أبجديات نقد الاستشراق (الجزء الثاني)

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  أبجديات نقد الاستشراق  /  أبجديات نقد الاستشراق (الجزء الثاني)

توقفنا في الجزء الأول عند معنيين اثنين، علمنة الدين أي نقل المفاهيم والأفكار المتعلقة بالاستشراق والتي كانت متعلقة بالاختلافات الدينية والعقائدية إلى معانٍ ومبادئ علمانية، وثانيهما فقه اللغة ورواده الذين لم تكن زيارة الشرق ضرورة بالنسبة لهم كي يكتبوا عنه أو عن أهله.

نتيجة لهذه المعاني نجد أن الوحدتين المتبقيتين من الفصل الثاني «أبنية الاستشراق وإعادة بنائها» تتطرقان إلى عملية إعادة بناء الاستشراق بمعنى أنه على الرغم من الاختلاف الفكري والاجتماعي الذي شهده القرن التاسع عشر، إلا أن مبادئ الاستشراق لا تزال موجودة بل محدّثة بصورة تتماشى مع مستجدات الواقع، بالإضافة إلى استمرار المستشرقين في إيجاد الفراغ الإنساني الذي يفصلهم عن الواقع الشرقي والشرقيين بحجة “مهنية” البحث و موضوعيته.

الوحدة الثالثة: الإقامة في الشرق ودراسته: متطلبات تصنيف المعاجم، ومتطلبات الخيال

تتطرق هذه الوحدة بصورة خاصة لشخصيتين بارزتين ألا وهي كارل ماركس وإدوارد لين. ويبين إدوار من خلال استعراضه لمقتبسات من أقوال هاتين الشخصيتين الجانب الاستشراقي من أفكارهما وعقيدتها. “ففي عام 1853 قام كارل ماركس بعدة تحليلات للحكم البريطاني في الهند، فحدد أولاً معنى النظام الاقتصادي الآسيوي، ثم وضع إلى جواره مباشرة مظاهر السلب والنهب البشري التي تعرّض لها هذا النظام نتيجة التدخل الاستعماري الإنجليزي ونتيجة لجشعه وقسوته المباشرة. وكان يعود في كل مقال يكتبه إلى القول، باقتناع متزايد، بأن بريطانيا، حتى في تدميرها لآسيا، كانت تتيح لها القيام بثورة اجتماعية حقيقية… إذ يقول ماركس: “لا بد أن مشاعرنا الإنسانية تتأذى من مشاهدة تلك الآلاف من المنظمات الاجتماعية النشطة والوقورة وغير المضرة وهي تتعرض للانحلال والذوبان في الوحدات التي تتشكل منها، الأمر الذي يلقى بها في بحار الأحزان، ومشاهدة أعضائها، الأفراد وهم يفقدون في الوقت نفسه الشكل القديم لحضارتهم ووسائل رزقهم المتوارثة، ولكننا، مهما يبلغ تأذينا من ذلك، يجب ألا ننسى أن تلك المجتمعات القروية الشاعرية، ولو كانت في ظاهرها غير مضرة، كانت على مر الزمان تمثل الأساس المتين للاستبداد الشرقي، وأنها حبست الذهن البشري في أضيق نطاق ممكن، فجعلته أداة مطيعة للخرافات، واستعبدته وغللته بالقواعد التقليدية، وحرمته من كل جلال ومن الطاقات التاريخية جمعاء…صحيح أن انجلترا، عندما تسببت في إحداث ثورة اجتماعية في هندوستان، لم تكن دوافعها إلا أحقر المصالح قسراً كان يتصف بالغباء، ولكن ليست هذه المسألة. بل المسألة هي: هل يستطيع الجنس البشري تحقيق مصيره دون ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية لآسيا؟ فإذا كانت الإجابة بالنفي، فمهما تكن جرائم انجلترا، فإنها كانت دون أن تدري وسيلة التاريخ في إحداث تلك الثروة.” (ص. 252-253)

كنت قد أشرت سابقاً إلى الاعتقاد الاستشراقي السائد بأن القوميات العربية ما هي إلا انعكاس للحركات الأوروبية والأمريكية المشابهة، وبالتوازي مع هذا الاعتقاد نجد أن كارل ماركس يشير إلى أهمية وجود الإنجليز في “هندوستان” لكي يتمكن شعبها من الثورة التي لولا وجوده لما وصل إليها السكان الأصليون بصورة طبيعية وعضوية فكأنهم غير قادرين على الإدراك والاعتراض، وفي هذا الشأن يقول كارل ماركس بصريح العبارة: “إن على انجلترا أن تفي بمهمة ذات شقين، الشق الأول يدمر والثاني يعيد التوليد والإحياء – فالأول يعني إبادة المجتمع الآسيوي، والثاني يعنى إرساء الأسس المادية لمجتمع غربي في آسيا.” (ص. 254) ولعلّ السؤال الأبرز هنا هو من منح إنجلترا هذه المسؤولية والسلطة لولا المعتقدات المسبقة بفوقية العرق الإنجليزي على غيره.

