الحكمة (49): «مواسم القرابين» لصالح ديما

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (49): «مواسم القرابين» لصالح ديما

أقف اليوم في محطتي التاسعة والأربعين: الصومال حيث يغوص صالح ديما عبر رواية «مواسم القرابين» في رحلة شاقة عبر دهاليز النفس البشرية والجراح الوطنية، لينسج من التفاصيل المتناثرة صورة بانورامية للألم والفقد والحلم المبتور. الرواية ليست مجرد سرد لقصص فردية، بل مرآة عاكسة لتاريخ أمة وحالة إنسانية متمزقة تخوض صراعاً أزلياً بين الانتماء والتيه. نشرت طبعتها الأولى دار الآداب للطباعة والنشر في سنة 2024 في بيروت.

منذ الصفحات الأولى، تتعمق الرواية في عالم من الزوابع الحارة، حيث يتقاطع الحر والموت والدمار في مشهد يجسد الفوضى التي التهمت الصومال. يقول مرقان، بطل الرواية: “شعرت بتيار زوبعة حارة تجذبني نحو سنوات مضت، إلى الأرض التي فارقناها، هناك وسط الحر والموت والدمار… مات الملك، ماتت الملكة، وبقيت العساكر تائهة شريدة يا سيدي.” (ص. 24)

الموت هنا ليس حدثاً عابراً، بل موضوع يعبر الكاتب من خلالها عن فقدان الإحساس بالمستقبل. كل ما يتمناه البطل هو العودة سالماً إلى المنزل، كأن الحياة أصبحت سلسلة من الخسائر اليومية: “لم يعد للمستقبل وجود ولا ذكرى، فقط العودة إلى المنزل سالماً كل مساء كانت هي نهاية أحلامي… كنا نعثر على بعضهم قتلى، أو مبتوري الأطراف، أو مشوهين.” (ص. 29)

وسط هذه المآسي، تعود الرواية بين الحين والآخر إلى لحظات من الهدوء النسبي، حيث يعيد مرقان سرد طفولته في الثمانينات، حين كانت عائلته تعيش في رفاهية ظاهرية: “كنا نعيش في شبه رفاهية، فأبي يرسل [من المملكة العربية السعودية] ما يكفي حاجتنا ويفيض… كانت والدتي تعمل مترجمة وكاتبة في صحيفة نجمة أكتوبر.” (ص. 35-36) لكن هذا الهدوء ما يلبث أن ينهار أمام زحف الفوضى، لتصبح الصومال وطناً غارقاً في لعبة قبلية وحروب لا نهاية لها.

قصة مرقان ليست عن وطن يتمزق، لكنها أيضاً عن هوية تنهار تحت وطأة المنفى والاغتراب. في لحظات التأمل المريرة، يواجه البطل تساؤلاته الوجودية: “هل أنا صومالي بحكم طبيعتي؟ أم سعودي بحكم تطبعي؟ أم أنا الاثنين معاً؟ أو ربما هجين لا ماض وبلا حاضر، ولا مستقبل أيضاً؟” (ص. 248) مرقان يدرك أن هويته ليست وثائق رسمية أو أوراق إدارية، فهو إنسان، وهو كما يقرر أن يكون وليس كما تفرض عليه حزمة من الأوراق. (ص. 249)  وعلى مدار الرواية، يعيد الكاتب طرح مفهوم الوطن كحلم بعيد المنال. فالصومال بالنسبة للبطل ليس سوى أرض عاثت بها الحرب والدمار: “وطن لم يقدم لك شيئاً سوى ويلات الحرب التي هربنا منها. إن آمالنا بالصومال لا تلد إلا سراباً.” (ص. 304)

لغة صالح ديما مفعمة بالشعرية، حتى في وصف أشد اللحظات قسوة. النص يتنقل بين مشاهد الحروب، ذكريات الطفولة، وصراعات الهوية بطريقة تجعل القارئ يشعر بأنه شاهد على مأساة جماعية: “أدركت أن لا أحد لنا على حدود هذا العالم، لا أخ أو قريب لنا حتى في الإنسانية… نحن وحيدون في عالمنا المفقود.” (ص. 135)

الحكمة من الكتاب:

تغوص رواية «مواسم القرابين» بعمق في مفهوم المواطنة، وتثير تساؤلات حيوية حول معنى الوطن، خاصة عندما يغيب الأمان والحقوق التي يُفترض أن توفرها الأوطان لأبنائها. الحكمة المتجلية في الرواية تدعو القارئ إلى إعادة النظر في مفهوم الانتماء، متجاوزاً الحدود الجغرافية والاعتبارات الورقية، نحو تشكيل هوية فردية مستقلة، تُعرّف بالإنسان ذاته، وليس فقط بما يمليه مكان الميلاد أو الوثائق الرسمية. إنها رحلة تأملية تسائل القارئ: هل الوطن هو المكان الذي ولدت فيه، أم الذي ينتمي إليك حقاً بما يوفره من كرامة وأمان؟

