الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / ختام مشروع «خمسون حكمة حول العالم»
في الأول من أغسطس 2020، بدأتُ رحلة البحث عن معنى في خمسين كتاباً متنوعاً من دول العالم المختلفة، والكتابة عن كل كتابٍ منها دون تقييم أو حكم، فقط بغرض الغوص في الحكمة التي تقدمها. هكذا كانت رحلتي في الخمسين دولة التي زرتها عبر كتبها. فإذا كان الكاتب مصرياً، حطّت طائرتي في مصر، وعندما كان الكاتب مكسيكياً، حطّت طائرتي في المكسيك، وهكذا دواليك.
اليوم، وفي الرابع من ديسمبر 2024، أي بعد أربع سنوات وأربعة شهور وأربعة أيام بالتمام والكمال، اكتشفت كم كنتُ جاهلة. أجل، كنتُ جاهلة بما تفعله القراءة والكتابة في الإنسان.
![](https://hafsahariga.com/wp-content/uploads/2021/10/new.jpg)
كانت محدوديتي الفكرية تتعامل مع القراءة والكتابة بآلية وبراغماتية، إذ كانت خطتي الأولية أن أقرأ كتاباً وألخصه في أسبوع واحد بهذه السهولة والبساطة، متجاهلة ما تفعله الكتب فينا. تلك الزوابع والأعاصير والفوضى التي تثيرها الأفكار إذا ما ارتدت الكلمات والحركات، وخاصةً إذا ما ارتدتها ببلاغة ورونق ورُقي.
"القراءة هي الأداة التي نستخدمها لاستعادة جزء من أنفسنا." - إدواردو غاليانو
بدأتُ رحلتي إذن، وأنا أعتقد أنني سأمنح الكتب من فكري وحكمتي حين الكتابة عنها، فاكتشفت أنها كانت هي التي تمنحني الحياة، وتنفخ في ذاتي العزة والكرامة والمعنى. فوحده الإنسان المتصالح مع ذاته قادر على القراءة والاستمرار بها. القراءة هي فعل تعرٍ في الأساس. أن يقف الإنسان عارياً أمام نفسه، ويترك كامل الحرية لأفكاره وخواطره ومشاعره لتظهر كما تشاء وتشتهي. هذا هو التعريف الذي خلصتُ إليه بعد رحلتي مع الكتب الخمسين، وهذا ما شهدته وعايشته. فعندما كانت شكوكي أكبر من يقيني، كانت القراءة فعلاً مستحيلاً. فهناك شهور طوال لم أقوَ فيها على فتح كتاب أو كتابة حرف واحد. كنتُ غارقة في شكي وألمي ووجعي بعد طلاقي وما أتى منه. وحتى عندما وقفت على قدمي بعدها، سرعان ما سقطتُ مرةً أخرى. وهكذا كنتُ في مد وجزر مع القراءة والكتابة، وهو ربّما ما أخّر المشروع، إذ كنتُ أطمح إلى إنهائه بنهاية عام 2021، فإذا بزواجي هو الذي ينتهي في بدايته، وبيتي الذي بنيته بالصبر والسلوان هو الذي يأتي إلى ختامه. وأنا، طبعاً، ألوم الكتب. ألومها على تذكيري بمن أكون، وبأنني أستحق حياة طيبة كريمة!
التحديات
محدودية الجغرافيات المترجمة
الصراع الداخلي لم يكن التحدي الوحيد الذي واجهني. فتوفر ترجمات عربية لكتب من مختلف دول العالم كان تحدياً آخر. إذ اكتشفت وأنا أبحث عن الكتب الخمسين أن أغلب ترجماتنا تأتي من أمريكا وبريطانيا وفرنسا. فكلّما أعجبني كتاب وأردتُ إضافته لقائمة كتبي الخمسين، أكتشف أنني قد زرت تلك الدولة من قبل، فهي غالباً ما تكون ضمن الدول المذكورة آنفاً. ولستُ أعتقد أن الأمر منوطٌ باللغة الأصلية للكتاب، فتكاد تندر الكتب المترجمة من أستراليا، على الرغم من أن اللغة الإنجليزية هي لغتها الوطنية. وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على العلاقة المتينة بين الثقافة والنفوذ السياسي، فأغلب المجتمعات العربية تملك “تاريخاً مشتركاً” مع بريطانيا وفرنسا. وكذلك لا يخفى على أحد تأثير الإمبريالية الأمريكية على حيواتنا اليومية، سواء بتواجدها المباشر أو غير المباشر. وجدير بالذكر والثناء الجهود التي تقوم بها مجموعة كلمات ومنشورات مسكيلياني في تنويع جغرافية الكتب المترجمة، إذ تستثمر مجموعة كلمات في ترجمة الثقافة الأفريقية، وتعمل منشورات مسكيلياني على ترجمة الأدب الأوروبي بمعناه الأوسع وليس حصراً على بريطانيا وفرنسا.
