الحكمة (35): «سيدات القمر» لجوخة الحارثي

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (35): «سيدات القمر» لجوخة الحارثي

أقف اليوم في محطتي الخامسة والثلاثين: عُمان.

برجاء عاشقة تستهل جوخة الحارثي روايتها «سيدات القمر» التي نشرت طبعتها الثامنة دار الآداب للنشر والتوزيع في 2019 في بيروت. تستغرق مايا على ماكينة خياطتها السوداء وذهنها حائر في حبيب طال غيابه، وتحلف في صلاة الفجر: “والله العظيم يا رب لا أريد شيئاً. فقط أن أراه. والله العظيم يا رب لا أريده أن يلتفت لي. فقط أن أراه.” (ص. 7)

يبقى لغز حبيب مايا حاضراً في الرواية حتى نهايتها، بينما يتسنى للقارئ إيصال بعض الخيوط واستنتاج أن إصرار مايا على تسمية ابنتها البكر بـ “لندن” ما هو إلا امتداد لعشقها لعلي بن خلف، معشوقها الذي أمضى سنوات دراسته في لندن، على الرغم من زواجها بعبد الله ابن التاجر سليمان.

عبد الله الذي عشقها منذ اللحظة الأولى التي وقعت عليها عيناه وهو في التاسعة عشر من عمره. يقول في وصف اللقاء: “أنا كنت… بين السماء والأرض حين رأيتها… لمحت جانب وجهها، فلامس عذابه عذابي. أنفها القصير وعظام وجنتيها ووجهها يعلو ويهبط في محاولة إدخال الخيط. يكاد جسدها يتكئ على الماكينة. كانت منحنية عليها. كان شحوبها يشع في ضوء النهار وعذاب وجهها الصغير لا يحتمل.” (ص. 43-44)

عشق تسبب في سخرية والده الذي أراد له أن يتزوج أختها خولة، وأنّبه على اختياره قائلاً: “ألم تر خولة؟ أليس لك عينان لتفرق بين الجميل وغيره؟” (ص. 46)

تتطور أحداث الرواية، ويبقى تأنيب سليمان لولده قائماً. تأنيب يمثل حال جيل عربي كامل قاسي ومتعنت وتقليدي، وجيل يليه يركض وراء رضا الوالدين ولا يجده. يمكن تفسير هذه العلاقة السامة بالعديد من العوامل التي لا تتطرق لها الكاتبة بالتفصيل، غير أن تابعتها تبقى حاضرة في أجزاء كثيرة من الرواية كقول عبد الله: “أبي لم يكن يبتسم، ربما كان يبتسم، قليلاً، نادراً، إن ابتسم تبعث ابتسامته الرضى في قلبي، لكن شرر الذكاء المتطاير من عينيه لا يوقظ سوى الرعب فيّ. لن أكون بمستوى ذكائه أبداً، مهما تعلمت، سأظل الولد الغرير، الذي لن يعرف كيف يدير تجارته، ولن يصل لمستوى ذكائه.” (ص. 137)

هكذا تتعمق الرواية في دواخل عبد الله وعقده في أكثر من موضع ولكأنها ما كُتبت إلا عنه، وعن حبه الأحادي لمايا، وليس عن “سيدات القمر” كما يشير العنوان. ملاحظة تجاوزتها النسخة الإنجليزية للرواية التي نشرت بعنوان “الأجرام السماوية” (Celestial Bodies) وهو ما أجده أكثر انسجاماً مع جوهرها، وخاصة أن أغلب الأحداث تتمحور حول عبد الله ومشاعره وآرائه وإحباطاته مقارنة بسواه من النسوة الواردات فيها، بل إن شخصية عبد الله هي الوحيدة التي تتعمق الكاتبة في دواخلها وتطورها. وقد فازت النسخة التي نقلتها مارلين بوث إلى الإنجليزية بجائزة مان بوكر الدولية لعام 2019 لتصبح بذلك أول رواية عربية تفوز بهذه الجائزة.

تتمدد العلاقات في رواية «سيدات القمر» وتتشابك ويتنوع رواتها وتختلف أزمنتهم حتى يكاد يخيل للقارئ أنه يحلم أو ينصت إلى مروية شعبية تمتد أحداثها منذ تسعينات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا في قرية العوافي، القاسم المشترك بين جميع شخصيات الرواية ورواتها. القرية التي شهدت التطورات والتغيرات التي طرأت على المجتمع العماني مذ دخلت مصابيح النيون إلى بيوتها وحتى انتشار الهواتف المحمولة، إضافة إلى العديد من التطورات السياسة المحلية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إبطال الرق وتجريم تجارته ومعاهدة السيب المبرمة عام 1920، والتي “قسمت عمان إلى عمان الداخل وتحكمها الإمامة، وحكومة مسقط وبعض المناطق الساحلية التابعة لها ويحكمها السلطان المدعوم بالإنجليز.” (ص. 131)

الحكمة من الكتاب:

تشعب أحداث الرواية وكثرتها يرسم بانوراما التاريخ العماني الحديث. تاريخ كان واقعاً في يوم من الأيام، وأضحى قصص ومرويات.

