الحكمة (50): «سوفانا» لجعفر سلمان

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (50): «سوفانا» لجعفر سلمان

أقف اليوم في محطتي الخمسين والأخيرة: البحرين.

تقدم رواية «سوفانا» لجعفر سلمان غوصاً روائياً عميقاً في الحالة الإنسانية عبر قصة مجيد، الذي يجد نفسه في مكان غامض بعد فقدان ذاكرته. في هذا العالم الغريب، يبدأ رحلة معقدة لاستعادة هويته وكشف حقيقة ما حدث له. الرواية ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي رحلة فلسفية تأملية تتناول أسئلة عميقة حول الذات والذاكرة والحياة. نشرت طبعتها الأولى دار نوفا بلس للنشر والتوزيع في عام 2017 في الكويت.

تبدأ القصة باستيقاظ مجيد في مصحة وفي رعاية الدكتور فؤاد، الذي يعرّفه بنفسه قائلاً: “أنت في أيد أمينة، اسمك هو مجيد، وأنا الدكتور فؤاد، وأنت هنا حالياً في مستشفى ومصحة.” (ص. 13) منذ البداية، يبدو جلياً بأن هذا المكان ليس عادياً، إذ تسيطر على مجيد حالة من الغموض والتساؤلات حول ما إذا كانت الأحداث التي يتذكرها حقيقية أم أوهاماً.

هذه التساؤلات تظهر في قوله: “عقله قد يصور له أموراً لم تحدث، فالعقل قادر على ذلك بل وقادر على ما هو أكثر من ذلك.” (ص. 36) الرواية تدفع إلى التفكير في كيفية تشكل الذاكرة وما إذا كانت أداة لاستعادة الحقيقة أم لإعادة تشكيلها.

تأخذ شخصية سوفانا دوراً مركزياً في القصة، إذ تمثل المفتاح لكشف ألغاز المكان وحقيقة وجود مجيد فيه. مجرد تذكر اسمها يثير في داخله شعوراً قوياً وغريباً: “بمجرد أن دخل اسمها إلى ذاكرته عصف به شعور قوي وغريب، شعور لا يعرف كنهه أو سببه.” (ص. 32) من خلال لقاءاته معها، يتضح أنها ليست مجرد شخصية عابرة، بل لها دور في مساعدته على فهم الأحداث التي أوصلته إلى هذا الوضع الغامض. سوفانا، التي كانت متنكرة في شخصية الممرضة نور، تشارك مجيد في حوار عن الإنسانية والتعاطف، إذ تقول: “إنسانيتنا كانت القائد لنا في أفعالنا وفي أقوالنا.” (ص. 184) هذا التفاعل يفتح المجال أمام تأملات عميقة حول الطبيعة الإنسانية والقيم التي تشكل حياتنا.

تغوص الرواية في تساؤلات فلسفية عن الغموض الذي يكتنف الحقيقة والواقع. المكان الذي يعيش فيه مجيد هو منطقة انتقالية بامتياز، حيث تتداخل الطبيعة مع الرموز. كما تصفه سوفانا: “نحن في منطقة أشبه ما تكون بالمنطقة الحدودية… فأنت لن ترى إلا مناظر تعتبرها طبيعية.” (ص. 185) هذا الوصف يعكس رغبة الإنسان في التمسك بما هو مألوف لتجنب مواجهة الحقائق غير المريحة.

كما تتعمق في استكشاف الجانب النفسي لشخصية مجيد، إذ يتجلى صراعه مع شخصيته وانعكاس ذلك على حياته السابقة، هو الذي “يعرف أن حماقته قد غلبت حكمته… فهو من النوع الذي غالباً ما يتكلم، أو يفعل بتلقائية ومن ثم يفكر فيما قال أو فعل.” (ص. 89) هذا الجانب الإنساني يعزز واقعية الرواية ويقرب القارئ من بطلها، حيث يجد نفسه متورطًا في صراعات مشابهة تتعلق بقراراته وخياراته.

الحكمة من الكتاب:

رواية «سوفانا» تدور حول جوهر عميق، ألا وهو الصلاح، كحقيقة مطلقة تتجاوز مقاييس المجتمع وأحكامه المتغيرة. كما جاء في النص: “المجتمع لا يحدد الصواب والخطأ، فالصواب والخطأ لا يتحددان بكمية الناس التي تمارسهما، فالصواب يبقى صواباً ولو لم يقم به أحد، والخطأ يبقى خطأ ولو مارسه الجميع.” (ص. 108)

في هذا السياق، تركز الرواية على الصلاح كقوة داخلية تتحدى الأعراف الخاطئة وتثبت قيمتها المستقلة. من خلال رحلة مجيد، الذي يبحث عن الحقيقة وسط الغموض، ومن خلال سوفانا، التي تجسد النور الإنساني، تتجلى الحكمة: الصلاح ليس مجرد توافق مع ما هو سائد، بل هو اختيار واعٍ يتطلب شجاعة للتمسك بما هو حق، حتى في وجه الظلم أو الوحدة.

الصلاح هنا ليس فقط معياراً أخلاقياً، بل هو دعوة للتمرد على القوالب الزائفة وإعادة بناء الذات على أسس الصدق والإنسانية. إنه نور يقاوم الظلام، حقيقة ترفض أن تضيع وسط زيف التقاليد، وسبيل الإنسان لتحقيق جوهره الأصيل.

