الحكمة (39): «ميتتان لرجل واحد» لجورج أمادو

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (39): «ميتتان لرجل واحد» لجورج أمادو

أقف اليوم في محطتي التاسعة والثلاثين: البرازيل، حيث يسكن الشغف ويتعمق معنى الحياة إلى ما وراء العادي والاعتيادي. بهذا القلم البرازيلي الفج يخط جورج أمادو رواية «ميتتان لرجل واحد» التي نشرت طبعتها السادسة دار مسكيلياني للنشر في 2015 في تونس ونقلها إلى العربية عبد الجليل العربي.

متجاوزاً حدود العقل والمنطق، يتلاعب الكاتب بالنهاية الحتمية للموت ويعيد روايتها كنهاية مرنة وقابلة لإعادة التأويل، فها هو ذا يفترض ميتتان لرجل واحد، فكانت الأولى لـ “جواكيم سواريس دا كونيا” رب العائلة وصاحب الذكرى الخالدة. ميتة تقليدية ولبقة، يرتدي فيها بدلة جديدة وأنيقة، وتسودها الألوان الداكنة والرتابة. أمّا الثانية فكانت لـ “كينكاس هدير الماء” الصعلوك والسكير. الحر والطليق كهدير الماء. ميتة مسكونة بالعجائب والغرائبية متمردةً على كل ما هو واقعي ومتوقع، وتشع بطيوف مشرقة وضحكات ورغبة محققة في الموت غرقاً في قعر البحر.

وبين الميتتين، يحق السؤال: لماذا اختار جورج أمدو أن يتحدث عن الموت حصراً، وليس عن شقيقته الحياة؟

ذلك لأن الآخرين لا يرون منّا سوى الموت، أما الحياة فنحياها فرادى. كل ما يصل الآخرون منّا ميت، فأفعالنا منتهية وكلماتنا لا رجعة فيها إن نطقّنا بها. أمّا الحياة، هذا النبض الغامض والمشتعل، فلنا وحدنا. نحن الذين نعيشه ونعايشه وندركه وحيدين فرادى.
إن كل ما يصل الآخرين هو حصرٌ على ما قضينا منه وانتهينا، هكذا نبقى نمدهم بمقدمات موتنا حتى تكتمل النبوءة، ونموت حقيقةً. حينها فقط، سنحظى آليا باحترام الناس، مهما كانت الحماقات التي ارتكبناها في حياتنا، “فتشرق ذكرى الراحل العزيز منزهة عن الخطأ كإشراقة الماس،” (ص. 13) ويرجع السبب وراء ذلك في انتفاء عنصر الحياة المُتغير عنه. هذا الراحل العزيز في موته ثابت ولا يتغير ويمكن تشكيله كما نريد، والحكم عليه كما نشتهي، وهذا بالضبط ما حصل لبطل الرواية. كان متعدد الميتات بتعدد الروايات والرواة، بينما كانت الحياة حكراً عليه هو، وهو مالا نعلم عنه شيئاً في الرواية.

ترد أحداث الرواية من منظور الراوي العليم، الراوي الملم بكافة التفاصيل والأحداث والتاريخ العائلي لدرجة يفترض فيها أن البطل مات ثلاث مرات جعلت منه “محطم الأرقام القياسية في الموت، وبطلاً فذاً في عدد الوفيات، بينما لم يمت جواكيم سوى مرة واحدة منذ عشر سنوات حين هجر المنزل وانضم إلى عشرة السوء. وهذا ما يعطينا الحق في أن نعتقد أن تلك الأحداث التي وقعت بعد ذلك، بدءاً من شهادة الوفاة وصولاً إلى الغطس في البحر، ليست سوى مسرحية هزلية كان هو نفسه المخطط لها قصد إذلال أقاربه مرة أخرى، وتعكير صفو حياتهم، وتلطيخهم بالعار، وجعلهم مضغة على ألسنة الناس في الشوارع، إذ لم يكن جديراً بالاحترام ولا يستحق حتى المجاملة الكاذبة، على الرغم من الاحترام الذي يكنه الأصدقاء المقامرون، للاعب المحظوظ، … الذي يقضي وقتاً طويلاً في الشرب والحديث. في الحقيقة، لست أدري إن كان سر ميتة “كينكاس هدير الماء” هذه، أو سر ميتاته اللاحقة، سينكشف يوماً ما للعيان، ولكنني لن ادخر جهداً في المحاولة.” (ص. 11 – 12)