إن الممثل الأوروبي الذي يعيش في الشرق “يعي أن لديه امبراطورية (فرنسية أو انجليزية) “تحتوي” الشرق، بمعنى أنها تحيطه بأسلحتها الحربية والاقتصادية، وبأسلحتها الثقافية قبل هذه وتلك. وهكذا بدأت الإقامة في الشرق وثمارها العلمية تصب في التقاليد النظرية المستمدة من الكتب، والتي اتسمت بها المواقف “النصية” التي رأيناها عند رينان وساس، وسوف يؤدي هذان النوعان من الخبرة إلى تشكيل “مكتبة” جبارة لا يستطيع أحد، حتى ماركس نفسه، أن يتمرد عليها، ولا يستطيع أحد أن يتجنبها.” (ص. 257)

صنف إدوارد سعيد فئات المستشرقين إلى ثلاث فئات “طبقاً لمقاصدهم وبصورة منتظمة، فأما الفئة الأولى فهي فئة الكاتب الذي يعتزم استخدام إقامته لأداء مهمة معينة، وهي توفير المادة العلمية للاستشراق العلمي. والفئة الثانية فئة الكاتب الذي يرمي إلى تحقيق ذلك الغرض نفسه لكنه أقل استعداداً للتضحية بغرابة وعيه الفردي وأسلوبه الخاص في سبيل التعريفات الاستشراقية الموضوعية. ولا شك أن هذه الأخيرة تظهر أيضاً في عمله، لكنه يتعذر فصلها عن شطحات الأسلوب الشخصية إلا بصعوبة. والفئة الثالثة فئة الكاتب الذي تتحقق له الرحلة الفعلية أو الاستعارية إلى الشرق “مشروعاً” يشعر به في أعماقه ويلح عليه إلحاحاً. وهكذا فإن النص لديه مبني على قيم جمالية شخصية، يغذوها مشروعه الخاص ويرويها.” (ص. 259)

وكمثال عن الفئة الأولى، يتطرق الكاتب إلى إدوارد لين الذي أقام في مصر في فترتين: (من 1825-1828) و (من 1833-1835) وكتب «وصف أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم» الذي نُشر في عام 1836، فقد عاشر الشرق للدرجة التي ادعى فيها أنه منهم ومسلم مثلهم على الرغم من التزامه الحقيقي بمبادئ الاستشراق وأفكاره. فالمستشرق يستطيع “أن يحاكي الشرق دون أن يكون العكس صحيحاً. وهكذا فإن ما يقوله عن الشرق يجب أن يفهم على أنه “وصف” حصل عليه في تبادل يسير في اتجاه واحد: فكانوا هم يقولون ويفعلون، وهو يراقب ويكتب. وكانت سلطته تكمن في قدرته على أن يعيش بينهم مثل أبناء اللغة نفسها تقريباً، وأن يكتب ما يكتبه سراً. وكان المقصود بما يكتبه أن يصبح معرفة مفيدة، لا لمن يكتب عنهم بل لأوروبا ولشتى مؤسسات النشر فيها.” (ص. 262) فلم يقم إدوارد لين بتنظيم كتابه باعتباره “سرداً لأحداث مقامة في مصر وحسب بل باعتباره بناءً سردياً تغلب عليه “إعادة البناء” والتفاصيل المقدمة من وجهة نظر استشراقية” فعلى سبيل المثال، “ما نكاد نسمع عن مناخ مصر المفيد للصحة، حتى يقال لنا أن أعمار المصريين قصيرة في الغالب بسبب الأمراض الفتاكة، وانعدام الرعاية الصحية، وجو الصيف الخانق، وبعدها يقال لنا إن الحرارة “تحث المصري [وهو تعميم مطلق] على الإسراف في الملذات الحسية”، وسرعان ما تتوقف الاحداث وننغمس في التفاصيل الوصفية المصحوبة بالخرائط والرسوم الخطية، ولما وجده في القاهرة من مبان وزخارف ونافورات وأقفال. وعندما تعود النبرة السردية إلى الظهور، يتضح أنها لا تزيد عن مظهر شكلي.” (ص. 265)

ثم يذكر في الفصل الذي يتطرق فيه للزواج وحفلات الزفاف إلى “الضغوط التي يتعرض لها لتزويجه، وهو ما يرفضه بإصرار عنيد.” إذ يدل ذلك على “انفصال المؤلف انفصالاً حقيقياً وصارماً عن الحركة المثمرة للمجتمع الشرقي. والقصة الصغرى التي تروي رفضه الانضمام إلى المجتمع الذي يصفه تنتهي بثغرة مثيرة، إذ يبدو أنه يقول إن قصته لا يمكن أن تستمر ما دام لم “يدخل” خصوصية الحياة المنزلية، وهكذا يتوارى احتمال دخوله هذه الحياة. إنه دون مبالغة يلغي وجوده باعتباره ذاتاً إنسانية برفضه الزواج لدخول المجتمع الإنساني. وهكذا يحافظ على هويته “المرجعية” باعتباره مشاركاً وهمياً ويدعم موضوعية روايته. فإذا كنّا قد علمنا من قبل أن لين لم يكن مسلماً، فنحن نعلم الآن أنه كان مضطراً – حتى يصبح مستشرقاً، لا شرقياً – إلى حرمان نفسه من المتع الحسية للحياة المنزلية، بل إنه اضطر إلى تجنب الانتماء إلى زمانه برفضه الدخول في دورة الحياة الإنسانية، ولم يكن يستطيع إلا بهذا الأسلوب السلبي أن يحتفظ بمرجعيته اللازمنية باعتباره مراقباً.” (ص. 267)