اقتباسات من الكتاب:

“لطالما اعتقدت بأن للكلمات سحراً، وأن لها سلطاناً لا يتبدد، ولا ينمحي أثره من النفوس، ولكني أدركت حينها أن للكلمات طعماً ولوناً ورائحة.” (ص. 26)

“تعلمنا في بكورة رجولتنا أن للحياة أسراراً كبيرة، لا يلزم أن نطلع عليها في حينها، لكن علينا احترامها وتوفيقها.” (ص. 44)

“الذئب الساكت أخطر من الذئب الذي يعوي.” (ص. 58)

“احترس دائماً، وحافظ على أورادك في سائر يومك، حتى تحميك من أي شيء. وتذكر دائماً أن الله هو أساسنا القوي، والذي يبنون حياتهم على الإيمان به سيتمكنون من الصمود في وجه أية عاصفة. عندما تأتي عواصف الحياة، لن يتمكن من الصمود سوى أولئك الذين وضعوا ثقتهم في الله، فلا تثق في أي ملجأ لا يكون الله أساسه.” (ص. 70)

“القبيلة كانت تمثل دولة صغيرة ذات سيادة، تتولى الدفاع عن نفسها، وإبرام المعاهدات مع غيرها، فالمحكمة أو الشرطة لا يلزم حضورها في كثير من القرى الصومالية إذ يوجد فيها شيوخها، وهم ينهون أي خلاف في حينه، من دون أن يكون في أروقة المحاكم لسنوات.” (ص. 79)

“لم تستطيع الدولة بكل قدراتها القضائية الحديثة أن تحل مكان مجلس قضاء العشيرة… لم يكن [المجلس] … مجلس قضاء فحسب، بل كان مكتباً حتى للعلاقات العامة بمعناها الحديث.” (ص. 87)

يسرد الضابط البريطاني جيرالد هاني في مذكراته: “لا يمكنك هزيمة الصوماليين، فليست لديهم عقدة النقص، ولا عينان متسعتان من فرط الإعجاب بالرجل الأبيض وعبادة حضارته، ولا خوف منه ومن أسلحته، أو من عزم غضبه. إنهم عرق من البشر يستحق الإعجاب، إن لم يكن من الصعب أن تحبهم.” (ص. 104)

“إن الموت لا يلاحق أحداً، بل إننا نحن من نقصده ونهرع لكي نلاقيه في منتصف الطريق.” (ص. 107)

“الحياة قاسية، وهي تنجح دائماً في إلقاء كرة منحنية بواقع مرير يقيد كل أحلامك، وتجعل كل رغباتك محصورة في كلمة واحدة لا غير: البقاء.” (ص. 132)

“دموع الرجال عزيزة، وأنهم لا ينخرطون في البكاء إلا حينما يقهرون، وقهر الرجال كان وسيظل دائماً من أقسى الأمور على النفس.” (ص. 153)

“الذي يجمعني بمسقط رأسي ليس الأهل أو البيوت أو أصدقاء الطفولة وحسب، بل كان شيئاً مختلفاً، كان علوياً وروحانياً يستحيل وصفه. أعتقد بأن تلك الأرض بضعة مني، هي دمي ولحمي وأرى نفسي قبضة من ترابها.” (ص. 154)

“إننا نعيش في عالم يشعرنا بالغضب والمرارة من الطريقة التي يعمل بها، وأننا سريعون جداً في إصدار الأحكام وإدانة من يختلفون عنا، حتى من دون قضاء الوقت في محاولة فهم وضعهم الإنساني. كيف يمكن أن نطلق على أنفسنا صفة التحضر والإنسانية عندما نتعامل مع الآخرين بمثل هذه القسوة؟ لقد فقدنا إنسانيتنا. لقد فقدنا تعاطفنا. لقد أدرنا ظهورنا لمن هم في أمس الحاجة إلينا، وأصبحنا مجتمعاً يحكمه الخوف والكراهية.” (ص. 179)

“أليست هذه أرض الله التي استعمرناها؟ ألم يأمر الله أبانا آدم بالهبوط إليها؟ هل هي حكر على نسل دون آخر؟ ألا تتسع للبشر جميعاً؟ خيراتها تزيد على أضعاف سكانها.” (ص. 180)

“وهكذا دارت في فلكها الأيام، لأتيقن أن اللون والجنس والجنسية، والعمر ومكان الولادة، كلها كلمات بلا معنى، ولا هدف، وليس لها كبير أثر على أن تصبح كما تريد أن تكون، فأنت كما تشاء يا مرقان، وستكون كما تشاء. بدأت ثقتي بنفسي تنمو على مهل، وأيقنت أني قادر على تحقيق ما أصبو إليه. بقي الأمل في الغد يحييني، رغم أن ليل الأزمة قد تطاول واشتد سواداً، حتى ابتلع بصيص النور الذي يحي القلوب، ويبقيها نابضة.” (ص. 242)