تمركز الكتب العربية
ورغم التطلع نحو دول العالم المتعددة، كنتُ، ولا أزال، عربية الهوى والوجهة. فحرصتُ على أن تتضمن الدول الخمسون جميع الدول العربية بدون استثناء. وكان عنائي الأكبر في الحصول على رواية من الصومال والبحرين، لذا كانتا الروايتين الأخيرتين في المشروع من هاتين الدولتين، تبعاً لما كابدته في الحصول عليهما. وبينما قد تبرر قلة الروايات الصومالية بما تشهده الدولة من ظروف وتحديات وصعوبات، إلا أنني استغربت قلة الروايات والكتب البحرينية ذات الجودة العالية أو المقبولة في مكتبات الإمارات العربية المتحدة.
كما لاحظت أن جزءاً كبيراً مما يقع بين يدي من روايات أو كتب يكون مؤلفها مصرياً. هذه الحقيقة لا تثير استغرابي؛ فالثقافة المصرية مشهورة بانتشارها إعلامياً وسينمائياً، إضافة إلى أن مصر أكثر الدول العربية سكاناً، لذا فإن انتشار الكتب المصرية قد لا يكون سوى نتيجة إحصائية لا غير.
قصور المعلومات المتوفرة عن الكتب
ويبقى التحدي الأكبر هو توفر المعلومات عن الكاتب والكتاب، والتي ترد غالباً في الصفحة الثانية للكتاب، والتي تعرف بـ”صفحة حقوق التأليف والنشر”. فأغلب الكتب العربية، بما في ذلك المترجمة، تكاد تخلو من المعلومات الكافية عن الكتاب، والتي يجب أن تتضمن على أقل تقدير اللغة الأصلية للكتاب المُترجم، واسمه بتلك اللغة، وغيرها من المعلومات اللازمة عن هذه النسخة الأصلية منه. وجدير بالذكر والثناء وجود دور نشر ممتازة تزيد عن كل هذه التفاصيل بإرفاق نبذة عن الكاتب والمترجم، إن وجد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة كلمات ومنشورات المتوسط ومشروع كلمة للترجمة.
"القراءة تمنحنا فرصة للهروب من هذا العالم إلى عوالم أخرى مليئة بالحكمة والمعنى." - نجيب محفوظ
الأدب العالمي: أبعاد إنسانية مشتركة
في رحلتي حول العالم، اكتشفت كم أننا البشر متشابهون، ونواجه الصراعات الإنسانية ذاتها. أمّا فيما يتعلق بمسائلنا المحلية، فكانت الدول الآسيوية والأفريقية هي الأقرب لنا في الصراع والتجربة. فسؤال الحداثة لا يزال حاضراً في أدبها وبقوة. وأستحضر منها على وجه الخصوص الرواية الجنوب كورية «ذات يوم كنا حبيبين» لهوانغ سوك-يونغ التي تركت في نفسي عظيم الأثر. أحببتها رغم سوداويتها لأن الكاتب كان على ما يكفي من الجرأة ليطرح خيبته وصدمته بالحداثة أو لنقل بما يصلنا من أثرها في مجتمعاتنا. جرأة تنقص العديد من كتّابنا الذين لا يزالون يعبدون الآخر، ويمجدون ما يدعيه من حرّيات وحقوق إنسان. أمّا عاطفياً، فكان الأدب الجنوب أمريكي هو البطل. الغوص في الرواية اللاتينية نزيف شعوري لا شفاء منه، وليس هذا النزيف حكراً على العلاقات بين الجنسين، وإنما حتى في سرد العلاقات العائلية وروابطها المتينة. فكانت الرواية الكولومبية «النسيان» لإكتور آباد فاسيولينسي درساً في التربية والأمومة، أمّا الرواية المكسيكية «كالماء للشوكولاتة» لاورا إسكيبيل فهي انفجارات في الحس والشعور.
"الكلمات ليست مجرد كلمات، إنها الجسر الذي يعبره الناس ليجدوا أنفسهم" - ريتشارد باخ
ولادة جديدة
انتهى المشروع إذن. انتهت رحلتي خمسينية المحطات والوجهات، وعدتُ إنسانة جديدة. نسخة مُحدثة، ومحملة بهم الإنسان أينما كان. سلامي واحترامي لكل من جادت نفسه بالكلمات والمعنى، وتجاوز مخاوفه ونواقصه وأضاف لرصيد الثقافة والفكر والحكمة الإنسانية.