وبذلك نجد “أن الاستشراق قد “حصل على” الشرق بأقصى قدر ممكن من الحرفية وعلى أوسع نطاق ممكن، ومن ناحية أخرى جعل المعرفة به “مألوفة” للغرب، بعد أن جعلها تمر بمصفاة القواعد التنظيمية، والتصنيفات، والحالات التي تمثل عينات محددة، والمراجعات الدورية، والمعاجم، وكتب النحو، والشروح، والطبعات المتوالية، والترجمات، وكلها يمثل في مجموعة صورة تحاكي الشرق محاكاة ظاهرية، وكلها يعيد تقديم الشرق في صورة مادية في الغرب ومن أجل الغرب. أي إن الشرق كان يعتزم تحويله من صورة الشهادات الشخصية، وغير الواضحة أحياناً، والتي كان يدلي بها من يقومون بالرحلات الجسورة ومن أقاموا في الشرق، إلى صورة غير شخصية يتولى تحديد معالمها صف كامل من الباحثين العلماء.” (ص. 271)

الوحدة الرابعة: الحجاج ورحلات الحج من بريطانيا وفرنسا

تشير الوحدة الرابعة إلى الفئات الثلاثة للكتّاب المستشرقين وتقارن فيما بينهم. وكمثال عن الصنف الثاني، يذكر إدوارد سعيد شخصية شاتوبريان مؤلف كتاب «رحلة من باريس إلى القدس ومن القدس إلى باريس (1810-1811)». “وتشهد مئات الصفحات التي يتكون منها الكتاب على صحة اعتراف المؤلف الذي يقول “إنني أتكلم إلى الأبد عن نفسي”… لقد أتى شاتوبريان بأحمال بالغة الثقل من الأهداف والافتراضات الشخصية [التي يلتزم بها كتّاب الصنف الأول] إلى الشرق، وأفرغ في الشرق هذه الأحمال، ثم انتقل بعد ذلك إلى الدفع بالناس والأماكن والأفكار كيما تدور حول الشرق كأنما لم يستطع شيء مقاومة خياله الغلاب. ولكن شاتوبريان جاء إلى الشرق بشخصية بناها لنفسه، لا بذاته الحقيقية.” (ص. 277)

“فكان الكاتب إما أن يكتب علماً مثل إدوارد لين [الصنف الأول] أو أقوالاً شخصية مثل شاتوبريان [الصنف الثاني]. وكانت مشكلات النوع الأول تنحصر فيما تدل عليه من ثقة غربية “غير شخصية” في إمكان إطلاق الأوصاف على ظواهر عامة جماعية، وفي ميل هذا النوع إلى عدم استنباط الحقائق من الشرق ذاته بل من الملاحظات الخاصة به. وكانت مشكلة النوع الثاني هي تراجعه المحتوم إلى الموقع الذي يساوي فيه بين الشرق وبين التهويمات الخيالية الخاصة، حتى ولو كانت هذه التهويمات رفيعة المستوى حقاً، من الناحية الجمالية. وفي كلتا الحالتين، بطبيعة الحال، كان الاستشراق بتمتع بتأثير قوي في أساليب وصف الشرق وتحديد خصائصه. ولكن الذي حال الاستشراق دون تحقيقه، ولا يزال يحول حتى اليوم، فكان زاوية النظر إلى الشرق التي لا تنتمي إلى التعميم المحال، أو إلى الطابع الفردي الثابت الرصين. وأما البحث في الاستشراق عن “زاوية حية” للواقع الإنساني أو حتى الاجتماعي للشرقي – باعتباره إنساناً معاصراً يعيش في العالم الحديث – فهو بحث عن المحال.” (ص. 284) يختم إدوارد سعيد بمقارنة واضحة بين الوضع السابق والراهن لكتّاب الاستشراق وبين المتوقع أو المفترض منهم تحقيقه نظراً لكون الشرق في نهاية المطاف ما هم إلا بشر وأشخاص يعيشون في العصر الحديث ذاته الذي يعيش فيه الكتّاب المستشرقون، وكمثال على هذه الملاحظة، يمكننا ذكر الكثير من أفلام هوليوود التي عندما تصور الشرق – في يومنا هذا – تعجز عن تصوير الطرق الحديثة والسيارات العصرية، فنجدها تصور الشرقيين وهم لا يزالون يركبون الإبل للتنقل.