غير أن الراوي العليم ذاته يشكك في روايته التي نقلها اعتقادا وليس يقيناً، كما ذكر في قوله: “وهذا ما يعطينا الحق في أن نعتقد.” فهو والقارئ وكافة شخصيات الرواية يعلمون شقاً أو تصوراً عن حياة البطل أو يذكرون محادثة أو موقفاً أو حتى علاقة تربطهم به، ولكن لا أحد يعلم ما الذي حدث مع البطل يقيناً سواه، وهو ما يبقى غائباً حتى بعد انتهاء الرواية.

إنها ميتات متعددة إذن، لحياة واحدة. وجوه عديد وتفسيرات وقراءات مختلفة، لواقع واحد. إنها الحياة كما نشهدها جميعا حينما يروي كل شخص حولنا ميتة مختلفة، وتبقى حقيقة حياتنا ملكاً لنا. حقيقة نعيشها بعمق وشفافية لدرجة يستحيل فيها وصفها أحيانا، فنكتفي بالاستمرار فيها، وانتظار لحظة الإبهار والاندهاش التالية. تلك اللحظات التي مهما برعت فيها بلاغتنا، نعجز عن التعبير عنها للآخرين، فهي في نهاية المطاف حقيقتنا وذاتنا المتجلية مع مرور الزمن وتقدمه.

الحكمة من الكتاب:

ميتات متعددة لرجل واحد وأصدقاء ومؤيدون لكل ميتة. إنها رواية عن التحرر. عن الدفع بالإنسان إلى عيش الحياة كما يريد ويشتهي بعيداً عن توقعات المجتمع والتزاماته التي تقيد المرء وتخنقه، فمهما اختلف الطريق الذي سيختاره المرء، سيجد مؤيدين ورفقاء في السفر. سيجد من يفهمه ويقدر خياراته.

إن الخوف من الوحدة ليس مبرراً لعيش حياة نمقتها ونبغضها. فها هي عائلة جواكيم وجدت في تركه للحياة البورجوازية المنمقة جنوناً، بينما وجد أحبائه وأصدقاء جنونه وعربدته أجمل ما فيه، وهو ما عبرت عنه حبيبته في وصفها له بالتالي: “العشيق الأكثر حناناً وجنوناً في الكون، صانع البهجة والعارف بكل شيء.” (ص. 54)

اقتباسات من الكتاب:

“هكذا هي الدنيا، عالم مليء بالمشككين، الرافضين، مثلما هو مليء بالناس البسطاء المشدودين إلى النظام والقانون وقواعد السلوك، والوثائق المختومة، كثور يقود عربة.” (ص. 10)

“المهم أن نحاول وإن كان في ذلك المستحيل.” (ص. 12)

“حين يموت الإنسان، يحظى آلياً باحترام الناس، مهما كانت الحماقات التي ارتكبها في حياته، فالموت يمحو بيد الغياب شوائب الماضي، فتشرق ذكرى الراحل العزيز منزهة عن الخطأ كإشراقة الماس.” (ص. 13)

“أليس الغضب من الموتى خطيئة كبرى؟ فلماذا نحشو رؤوسنا بالأفكار السيئة عنهم.” (ص. 28)

الختام:

في تلك المساحة الشاسعة التي يخلقها الخيال، يمكن للكتّاب أن يصنعوا واقعاً مخالفاً لكل ما تقتضيه العادة والمتعود. واقع يمكّنهم من الخوض بحرية فيما يشغلهم ويؤرقهم. في هذه المساحة الخيالية، تفنن جورج أمادو في رواية ميتات عديدة لشخص واحد، ليؤكد أننا نعيش حياة واحدة، وإن اختلفت التفسيرات والأوصاف في ماهية ما نعيشه أو كيف. أننا نحيا هذه الحياة فرادا. نعيش التجربة في ذواتنا وحيدين ومغتربين عن الآخرين مهما كان قربهم لنا وتفهمهم.

أحدث التعليقات