اقتباسات من الكتاب:

“العديد من الناس يعتقدون أنهم قادرون على فعل أمور معينة حين التفكير فيها ليجدوا العكس عندما يواجهون الموقف، وهؤلاء في الغالب يعانون من متلازمة جون وأين، فهم في خيالهم يتصورون أنفسهم كالأبطال عندما يضعهم الحظ يوماً أمام موقف صعب، كموقف اختطاف مثلاً، لكنهم ينصدمون من الموقف دون أن يستطيعوا فعل ما تحيلوا أنهم سيفعلون طيلة حياتهم، فيدخلون في حالة صدمة واحتقار للذات قد تؤدي بهم إلى الاكتئاب.” (ص. 25)

للإناث لمسة معينة تجدها أين ما حللن، لمسة لا تخطؤها العين أبداً، لمسة تضيف جمالاً على أي مكان يحللن فيه، لمسة يستطيع أي إنسان اكتشاف غيابها عن ذلك المنظر الممتلئ بالفوضى.” (ص. 31)

“بمجرد أن دخل اسمها إلى ذاكرته عصف به شعور قوي وغريب، شعور لا يعرف كنهه أو سببه، شعور يشبه في فعله فعل المادة عندما تغطي جسده وكأن ذلك الشعور غدا أمراً مادياً محسوساً علفه بالكامل.” (ص. 32)

“هنالك أمور تشعل الحاسة السادسة عند الإنسان، ربما لا يعرف لماذا ولكن هذه الأمور تكون وكأنها تضرب على تلك الحاسة.” (ص. 36)

“عقله قد يصور له أموراً لم تحدث، فالعقل قادر على ذلك بل وقادر على ما هو أكثر من ذلك.” (ص. 36)

“هنالك أشخاص ينطبق عليهم قول أحد الحكماء، بأنه لو أمطرت الدنيا حرية لوضعوا المظلات فوق رؤوسهم، أشخاص لا يعرفون كيف يعيشون أحراراً، أشخاص وضعوا جل اهتمامهم في العلف الذي يحصلون عليه وفي كيفية ضمان استمراره، فقط العلف وليذهب كل شيء آخر إلى الجحيم، سواء كان ذلك الشيء الآخر هو الحرية أو الكرامة أو حتى إنسانيتهم.” (ص. 39)

“أمر طبيعي في شركة حكومية … هو عدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب.” (ص. 41)

“على عكس كل قوانين التوظيف في الشركات الأخرى، فالمدراء [في الشركات الحكومية] يبتعدون قدر الإمكان عن الأذكياء من ذوي الشخصيات القوية، فكل مدير يعتبر دائرته وكأنها شركة منفصلة ومستقلة وهو مالكها، لذلك فالموظف المطلوب هو ضعيف الشخصية ومن هو يسبح بحمد مديره صباح مساء.” (ص. 41)

“الإنسان الواعي لن يفاخر أبداً بعلاقة هو فيها عبداً لغيره.” (ص. 52)

“المشاعر والأحاسيس تخزن في الذاكرة مقلها مثل الأصوات والروائح والأشكال.” (ص. 54)

“- كنت أفكر في كيفية التفريق بين الذكريات والوهم، أليس من المحتمل أن تكون كل تلك الذكريات التي تأتيني هي مجرد وهم؟

-لا، لا يمكن أن تكون وهماً، فهي حقيقة مادامت تأتيك على شكل ذكريات، أي تأتيك بشكل تاريخي، بينما الوهم يأتيك بشكل آني، فما تتذكر هو حقيقة وما تعتقد أنك تراه قد يكون وهماً.” (ص. 59)

“هنالك رزق ما لا يستطيع أحد منعه.” (ص. 62)

“ليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يرى يفهم.” (ص. 63)

“هنالك عمل وهناك راتب مقابل هذا العمل، وأنت ما إن تقبل الراتب عليك أن تقبل العمل الذي هو سببه.” (ص. 67)

“المدير، حاله حال أي شخص، لا يريد المشاكل، لذلك هو يحابي من يتذمر ومن يتكلم ولا يلتفت لمن يمارس عمله بصمت.” (ص. 68)

“المجتمع لا يحدد الصواب والخطأ، فالصواب والخطأ لا يتحددان بكمية الناس التي تمارسهما، فالصواب يبقى صواباً ولو لم يقم به أحد والخطأ يبقى خطأ ولو مارسه الجميع.” (ص. 108)

“يقول الفلاسفة إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فأنت اذا لم تجد ذكرى ترى فيها نفسك وأنت تخبر أحداً ما عن قصة … فهذا لا يعني أن تلك الذكرى ليست موجودة، هذا يعني فقط أنك لم تجد تلك الذكرى، وكما قلت لك فهناك فرق بين عدم الوجدان وعدم الوجود.” (ص. 129)

“لا تحاول إيهام نفسك أنك منتصر، اعترف بالهزيمة وألقها وراء ظهرك، حينها فقط ستشعر بالراحة.” (ص. 144)

الختام:

تترك الرواية القارئ في حالة من التأمل العميق، مُحرضةً إياه على طرح الأسئلة التي قد يتجنبها: كيف نقيس الصواب في عالم تتغير فيه القيم؟ وهل نمتلك الشجاعة لنتمسك بما هو حق حتى لو كنا وحدنا في ذلك؟ بفضل أسلوبها الرمزي والمشحون بالمعاني، تُثبت »سوفانا« أنها ليست مجرد قصة عن الذاكرة أو الفقد، بل هي مرآة تعكس أعماق النفس البشرية وتدعونا إلى رحلة نحو جوهر إنسانيتنا.

أحدث التعليقات