أمّا بالنسبة للصنف الثالث، فيستشهد إدوارد سعيد بلامارتين الذي بدأ رحلته إلى الشرق في عام 1833 “محملاً بالميول المسبقة، وضروب التعاطف والانحياز. ” (ص. 286) “فرحلة الحج التي قام بها لامارتين إلى الشرق لم تقتصر على اختراق وعي خلاب للشرق، بل تجاوزت ذلك إلى الإلغاء الفعلي لذلك الوعي نتيجة التحامه بوعي غير شخصي يتمثل في السيطرة الأوروبية على الشرق. أي إن الهوية الفعلية للشرق تذوي وتنحصر في مجموعة من الشذرات المتتابعة، أي ملاحظات لامارتين القائمة على الذاكرة، وهي التي يضم بعضها إلى بعض في وقت لاحق ويعبر عنها من جديد تعبيراً يوحي بأنها تمثل حلم نابليون في السيطرة على العالم. إذا كانت الهوية الإنسانية لإدوارد لين قد اختفت في الشبكة العلمية للتصنيفات التي وضعها للحياة في مصر، فإن وعي لامارتين يتجاوز حدوده الطبيعية كل التجاوز، وهو بذلك يكرر رحلة شاتوبريان ورؤاه، ثم إذا به يتجاوزها بدخوله في عالم التجريد عند الشاعر شلي وعند نابليون، وهي الرؤى التي تتيح نقل العوالم والسكان من مكان لمكان كأنها أوراق اللعب الكثيرة على المنضدة. وأما ما يتبقى من الشرق في نثر لامارتين فلا يكاد يعتد به على الإطلاق، فواقعه الجغرافي السياسي تطمسه الخطط الموضوعة للشرق.” (ص. 289)

كما يشير إدوارد سعيد إلى النقلة التي شهدتها المؤسسات والهيئات التي تخدم الدراسات الشرقية، فصناعة المعرفة “ازدهرت في فرنسا بحلول منتصف القرن التاسع عشر، مثلما ازدهرت في إنجلترا وسائر أوروبا، فكانت الكتب تُنشر بأعداد كبيرة، وانتشرت في كل مكان هيئات ومؤسسات النشر والدعاية لها. وقد أشار مؤرخو العلم الطبيعي والمعارف العامة إلى أن تنظيم المجالات العلمية والمعرفية الذي شهده القرن التاسع عشر كان يجمع بين الصرامة والشمول. وأصبح البحث العلمي نشاطاً معتاداً يدرس بانتظام. ووضعت النظم الخاصة بتبادل المعلومات، إلى جانب اتفاق الآراء بشأن الصيغ المناسبة للبحث ونتائجه، وأصبح الجهاز الذي “يخدم” الدراسات الشرقية جزءاً لا يتجزأ من هذا المشهد الجديد، ولا شك أن فلوبير كان يعني ذلك حين أعلن أن “كل شيء سوف يرتدي الزي الرسمي”! لم يعد المستشرق هاوياً متحمساً موهوباً، فإذا كان كذلك فسوف يجد العنت في اكتساب احترام الناس له باعتباره باحثاً جاداً. أما لفظ المستشرق الحق فكان يطلق على خريج الجامعة الذي تخصص في الدراسات الشرقية (إذ كانت كل جامعة أوروبية كبرى فد خصصت منهجاً دراسياً كاملاً في فرع من فروع المباحث الاستشراقية بحلول عام 1950). ” (ص. 305)

في ختام هذا الفصل، يلخص إدوارد سعيد النقلة التي شهدها الاستشراق في القرن التاسع عشر بقوله: “بعد أن كان الشرق مكاناً أصبح مجالاً للحكم “العلمي” الفعلي ولإمكان السيطرة الإمبريالية. وكان دور المستشرقين الأوائل مثل رنان وساسي ولين يتمثل في توفير الإخراج المسرحي لعملهم وللشرق معاً، وأما المستشرقون المتأخرون، والبحاثة منهم والمبدع، فقد سيطروا على المشهد سيطرة محكمة. وفي مرحلة لاحقة على ذلك، عندما بدأ المشهد يتطلب إدارة خاصة، اتضح أن المؤسسات والحكومات أقدر على ممارسة لعبة الإدارة من الأفراد: هذه هي تركة الاستشراق في القرن التاسع عشر التي ورثها القرن العشرون.” (ص. 314)

الفصل الثالث: الاستشراق اليوم

يبدأ هذا الفصل حيث انتهى سابقه، في نحو عام 1870. وكانت هذه فترة التوسع الاستعماري الكبير في الشرق، وهي التي بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية. والقسم الأخير من الفصل الثالث يحدد ملامح التحول من الهيمنة البريطانية والفرنسية إلى الهيمنة الأمريكية، وفيه حاول أخيراً رسم صورة الواقع الفكري والاجتماعي الحالي للاستشراق في الولايات المتحدة.

الوحدة الأولى: الاستشراق الكامن والاستشراق السافر

في بداية هذه الوحدة أشار إدوارد سعيد إلى نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي موضوعية الدراسات الاستشراقية، فيقول: “إن مجالات البحث العلمي، شأنها في ذلك شأن الأعمال الفنية، حتى أشدها غرابة، تخضع لقيود ومؤثرات يفرضها المجتمع، وتفرضها التقاليد الثقافية، وظروف الحياة، كما تخضع لتأثير العوامل التي تهيئ لها الاستقرار مثل المدارس والمكتبات والحكومات. وتقول هذه الافتراضات أيضاً إن الكتابة العلمية والإبداعية لا تتمتع قط بالحرية، بل هي محدودة في صورها وافتراضاتها ومقادها، كما تقول أخيراً إن مظاهر التقدم التي يحرزها “علم” مثل الاستشراق في صورته الأكاديمية يقل صدقه الموضوعي عن الدرجة التي كثيراً ما نتصور أنه حققها.” (ص. 207-208)

