الحكمة (38): «بين الأرض والسماء» لصافية المارية

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (38): «بين الأرض والسماء» لصافية المارية

أقف اليوم في محطتي الثامنة والثلاثين: قطر أو بالأصح في المساحات الضبابية بين الأرض والسماء حيث يصبح كل شيء ممكناً، وتكون النفس البشرية أقرب إلى كوينيتها منها إلى محليتها. من هذه المنطقة المتأصلة في تحررها، تروي صافية المارية، القطرية الوالد والأمريكية الوالدة، قصة حياتها وتناقضاتها وانفصاماتها في سيرتها الذاتية «بين الأرض والسماء» التي نشرت طبعتها الأولى دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر في 2015 في الدوحة، ونقلها عن الإنجليزية زياد زيادي.
في قصيدته الخالدة التي كتبها في رثاء إدوارد سعيد بعنوان «طباق»، يشهد محمود درويش بدور السفر الحر بين الثقافات كمركب وناقل للباحثين عن الجوهر البشري، فعند الانتقال الخالي من الأحكام والتعميمات بين الديانات والثقافات والمجتمعات، يمكن للباحث عن الحقيقية الإنسانية المجردة أن يقترب قليلاً من معناها وصداها في ذاته وفي الآخرين.
فحين الانتقال الحر بين الثقافتين القطرية والأمريكية، يمكن للمسافر أن يستشعر الجوهر البشري بعيداً عن القشور والواجب والمقبول واللازم، فإمكانية الاختيار بين الثقافتين قد تفتح الباب لسؤال أكبر عمّا وراءهما، وحينها قد يكون الماورائي داخلياً، فيعيده السؤال إلى ذاته البشرية، أو ينطلق منها إلى أخرى كونية، وهو ما عايشته الكاتبة.
تصف تجربتها بالتفصيل قائلة: “حاولتُ أن أنظر إلى داخلي، أن أحاول فهم ما يحيط بي. كنتُ بحاجة ماسة للوصول إلى سرعة تمكنني من الهرب من ذاتي. غادرت مداري أمي وأبي قبل أن أشعر بأثر جاذبيتهما، بتأثيرهما فيّ. لم تكن نظرة أي منهما إلى العالم منطقية بالنسبة إليّ. كانا مجرد وهمين عظيمين في كون تعمّه الفوضى والمصادفة. لم ينفعني التفكير في المُثل الأمريكية العليا التي غرقت فيها أمي، ولا في إيمان أبي العميق بإرادة الله، وجلستُ أرتجف في [الـ]برد… وفي خضم أزمة هوية عميقة. لقد أثرت هاتان القوتان المتعارضتين عليّ بشكل كبير في الماضي، لكنني لم أعد خاضعة لهما… فجأة، أسندت يدي إلى الأرض لأنتشل نفسي، كمن يستيقظ من حلم يسقط فيه. لم يهمني من أين أتيت، وإلى أين كنت ذاهبة. كل ما أردته هو استكمال طريقي. ففي النهاية، هذا الكون، هذا الكوكب، هما موطناي الاثنان، وحتى أنا، جميعنا، سنختفي يوماً ما.” (ص. 299)
من هذا المنطلق الواسع والشامل، تأخذ صافية مارية القارئ في رحلة فلسفية واجتماعية نحو خفايا وخصائص المجتمع القطري، والنقلة الحداثية التي عايشها منذ 1969 حين طفولة والدها، وقبل استقلال قطر وحتى صدور الكتاب في عام 2015.
ينحدر والدها من قبيلة الظافرة، وهي قبيلة بدوية تنتمي إلى بقاع مختلفة من دول الخليج تبعاً لحركتها وتنقلها، فالبدو طبعهم التنقل والسفر، وهو ما فقدوه مقابل الحداثة والتطور اللذين لحقا بالمنطقة، وتوضح الكاتبة تأثير ذلك على النساء خاصة، فالرخاء “والأمن لم يأتيا من دون ثمن، وهو ثمن دفعت معظمه… نساء القبيلة اللواتي انتقلن تدريجياً إلى حياة العائلة العصرية، مع كل ما تحمله من كسل وقلة حركة. اعتادت فتيات الظافرة على الرعي والبحث عن المؤن وركوب الجمال لمسافات طويلة تحت أشعة الشمس، وأصبحن اليوم ينمن في الظل. اعتدن على ارتداء الفساتين القطنية الزاهية وتزيين أنوفهن بالأقراط وتجديل شعورهن من دون ارتداء الحجاب. كن يتكلمن في أي مكان بأصوات عالية وواثقة، وكان عليهن تغطية وجوههن فقط. أما اليوم، فقد صار لزاماً عليهن تغطية أجسادهن كاملة برداء أسود، والتكلم بصوت خافت خوافاً من الجيران وألسنتهم الطويلة.” (ص. 22)
كما تشير إلى أن الثراء ليس شرطاً على جميع العائلات الخليجية، فهنالك العديد من العائلات والقبائل اللواتي لم يحسن الاستفادة من “النزعة الكونية التي تترافق مع الازدهار ورحلات العمل”. فعائلة الكاتبة لم تستفد من أي من هذه المكتسبات؛ نظراً لتمسكها بجذورها البدوية، فعلى سبيل المثال، كانت ثقة عائلتها في النظام التربوي معدومة مقابل حرصهم على الحفاظ على التقاليد البدوية وما تشمله من مهارات البقاء ورحلات التخييم الطويلة وسلخ جلد حيوان الضب، مما “أدى لظهور جيل قادر على العيش وحيداً في الصحراء، لكنه يفشل تماماً إذا جلس على مقاعد الدراسة.” (ص. 215)
 بيد أن غوص الكاتبة في تفاصيل المجتمع القطري تخلله فترات قضتها في الولايات المتحدة الأمريكية برفقة والدتها بعد انفصالها عن والدها، ومن التجربتين تولد لها اسمان: صافية وصوفيا، فكان الأول اسمها القطري والثاني اسمها الأمريكي. ولعل المثير للاهتمام في هذه الفترات هو قربها من تجربتها القطرية، فالكاتبة لم تلاحظ فجوة كبيرة تفصل بين تجربتيها في العيش في قطر والولايات المتحدة الأمريكية، هذا إن لم تجد تجربتها القطرية أكثر سلاسة ومرونة. فعلى سبيل المثال، تذكر الكاتبة أن تجربتها كانت “أكثر حرية في الدوحة مقارنة بـ “بويالوب”، المدينة الأمريكية. وتبرر ذلك بعدم وجود “وقت محدد للعودة إلى المنزل أو نظام غذائي معين.” (ص. 155) ويشير ذلك بدوره إلى الخيارات الشخصية للعائلات في كل من البلدين، وينفي التعميمات والصفات المسقطة على المجتمعات وكأنها كتلة واحدة أحادية التوجه والصفات.