“كانت الصومال يوماً من الأيام خط الدفاع الأول عن مقدسات الإسلام، عندما أرادت الإمبراطورية البرتغالية احتلال الجزيرة العربية وسرقة قبر الرسول عليه السلام، فأرسلت لذلك جيوشاً بقيادة كريستوف دي غاما. وفي ذلك الوقت تصدى لها السلطان الصومالي أحمد بن إبراهيم الغازي، والملقب “جري”، في معركة وفلة، وهي من أهم معارك التاريخ الإسلامي… الصومال كانت غنية بمواردها، فقد هبت لنجدة إخوانها المسلمين ومساعدتهم عندما حلت المجاعة في أجزاء من البلدان الإسلامية.” (ص. 246)

“إن الإنسان، إن كان يسعى ويبذل الأسباب حقاً، فسوف يحجز لنفسه المكانة المستحقة.” (ص. 247)

“كم هي كثيرة الفرص التي ضاعت بسبب التشبث بالانتظار الطويل، أو تلاشت بالمماطلة والمزايدات التي لا تنتهي بين العقل والقلب.” (ص. 279)

“القلب وحده فقط من يقودك إلى ما يريده من دون تدخل منك، فاتباع القلب وحده فقط من يقودك إلى ما يريده من دون تدخل منك، فاتباع القلب دوماً هو ما يجلب السعادة للإنسان.” (ص. 282)

“أنا أؤمن بأن الكاتب الحقيقي جزء حيوي من أي مجتمع، يقدم فكرة كي يساعد الناس على فهم العالم من حولهم، ويعطي صوتاً لمن لا صوت لهم. وهم الذين يمكنكم إحداث التغيير، لكن في كثير من الأحيان غالباً ما ينظر إليهم المجتمع على أنهم غير ضروريين.” (ص.305 – 306)

“قد يحتضر الوطن، ولكن لا يمكن أن يموت بينما نستمر في حمله بداخلنا.” (ص. 307)

“لقد أصبح العالم مكاناً قاسياً، لكن لا يزال من الممكن العثور على الرحمة والحب فيه. لا يزال هنالك جمال يمكن العثور عليه.” (ص. 322)

“الحياة مليئة بالألم، لكنها أيضاً مليئة بلحظات الفرح، وهذا يجعل الحياة تستحق العيش على الرغم من أنها قد تكون صعبة في بعض الأحيان.” (ص. 324)

“ما أعرفه أننا [الصوماليون] نمتلك ثروات بحرية تكفينا وتكفي أولادنا وأحفادنا من بعدنا، لكن المتعب حقاً هو سفن الصيد الأجنبية الكبيرة، التي تقتحم مياهنا بشكل غير قانوني، وتصطاد أسماكنا وتنهب ثرواتنا البحرية من دون وجه حق. بل إن شرهم لا يتوقف عند ذلك الحد، فيتعمدون تلويث مياهنا بما يلقونه فيها من مخلفات ونفايات صناعية سامة، قمامة خطيرة وقاتلة يتخلصون منها في قلب بحارنا.” (ص. 326 – 327)

“كل صومالي هو أديب بالفطرة.” (342)

“أردت دائماً إظهار الجانب الإنساني الذي نملكه، وحب الشعر المستوطن فينا، فكل صومالي يعيش على وجه البسيطة هو بالسليقة حكاء ماهر!” (ص. 343)

“أفريقيا أيتها النائمة. لقد حاصرك العدو. أما أبطالك فقد أكلتهم الطيور.” (ص. 345)

“أنا متفائل… لأننا في الصومال وصلنا لدرجة من اليأس لا يسعنا معها إلا أن نكون متفائلين.” (ص. 357)

“هذه العثرات والخيبات في حياتك، وضعها الله في طريقك لحكمة تجهلها. هذه الحكمة عظيمة، لكنها لا تحفف بعض ما أجد من ألم وصعوبة في التعزي والنسيان!” (ص. 377)

الختام:

تختتم الرواية بأسئلة مفتوحة تلقي بظلالها على القارئ، إذ تثير تساؤلات عميقة حول المراد بـ”موسم القرابين”. أهو زمن الحرب في الصومال الذي شهد تقديم البشر قرابين للصراعات القبلية والجوع والفقر، أم هو استعمار اقتصادي حديث حيث تتحول البلاد، مثل أي بلاد أفريقية عموماً، إلى مصدر للثروات الأولية للدول الأجنبية مقابل استيراد الصراعات والميليشيات؟ أم أنه حالة وجودية يعيشها البطل مرقان، الذي مزقته الحرب واغترب عن وطن لم يقدم له سوى ويلات الدمار؟ تبقى هذه التساؤلات شاهدة على رحلة مليئة بالألم والضياع، تتردد أصداؤها عبر شخصيات الرواية ووقائعها، لتذكر القارئ بأن موسم القرابين لم يكن مجرد زمن محدد، بل تجربة إنسانية تتكرر بأشكال وصور مختلفة كل يوم.

أحدث التعليقات