ثم وضح الفرق بين الاستشراق الكامن والسافر، فالاستشراق الكامن هو “مذهب وضعي إيجابي يكاد يمارس دون وعي (وإن كان قطعاً لا يقبل المساس به)” أما الاستشراق السافر، فهو “شتى الآراء التي عبر من عبر عنها عن المجتمع الشرقي بلغاته وآدابه وتاريخه ودراساته الاجتماعية وهلم جراً. فأي تغيير يحدث بالمعرفة بالشرق “يكاد يقتصر على الاستشراق السافر، وأما الإجماع والاستقرار والاستمرار في الاستشراق الكامن فهي خصائص ثابتة تقريباً.” (ص. 323)

ينتقل بعدها للحديث عن الجغرافيا التي بدأ الحديث عنها في الوحدة الثانية من الفصل الأول « الجغرافيا الخيالية وصورها: إضفاء الصفات الشرقية على الشرقي»، فمنذ أيام وليم جونز، أي ما بين منتصف ونهاية القرن الثامن عشر، أصبح الشرق “المكان الذي تحكمه بريطانيا والموضوع الذي تعرفه، وهكذا اكتمل التوافق بين الجغرافيا والمعرفة والسلطة، مع استمرار بريطانيا في اتخاذ موقع السيادة دائماً.” (ص. 336) بمعنى أن نبوءة المستشرق قد تحققت أخيراً، وقد أوجد ما كان يبحث عنه ضمن مجال الشرق ودراساته التي ابتدعها من سبقه من المستشرقين. وتكمن أهمية الجغرافيا بالذات في كونها “تمثل، أساساً، الدعامة المالية للمعرفة بالشرق، بمعنى أن جميع الخصائص الكامنة التي لا تتغير للشرق تقوم على طبيعته الجغرافية وتضرب جذورها فيها. وهكذا نرى أن الشرق الجغرافي، من ناحية، “يغذي” سكانه ويضمن صفاتهم الأساسية ويحدد طابعهم الخاص، ومن ناحية أخرى يطلب من الغرب الاهتمام به.” (ص. 337-338)

وكنتيجة لاكتمال التوافق بين الجغرافيا والمعرفة والسلطة، لم يعد الشرق مكاناً مجهولاً أو مكان استكشاف للفرنسيين أو البريطانيين على حد سواء، وبالإضافة إلى مرض الدولة العثمانية مرضاً لا شفاء منه، فلم تجد فرنسا وبريطانيا أي مانع من “تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ أولاً، ثم إلى مناطق تحت الانتداب (أو تحت الاحتلال).” (ص. 344)

وقد اتجه الاستشراق نحو توجهين اثنين لتقديم الشرق إلى الغرب في مطلع القرن العشرين. “كان الأول يتوسل بطاقات العلم الحديث على الانتشار، أي يعتمد على جهاز النشر في المهن العلمية، في الجامعات، والجمعيات المهنية، والمنظمات الكشفية والجغرافية، وصناعة نشر الكتب والمطبوعات. وكانت هذه جميعاً تبني ما تبني، كما رأينا، على أساس المكانة الرفيعة الموثوق بها للرواد من الباحثين والرحالة والشعراء، وهم الذين أدت رؤاهم التراكمية إلى تشكيل الصورة التي تمثل جوهر الشرق، وأما الصورة المذهبية العقائدية لذلك الشرق، فهي التي أطلقتُ عليها تعبير الاستشراق الكامن. وكان كل من يريد أن يقول قولاً يتمتع بأي قدر من الأهمية عن الشرق، يجد في الاستشراق الكامن مصدراً لطاقة تعبيرية يمكنه استخدامها، أو بالأحرى حشدها، وتحويلها إلى “خطاب” معقول يلائم المناسبة العلمية الطارئة.” (ص. 345-346) أما المنهج الثاني، “الذي قدم الاستشراق به الشرق إلى الغرب من ثمار حالة من حالات التلاقي المهم. فلقد كان المستشرقون على مدى عقود طويلة يتحدثون عن الشرق، فيترجمون النصوص، ويشرحون الحضارات والأديان والأسر الحاكمة والثقافات والعقليات، باعتبارها جميعاً موضوعات أكاديمية يحجبها عن أوروبا طابُعها الأجنبي الذي لا مثيل له. كان المستشرق خبيراً، مثل رينان ولين، وظيفته في المجتمع أن يفسر الشرق ويوضحه لزملائه المواطنين. وكانت العلاقة بين المستشرق والشرق علاقة استكشافية في جوهرها، فكان المستشرق يواجه حضارة أو أثراً ثقافياً نائياً لا يكاد يُفهم، وكان يحاول في بحثه العلمي تقليل الغموض الذي يشوب تلك الحضارة أو ذلك الأثر الثقافي عن طريق الترجمة، أو بالتصوير المتعاطف، بحيث يُفهم “الموضوع” الذي يستعصى على الإدراك. ولكن المستشرق يظل دائماً خارج الشرق، ويطل الشرق، مهما يبلغ من نجاح المستشرق في تيسير فهمه في الظاهر، خارج نطاق الغرب. وكان التعبير عن هذا الابتعاد الثقافي والزمني والجغرافي يتخذ شكل استعارات تقوم على العمق، والسرية، والوعد الجنسي، إذ دخلت بعض العبارات إلى اللغة الشائعة مثل “خمار العروس الشرقية” أو “الشرق ذو الأسرار التي لا تُكتنه”.” (ص. 347 -347)

