الحكمة (36): «البراني» لأحمد ولد إسلم

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (36): «البراني» لأحمد ولد إسلم

أقف اليوم في محطتي السادسة والثلاثين: موريتانيا أو بالأصح في عالم من خيال موريتاني شيده أحمد ولد إسلم في رواية «البراني» التي نشرت طبعاتها الأولى دار الآداب للنشر والتوزيع في عام 2021 في بيروت.

تندرج الرواية ضمن أدب الخيال العلمي الذي يجمع بين خيال مستمدةٌ تفاصيله من الواقع وحلول علمية متفائلة بالمستقبل. في هذا العالم الفسيح البهيج، يتفنن الكاتب في صناعة واقع مواز يكاد يكون حقيقة من دقة تفاصيله وإتقان حبكته، فتارة يُوجِد مدينة عصرية على سطح جزيرة جديدة، وأخرى يجعل من البطل مبرمجاً خارقاً اخترع لغة “برمجة متكاملة لذكاء اصطناعي ذاتي التعلم باللغة العربية.” (ص. 100)

عقب زلزال مفاجئ في قلب المحيط الأطلسي، تظهر جزيرة جديدة تُمهد لحل إحدى أكبر المشاكل المزمنة في واقعنا العربي: الهجرة غير الشرعية. فبعد مقترحات ومفاوضات دولية، تُقام على سطح الجزيرة الجديدة مدينة فيوتسيتي العصرية، والتي تمثل “نموذجاً للحرية والانفتاح، وتحفظ الشواطئ الأوروبية من غزو قوارب المهاجرين” دون أن تكون تحت سلطة أي دولة. (ص. 37)

يشكل العرب “قرابة ثمانين في المئة من سكان الجزيرة البالغين حوالي تسعمائة ألف شخص، وتتنوع البقية بين أفارقة وأوروبيين وأمريكيين – معظمهم لاتينيون، وقليل شتات من مختلف دول العالم. لا ينص دستور الجزيرة على لغة رسمية، لكن اللغة العربية هي الأكثر استخداماً في التواصل اليومي، تأتي بعدها الإسبانية ثم الإنجليزية.” (ص. 38)

يعود تسمية المدينة فيوتسيتي على المستقبل، وهو ما يظهر في جميع ملامح المدينة بما في ذلك نظام “ادفع لنفسك” القائم على” الربط الآلي بين الحسابات المالية للشركات وبين نظام مراقبة الأداء، ومع أي خروج من مقر العمل ستصل محفظة الموظف فوراً قيمة ما بذله من جهد.” (ص. 14 -15)

تبدأ أحداث الرواية بتعرض المدينة لهجوم من طرف مجهول يقود حملة “لا تبع وقتك” المناهضة لنظامها، تليه سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية والهجمات الإلكترونية التي تقوض أسلوب الحياة فيها وتكاد تدمره، مما يدفع بطل الرواية، مختور ولد احويبيب، إلى البحث عن حل نظراً لخبرته الواسعة في البرمجة.

وعلى الرغم من خلو ماضيه في البرمجيات مما قد لا يشرفه، سعى مختور إلى “التخلص من كل ما يمت إلى ذلك الماضي بصلة” وكاد “يجزم ألا أحد ممن سبقت لهم معرفته يستطيع التعرف عليه.” (ص. 11) فلم يكن أي من زملائه يعلم بخبرته في البرمجة أو حقيقة صنعه لروبوت متطور للعناية بمزرعته الواقعة في الضواحي الموريتانية. ومع تعقد الأوضاع في مدينة فيوتسيتي، يضطر مختور إلى الكشف عن ماضيه والتصدي للطرف المسؤول عن التخريب.

تنتهي الرواية بمفاجأة تكشف السبب وراء تسميتها بالـ “البراني”، وتثير العديد من الأسئلة الحرجة والملحة عن مستقبل الإنسانية في ظل اعتمادها المتزايد على الآلة أو الروبوت.

تتجلى قدرات الكاتب في انطلاقه من خصوصيات وتفاصيل المجتمعات العربية والثقافة الموريتانية نحو عالم مستقبلي حديث ومتطور واستشرافي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لعبت الهجرة غير الشرعية دوراً هاماً كإحدى ركائز العمل الروائي وتأسيس مدينة فيوتسيتي.