أحداث صغيرة تمر على حياتنا، قصص حبنا وآهاتنا، نجاحاتنا وإخفاقاتنا، كلّها عقد صغيرة في نسيج الواقع، وألوان باهرة في لوحة الحاضر. هكذا هي الحياة في مجملها. هكذا هي الحياة في قرية العوافي.

اقتباسات من الكتاب:

“إننا في الغربة نتعرّف على أنفسنا بشكل أفضل كما في الحب.” (ص. 27)

“زعم بعض المتفلسفين أن الله جل ثناؤه خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً، وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قُطع من النصف الذي معه كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طبائعهم.” (ص. 36)

“صمت الفجر وبدت … الحياة منشطرة شطرين كالليل والنهار: ما نعيشه وما يعيش بداخلنا.” (ص. 51)

“الصمت أعظم شيء يمكن للإنسان عمله، حين تصمت تستمع بشكل جيد للآخرين.” (ص. 50)

“هذه السحب كثيفة، تروقني فكرة العلو والتخلص من الجاذبية، هكذا أراقب الغيوم من علٍ، وأتذكر اندهاشي حين اكتشفت للمرة الأولى أنها ليست سميكة كفاية لتحتمل ثقلي.” (ص. 53) 

“لا حرية في الحب. ولا انتفاء لوجود الآخرين.” (ص. 79)

“هكذا تخيلت الحب: روح تشبه الأخرى وتلتقيان.” (ص. 144)

“إن ما يسميه الناس “تجربة” هو في الحقيقة داء مزمن، لا يميتنا ولا نشفى منه، لا نحتمله ولا نتخلص منه، يرافقنا أينما ذهبنا ويثور في أي لحظة ليذكرنا أن له مضاعفات غفلنا عنها أو تغافلنا، وما [ينصحوننا] به من “فتح صفحة جديدة” مجرد مزحة سمجة.” (ً. 168)

“مع كل ولادة جديدة يزداد يقينها بأن هذا ما خلقت لأجله: أن تسمع صرخة الحياة الحادة منطلقة من الأجساد الدقيقة الخارجة منها للتو، مرة تلو المرة، حتى يكف جسدها عن صنع الحياة.” (ص. 179)

“الخيال … مثل الفن يمنحني قيمة لوجودي، ومهما كان الواقع جميلاً فبدون الخيال تصبح الحياة، ببساطة، غير محتملة.” (ص. 190)

“هل ترين حركة الناس الظاهرية في الحياة؟ إنها الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم، الجزء الغاطس، الجزء الأعظم هو حركتهم الداخلية، عوالمهم الخاصة وخيالهم.” (ص. 190)

“حين كففت أخيراً عن الحياة في حدود خيال [أبي] عرفت طعم الحرية. تذوقت كيف يختار المرء الكتب التي يحبها والأصدقاء الذين يحبهم والمدن التي يحبها، وكيف يتحرر حين يكون نفسه وليس مجرد امتداد أو تجسيد لمخيلة شخص آخر، حتى ولو كان أباه.” (ص. 194)

“كان أي شيء سيكفيني، أي شيء سيملأ حقل قلبي بالثمار النافعة. أي شيء سيملأ السلال الممدودة لك وحدك. أي شيء: رسالة ورقية من كلمة واحدة. رنة بعد منتصف الليل، منام خاطف لا تولي فيه ظهرك، خطوة صغيرة واحدة، التفاتة بطيئة واحدة. أي شيء. حتى زمجرة غضب، حتى تنهيدة ضجر، حتى هدية رخيصة. أي شيء كان كثيراً. لكن أي شيء لم يأت. أي شيء. والآن كل شيء لا يكفي، كل شيء أقل من أن يبرعم ورقة واحدة في حقل صعقة الشتاء.” (ص. 221)

“تمزق حتى كاد أن يسمع صوت انشراخ أعماقه وانشطارها.” (ص. 202)

الختام:

لا يهم من يروي الحكاية، ولا يهم زمانها. هي أحداث تنهال وتتوالى على لسان واقع الحال في قرية العوافي ومنها. هكذا تبدأ الرواية وتنتهي من دون أن تثقل على رواتها، أو تصيب قراءها بالملل.

أحدث التعليقات