الوحدة الثانية: الأسلوب والخبرة والرؤية: الطابع الدنيوي للاستشراق

جمعت هذه الوحدة بين عدة مواضيع أولها ولادة فكرة “الفوقية العرقية البيضاء” التي أخذت تمثّل واقعاً حقيقياً يفصل بين عالمين (الأبيض وغير الأبيض) وعلاقتها بخطاب الاستشراق المبني على تفرقة مشابهة (الشرق والغرب). ثم يعود إدوارد سعيد إلى ربط علم اللغة بدراسات وبحوث القرن التاسع عشر والعشرين وكيف أن الاختلاف في اللغة يعني بالضرورة وجود اختلافات أخرى فكرية وثقافية لا تزال تُعتبر حقيقة جذرية لا يمكن اقتلاعها. أمّا أخيراً فأشار إلى التحول الذي أصاب خطاب الاستشراق وزاد من قوته التنفيذية وهو ما دفع إدوارد سعيد إلى التركيز على العملاء الإمبرياليين وراسمي السياسات عوضاً عن الباحثين والأكاديميين.

في البداية يركز إدوارد سعيد على فوقية العرق الأبيض “إذ كان لون بشرتهم يميزهم تمييزاً قاطعاً، ويبعث الطمأنينة في النفس، عن “بحر” الأهالي المتلاطم، ولكن البريطاني، الذي كان يتنقل بين الهنود أو الإفريقيين أو العرب، كان يعلم علم اليقين كذلك مدى ائتمانه إلى الذخيرة التجريبية والروحية لتقاليد المسؤولية الإدارية الطويلة الأمد عن الأجناس الملونة وإمكان استفادته منها. ولقد قصد كبلينغ أن يكتب عن هذه التقاليد، وعن أمجادها وصعوبتها، عندما كتب قصيدة احتفاء وتحية “للطريق” الذي سلكه الرجال البيض في المستعمرات:

والآن – هذا هو الطريق الذي يسلكه الرجال البيض

عندما يذهبون لتطهير أرض ما –

إن الحديد تحت أقدامهم، وكرمة الأعناب فوقهم،

والبحر عن أيمانهم وشمائلهم.

لقد سلكنا ذلك الطريق – وإنه لمبتل وعاصف الرياح –

وفيه نهتدي بنجمنا المختار.

لسوف تسعد الدنيا إذا خطا الرجال البيضُ

في ذلك الطريق في تكتف متجاورين!

أي إن أفضل وسيلة “لتطهير أرض ما” هي أن يتكاثف الرجال البيض تكاتفاً دقيقاً في العمل، وهي إشارة إلى الأخطار الراهنة للمنافسة الأوروبية في المستعمرات، وأما العجز عن تنسيق السياسات فمعناه أن الرجال البيض عند كبلينغ على استعداد تام لخوض الحرب، إذ يقول إن الغاية هي “الحرية لأنفسنا والحرية لأبنائنا. فإذا لم تتوافر الحرية، خضنا الحرب.” ومعنى هذا أن قناع القيادة الودودة الذي يلبسه الرجل الأبيض يكمن خلفه دائماً استعداده الصريح لاستعمال القوة، لأن يَقتل ويُقتل، وأما ما يضفي الجلال على “رسالته” فهو إحساس ما بأنه وقف نفسه على تحقيقها، فهو رجل أبيض، لكنه لا يسعى لمجرد الربح، فالمفترض أن “نجمه المختار” أعلى مكانة من الكسب الدنيوي. ولا شك أن الكثير من الرجال البيض قد تساءلوا في أحيان كثيرة عن القضية التي يحاربون من أجلها في ذلك “الطريق المبتل والعاصف الرياح” ولا شك أن عدداً كبيراً منهم أصابتهم الحيرة (ولابد) إزاء السبب الذي جعل لون البشرة يؤهلهم لمكانة وجودية أرفع من سائر البشر ويمنحهم تسلطاً كبيراً على جانب كبير من المعمورة. ومع ذلك فإن بياض البشرة كان يمثل في النهاية أمراً لا يحتاج إلى التأكيد من عوامل أخرى، عند كبلينغ وعند الذين تأثروا بأفكاره وأقواله. فالفرد يصبح رجلاً أبيض لأن وجوده يقتضي بأن يكون رجلاً أبيض، وأهم من ذلك أنه حين “يشرب تلك الكأس” ويحيا الحياة التي قضى بها القدر الذي لا راد له في “زمن الرجل الأبيض”، لن يجد وقتاً يكفي أي تأملات، لا جدوى منها، عن الأصول أو الأسباب أو المنطق التاريخي.

