقة لحياة الناس على رأس هذه الذكريات. لقد فشلنا بالفعل في تحقيق هذا الحلم.” (ص. 85-86)

ويمكن تطبيق الملاحظات ذاتها على جميع جوانب المجتمع الكوري، وما أصابه من الحداثة وما بعدها. فبينما هدمت الحداثة التي أتت بها اليابان من أوروبا الخصائص العضوية للمجتمع، شهدت حقبة ما بعد الحداثة محاولة إعادة تفسير للخصائص التقليدية للمجتمع الكوري، وتطبيقها على “الخرسانة”، وهو ما باء بالفشل. فالعمارة كما اقترحها الصديق، وغيرها من النشاطات الإنسانية، يجدر ألا تدمر الذاكرة، وإنما تعيد الهيكلة الدقيقة لحياة الناس على رأس هذه الذكريات، وهو بالفعل ما فشل المجتمع الكوري في تحقيقه.

يبلغ هذا الفشل ذروته عند انتحار مينوو، الذي يشارك بطل الرواية في الاسم ويعقبه بجيل، ولربما سعى الكاتب عبر استنساخ الاسم إلى الإشارة إلى الإنسان الكوري عبر الأجيال، وليس إلى شخصية أو تجربة فردية بعينها.

امتداداً للروح الحداثوية، تلخصت أهداف مينوو البطل في تحقيق أهداف مادية وصعود السلم الاجتماعي، وهو ما نجح في تحقيقه، ولكن هذا النجاح لم يعد عليه بالسعادة المتوقعة، وهو ما يعبر عنه في قوله: “كان الهروب من فقر ذلك الحي المنحدر وعيش حياة مختلفة تماماً معجزة بحد ذاتها لا يسعك سوى أن تشعر ببعض الضيق في داخلك بعد أن يحصل هذا.” (ص. 128) وبينما تميزت الحداثة بماديتها، فإنها مهدت الطريق بضيقها إلى ما بعدها، إلى حقبة العدمية واللا معنى. جسدت حياة مينوو الشاب أقصى هذه التجليات، بدءاً من سواد قميصه، وتشذرم وقته ومجهوده بين مختلف الوظائف البسيطة بعيداً عن تخصصه لأنه تخرج من جامعة صغيرة وغير مرموقة، وحتى علاقته العبثية بجونغ ووهي التي كان يجدر بها أن تكون حباً، ولكنها لم تكن.

سواء في مجتمعات الحداثة، أو ما بعدها، كانت العلاقات الإنسانية الخاسر الأكبر، فقد تشتت العائلات وتفرق الأحبة، ولم يعد للعواطف الإنسانية من مغزى أو معنى، وهو ما يلخصه فشل جميع العلاقات الغرامية في الرواية.

الحكمة من الكتاب:

تتلخص الحكمة من هذه الرواية في عبارة بسيطة، قالتها والدة مينوو الشاب لجونغ ووهيي. عبارة تتحدى عبثية الحداثة وما بعدها، وتعيد إلى الإنسان بعضاً من إنسانيته. قالت لها: “كان عليكِ أن تحبيه.” (ص. 145) أجد في هذه العبارة معنى عظيم، فالتعاطف والحب والمشاعر الإنسانية بتنوعها بوسعها أن تقينا التبلد والعدمية واللا معنى، وربّما تحمينا من الاكتئاب والانتحار أيضاً.

اقتباسات من الكتاب:

“يختلف تعريف النجاح من شخص إلى آخر.” (ص. 22)

“أتعلمون ما الذي قاله بوذا: (تستغرق عجلة الحياة مئة عام لتكمل دورتها.) ما يعني أن أحد منا لن يفهم كل شيء حتى يحين وقت نزوله. بعد مضي مئة عام، سيكون معظم الناس هنا قد رحلوا. وسيكون العالم مليئاً بأناس جدد.” (ص. 23)

“يظن الجميع أنه من الجيد أن تكون معمارياً، لأن أبنيتك ستظل منتصبة زمناً طويلاً بعد رحيلك، ولمعلوماتك فمن الممكن أن تترك لتصبح قبيحة.” (ص. 23)

“حين أفكر فعلاً فيما يعنيه أن تحب كائناً بصدق، أن تصرخ فيه وتقلق عليه وتعتني به، أن تبقيه قريباً وتبقى يقظاً تجاهه، حتى تضجر منه وتكرهه وتشعر بضيق منه، لتعود وتداعبه مرة أخرى، وليزداد حبك له بطريقة تجعلك عاجزاً عن التخلي عنه، أشعر أنني لا أستطيع التنفس.” (ص. 37)

“كان تكوين المعارف أمراً سهلاً، فكل ما عليك فعله هو الاستماع بعمق إلى ما يقوله الشخص صاحب النفوذ، ثم تكرار ما قاله لتوه، لكن باستخدام كلمات أخرى، لتريه بشكل غير مباشر أنك توافقه الرأي.” (ص. 82)

“بينما تنشغل بمطاردة أحلامك، تنبثق الحقيقة لتتحول إلى حلم آخر وتختفي.” (ص. 84)

“إنني أشعر بالوحدة فجأة وبشكل عارم تماماً كما يشعر المرء بالجوع فجأة وبشكل عارم.” (ص. 88)

“كما يحدث عادة ومع شفاء كل الجراح الصغيرة يبقى موضع ما مؤلماً.” (ص. 102)

“كل ما عليك فعله هو الوقوع في حب أحدهم. لا يهم إن كنت غنية أم فقيرة. يتظاهر الجميع بأن الأمور بخير، لكننا نشعر بالوحدة من الداخل. لا تختلف الأمور بالنسبة إلى أناس مثلنا. لا يتحسن شيء، ولا يتغير شيء أبداً.” (ص. 109)

“تُطرد [ذكور النحل] من الخلية في الخريف… إنه يمكن العثور عليها متشبثة بالجدران أو الأشجار خلال الصباح البارد، بلا حراك وكأنها ميتة، لكن في منتصف النهار، عندما تدفئ شمس الخريف الأرض، يمكن رؤيتها وهي تنبعث من بين زهور الأقحوان الذابلة. تطردها النحلات العاملات من الخلية لتجنب إهدار الطعام عليها، فتتجول على غير هدى بعد أن أصبحت عديمة الفائدة، ولا تلبث أن تموت بعد يوم أو يومين وتسقط على الأرض الباردة.” (ص. 110-111)

“إحدى ميزات الذاكرة أنه يمكن لشخصين التوصل إلى نسختين مختلفتين من الحدث نفسه. حيث يمكن أن تتعرض القصة للتحريف بسبب حالة الشخص النفسية في ذلك الوقت، أو يمكن أن تنسى ما حصل تماماً مع مرور الوقت.” (ص. 117)

“أعتقد أن خسارة شخص آخر من العالم ما كان ليسبب كثيراً من الجلبة، فكل يوم يموت أناس كثيرون لأسباب مختلفة، ويولد أشخاص جدد. أصبحت الحياة والموت أحداثاً اعتيادية.” (ص. 167)

الختام:

في الصفحات الأولى من الرواية خيل إلي أنها متماهية في محليتها الكورية، ولكن ما إن انتهيت من قراءتها حتى أدركت أنها تصف حالة الإنسان ككل في ظل الحداثة وما بعدها. فمادية الحداثة وعدمية ما بعدها ليستا استثناءً على المجتمع الكوري، وإنما حالة بشرية يمكننا رصدها في أغلب المجتمعات البشرية بما في ذلك مجتمعاتنا العربية.

أحدث التعليقات