كما استعار الراوي العديد من خصائص الموسيقى الموريتانية في رسم ملامح نظام التشغيل الذي صممه مختور، إذ أطلق على لغة البرمجة الفريدة لهذا النظام: “لغة أزوان” وهي” كلمة من اللهجة الحسانية الموريتانية، وتعني الموسيقى، وتنطق الزاء مغلظة كما تنق كلمة ضابط في اللهجات المشرقية غير الخليجية.” (ص. 101)

الحكمة من الكتاب:

تقدم رواية «البراني» نموذجاً ملموساً عن فساحة الخيال ولا محدوديته، وأن الإبداع هو السبيل الوحيد للتطور والتقدم. فبينما تبقى اللغة العربية سجينة حراس مذهب يرفضون تدنيها للواقع ومستجداته ومجددين يشككون في أهليتها لاستيعاب متطلبات العصر، يقدم الخيال تصوراً وردياً تكون فيه اللغة العربية لغة برمجة ذكاء اصطناعي ذاتي التعلم.

اقتباسات من الكتاب:

“العالم الذي كانت تأخذه إليه الأغاني عالم خالص النقاء.” (ص. 30)

“الناس يرغبون دائماً في اختلاق تواريخ لذكرياتهم – مهما كانت – تناسب الموقف الآني.” (ص. 41)

“علينا أن ندافع جميعاً عن حقنا في الحياة.” (ص. 61)

“الحياة بلا عمل موت بطيء.” (ص. 61)

“هل المشكلة فينا أم في الزمن، ما الذي نبحث عنه؟ منذ بدأ العالم كانت الساعة ستين دقيقة، لم يتغير شيء، لكنها لم تعد تكفي ما كان يفعله فيما من كان قبلنا.” (ص. 84)

“الثورات الكامنة لا تحتاج إلى قائد لحظة انطلاقها، لكن المتسلقين سيظهرون في نهاية المطاف.” (ص. 88)

“لم يكن قلبه الراقص فرحاً، قادراً على مواكبة نشاط عقله الداخل في حالة استنفار قصوى.” (ص. 96)

“المجتمعات المصنفة محافظة، يتحدث أهلها بوقاحة ومجون، ويسردون فضائع تحدث في مجتمعاتهم حين يطمئنون إلى أن من يتحدث إليهم ليس شخصاً ممن يعرفون!” (ص. 108)

“لا شيء يدمر الإنسان أكثر من فضوله.” (ص. 108)

“عشرات السنوات و[الناس] يهدمون أسس علاقاتهم الإنسانية، ويهربون من طبائعهم المكبوتة بحثاً عن غطاء رقمي يوارون به سوءاتهم، يغزون الفضاء بحثاً عن الأرض، ويتفننون في تطويع الروبوتات لخدمتهم وآلاف من بني جنسهم يموتون جوعاً بعدما فقدوا وظائفهم لصالح أنظمة آلية، وفي لحظة هلع واحدة، يقفون جميعاً عراة أمام حقيقتهم المفزعة، حقيقة أنهم لو كانوا صادقين مع من يحبونهم لما كانوا عرضة للابتزاز بسر صغير.” (ص. 140)

“إن الشعور بالزمن يكون بالإحساس الجماعي لعامة الناس بتغير المحيط، وتوالي الأحداث في مسار لا رجعة فيه كبزوغ الشمس وتبادل الليل والنهار وارتفاع أو انخفاض درجة الحرارة.” (ص. 157)

“العقول العربية والسواعد العربية قادرة على البناء إذا ما وجدت الحاضنة والتمويل.” (ص. 163)

“المشكلة أني أملك ذاكرة من حديد، ولكني لا أملك أكثر من يدين.” (ص. 170)

الختام:

يرى العديد من معجبي أدب وسينما الخيال العملي أن العديد من الاكتشافات والاختراعات الحديثة تدين بوجودها لهذا النوع الفريد من الإبداع، وهو ما آمله بعد قراءة رواية «البراني» لأحمد ولد إسلم طمعاً في مستقبل تتبوأ فيه اللغة العربية بمركز ومكانة عاليتين في مجال البرمجيات.

أحدث التعليقات