ومن ثم فإن بياض البشرة كان يمثل فكرة وحقيقة واقعة، ويستتبع اتخاذ موقف عقلاني تجاه العالمين الأبيض وغير الأبيض، ويعني – في المستعمرات – التحدث بأسلوب خاص، والتصرف وفقاً لمجموعة محددة من القواعد، بل والإحساس بأحاسيس معينة دون غيرها. وكان يعنى أحكاماً وتقييمات وحركات معينة، إذ كان ضرباً من ضروب السلطة التي تدعو الأجناس غير البيضاء بل الأجناس البيضاء نفسها للخضوع أمامها. وقد أصبح في إطار المؤسسات التي أنشأها (مثل حكومات المستعمرات، والهيئات القنصلية، والشركات التجارية) وسيلة للتعبير عن سياسات معينة تجاه العالم ونشرها وتنفيذها، وكانت فكرة التمتع ببياض البشرة، التي تحولت إلى فكرة جماعية غير شخصية، هي القوة السائدة في هذه الوسيلة، وإن كانت تسمح بدرجة معينة من الحرية الشخصية. وباختصار كان الانتماء إلى جنس الرجل الأبيض منهجاً عملياً إلى حد بعيد من مناهج الانتماء إلى العالم، أو منهجا من مناهج التحكم في الواقع واللغة والفكر. وهذا المنهج هو الذي أتاح ظهور أسلوب محدد.

ولم يكن ظهور كبلينغ نفسه وليد المصادفة، ويصدق هذا نفسه على صورة الرجل الأبيض لديه، فأمثال هذه الأفكار وأصحابها تنشأ من ظروف تاريخية وثقافية معقدة، ويشترك اثنان منها في جانب كبير من تاريخ الاستشراق في القرن التاسع عشر، ويتمثل أحدهما في العادة التي باركتها الثقافة، والتي تظهر في استعمال تعميمات شاكلة ينقسم العالم وفقاً لها إلى شتى الفئات الجماعية، مثل اللغات والأجناس والأنماط والألوان والعقليات، بحيث لا تمثل كل فئة تسمية محايدة بقدر ما تمثل تفسيراً يقوم على التقييم.

وخلف هذه الفئات يكمن التعارض بين جانبين اثنين: “ما ينتمي لنا” و “ما ينتمي لهم”، ويطغى الأول دائماً على الأخير (وقد يصل ذلك إلى درجة تحويل “ما ينتمي لهم” إلى مسألة يقتصر التحكم فيها على “ما ينتمي لنا”). ولم تقتصر عوامل دعم هذا التعارض على الأنثروبولوجيا، وعلوم اللغة والتاريخ ولكنها كانت تتضمن أيضاً، بطبيعة الحال، أطروحات داروين عن البقاء والانتخاب الطبيعي، إلى جانب عامل لا يقل عنها حسما، ألا وهو الكلام الطنان عن مذهب ثقافي رفيع يعرف باسم المذهب الإنساني. وأما ما منح كتاباً مثل رينان وأرنولد الحق في إصدار التعميمات عن الأجناس فقد كان يتمثل في الطابع الرسمي لتبحرهم في الثقافة المنهجية. (ولنقل) إن قيمنا نحن” كانت قيما ليبرالية وصحيحة وتؤمن بالرأفة الإنسانية. وكانت تدعمها التقاليد الأدبية، والدراسات العلمية المستنيرة، والبحوث العقلانية، ولقد شاركنا “نحن باعتبارنا أوربيين (وذوى بشرة بيضاء) في هذه جميعاً، في كل مرة يعلي الناس من شأنها ويتغنون بفضائلها. ومع ذلك فـإن المشاركات الإنسانية التي تشكلت من خلال تكرار ذكر القيم الثقافية كانت تضم البعض وتستثني البعض الآخر، إذ نرى في كل فكرة عن الفن الذى أبدعناه “نحن” (وتولى قضيته أرنولد أو راسكين أو مل أو نيومان أو كارلايل أو رينان أو جوينو أو كونت) تشكيل حلقة أخرى من حلقات السلسلة التي تربطنا “نحن” بعضنا بالبعض، واستبعاد حلقة أخرى لا تنتمي إلينا. وحتى لو كان ذلك دائماً من نتائج أمثال تلك الأقوال الطنانة، أينما وحيثما يذكر، فعلينا أن نتذكر أن أوروبا قد شهدت في القرن التاسع عشر إقامة هيكل مهيب من العلم والثقافة، إن صح هذا التعبير، في مواجهة اللامنتمين فعلياً (كالمستعمرات والفقراء والمنحرفين) وكان دورهم في الثقافة هو تحديد ما لا يصلحون هم له بتكوينهم الفطري.