الحكمة من الكتاب:

هذا الصراع الأزلي بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، بين الأرض والسماء قد يزهر عنه عالم متحرر ومتعدد. عالم كوني وإنساني يسع الجميع على اختلافاتهم وتنوعهم. في هذا العالم، يمكن للشخص أن يكون كما يريد أن يكون متحرراً من الأحكام والتعميمات وما يأتي معهما من قضبان وسلاسل مهترئة.
وتبعاً، تتمثل الحكمة من كتاب «بين الأرض والسماء» في دفعه إلى السعي نحو واقع كوني الملامح يتحدى الحدود السياسية القطرية أو الأمريكية، ويتجاوزها نحو كونية إنسانية لا تفرق بين الأشخاص والأفراد.

اقتباسات من الكتاب:

“إن التجربة الإنسانية أمر بالغ التعقيد ومتعدد الأوجه، على غرار الماس الذي لا يمكن رؤية جماله الكامل من جانب واحد فقط، إذ يجب أن نتأمله ونقلبه في الضوء لتحديد قيمته الحقيقية. الأمر ذاته ينطبق على الحياة، فإذا عشناها غافلين، لن نفهم جمال النعم التي منحها إياها الله.” (ص. 11-12)
“لا شيء يمكن أن يغضب شخصاً أكثر من وصفه بالجنون.” (ص. 96)
“غالباً ما تحل الصدمات بأغرب الطرق.” (ص. 102)
“كان يتضح لي يوماً بعد يوم أن الحب لدى الشباب في قطر أكثر تعقيداً من أي شيء رأيته على قناة إم. تي. في. فالفصل الصارم بين الجنسين يفرض على أي علاقة غرامية ناجحة أن تبقى طي الكتمان… وكما تتخيلون، وعلى غرار أي شيء ينبغي أن يبقى في الظلام، فإن الحب (الذي يجد طريقه دائماً إلى القلوب كما نعرف جميعاً) يتأقلم ويظهر بطرق مدمرة في بعض الأحيان.” (ص. 175)
“رأيت شيئاً من الحرية في مفهوم الوقوع في الحب أكثر من مرة.” (ص. 267)
“حين يوشك المرء على اتخاذ قرار مهم، فإن آخر شيء يجب أن يفكر فيه هو أهله. لكننا غالباً ما نراهم أمامنا، ونتخيل موقفهم من قراراتنا في تلك اللحظات. وكان علي أن أذكر نفسي أكثر من مرة أن خياري يتعلق بي وبي فقط، وأنني لم أعد خاضعة لرغبات الآخرين، بل أصبحت سيدة رغباتي الخاصة.” (ص. 268)
“يحتاج الحب إلى عناية دائمة، كما تحتاج السيارة إلى تغيير الزيت.” (ص. 270)
“ما الهدف من الحفاظ على نظافتنا في عالم قذر؟” (ص. 273)
“كنتُ قادرة على قول ما أشاء ورؤية من أشاء. ولم يعد لدي شيء لأثبته لأي كان إلا لنفسي.” (ص. 275)
“مع كل يوم يمر على خروجنا من أرحام أمهاتنا، يضعف رد فعل الغطس لدينا أكثر وأكثر.” (ص. 276)
“الاحتمالات التي تقدمها لنا الحياة هي ببساطة نادرة وقيمة جداً، لنقضيها انتظار حصول شيء ما، سواء كان ذلك للحظة أو لملايين السنين الضوئية.” (ص. 299)

الختام:

«بين الأرض والسماء»، تغوص بنا صافية مارية في خفايا الشخصية الكونية، وكيف تتشكل عبر الرحلة بين الثقافات والمجتمعات. غوص جميل، وبوح صادق وعميق. سيرة ذاتية فنية، تترك أثرها في النفس والشعور.

أحدث التعليقات