وأما الظرف الآخر الذى يشترك في رسم صورة الرجل الأبيض فيه مع نشأة الاستشراق فهو “المجال” الذى يتحكم فيه كل منهما، وهو الزاوية التي نرى منها كيف يستتبع مثل هذا المجال طرائق خاصة، بل وشعائر خاصة، للسلوك والتعلم والامتلاك. فالغربي وحده، على سبيل المثال، هو الذى يستطع أن يتكلم عن
“شرقيين”، مثلما كان الرجل الأبيض هو الذى يستطيع أن يشير إلى “الملونين” أو الأجناس غير البيضاء، ويسميها بأسمائها. وكان كل قول يقوله المستشرقون أو أصحاب البشرة البيضاء (وكان التعبيران يحلان محل بعضهما البعض) يشير إلى المسافة التي من المحال تقليلها والتي تفصل الأبيض عن الملون، أو الغربي عن الشرقي. وإلى جانب ذلك كنت تسمع خلف أمثال هذه الأقوال أصداء تقاليد الخبرة والعلم والتعليم التي تحكم على الملون الشرقي أن يظل في موقعه موضوعاً يدرسه الأبيض الغربي، بدلاً من العكس. فإذا كان المرء في موقع السلطة – كما كان كرومر، على سبيل المثال – رأى أن الشرقي ينتمى إلى نظام حكم يقوم على مبدأ محدد، وهو التأكد فحسب من عدم السماح للشرقي بالحصول على استقلاله وحكم نفسه في يوم من الأيام. وكانت الحجة تقول إنه ما دام الشرقيون يجهلون الحكم الذاتي، فالأفضل لهم أن يظلوا كذلك، لأن فيه صالحهم.

ولما كان الرجل الأبيض يعيش مثل المستشرق في موقع يقترب كثيراً من “خط التوتر” الذى يكفل “استبعاد” الملونين، فقد كان يشعر أن واجبه يقضى بأن يكون دائماً على استعداد لرسم حدود المنطقة التي يستعرضها وإعادة رسم هذه الحدود. وهكذا يتناوب وقوع الفقرات التي تتضمن سرداً وصفياً، بصورة منتظمة، مع الفقرات التي تتضمن إعادة الإفصاح عن الحدود المرسومة والأحكام الصادرة عليها، وهى الفقرات التي تعترض مجرى السرد، وهذه من الخصائص التي تميز أسلوب الكتابة عند خبراء الشرق الذين كانوا يلبسون قناع الرجل الأبيض الذى رسمه كبلينغ.” (351-355 ص.)

يعود إدوارد سعيد بعدها إلى علم اللغة والدور الذي لعبه الخطاب الإستشراقي “. وهكذا كانت الإشارة إلى ما كان الشرقيون يقدرون عليه وما لا يقدرون عليه تجد دعما لها في بعض “الحقائق” البيولوجية مثل تلك التي أفصح عنها ب. تشارلز ميتشيل في دراسة عنوانها “نظرة بيولوجية إلى سياستنا الخارجية” (1896) ومثل التي نجدها في كتاب توماس هنرى هكسلى بعنوان “الصراع من أجل الوجود في المجتمع البشرى” (1888)  وفى كتاب بنجامين كيد “التطور الاجتماعي” (1894) وكثاب ب. كروزير تاريخ التطور الفكري على نهج المذهب الحديث للنشوء والارتقاء” (1897-1901) وكتاب تشارلز هارقى “بيولوجيا السياسة البريطانية” (1904) وكان المفترض أنه إذا كانت اللغات تختلف عن بعضها البعض على نحو ما قال به علماء اللغة، فإن من يستخدمون اللغة يختلفون اختلافات مماثلة، في عقولهم، وثقافاتهم وإمكاناتهم بل وأجسامهم. وكانت هذه الفوارق تدعمها قوة الحقيقة الوجودية التجريبية، إلى جانب أدلة مقنعة على هذه الحقيقة في الدراسات الخاصة بالأصول والتطور والشخصية والمصير .

أما الذى علينا أن نؤكده فهو أن هذه الحقيقة الخاصة بالفوارق التي تميز الأجناس والحضارات واللغات بعضها عن البعض كانت تعتبر (أو تتظاهر بأنها) حقيقة جذرية لا يمكن اقتلاعها. وكان المعتقد أنها تضرب بجذورها في الأعماق، فتزعم أنه لا مهرب من الأصول، ومن الأنماط التي لولا هذه الأصول ما نشأت، وأنها ترسم الحدود الحقيقية فيما بين البشر، وهى الحدود التي تبنى عليها الأجناس والأمم والحضارات، كما كانت تحول اتجاه النظر فتصرفه عن الحقائق الإنسانية مثل الفرح والمعاناة والتنظيم السياسي وترغم الناظر على الرجوع إلى الأعماق حيث الأصول التي لا تتغير ولا تتبدل. ولا يستطيع العالم أن يهرب في بحثه من هذه الأصول مثلما لا يستطيع الشرقي أن يهرب من “الساميين” أو “العرب” أو الهنود” الذين ينتمى إليهم انتماء يفسره واقعه الراهن، وهو الواقع المنحط المتخلف الرازح تحت الاستعمار، والذى يحكم عليه الاستبعاد (والاختفاء) لولا قام الباحث ذو البـشرة البيضاء بتقديمه في صورة تعليمية.” (ص. 62-63)

ويستمر في ربط ما كتبه رينان بدراسات القرن العشرين فيقول: ” كان رينان يعتبر الساميين نموذجاً لتوقف التطور والنمو، وأصبح ذلك يعني، من زاوية التطبيق العملي، أنه كان من المحال على المستشرق أن يُسلم بقدرة أي سامى حديث مهما يكن إيمانه بأنه حديث، على تخطى المسافة التي تفصله عن أصوله، وهى الأصول التي تتحكم في تنظيم حياته. وكانت هذه القاعدة التطبيقية تسرى على المستويين الزماني والمكاني معا، بحيث لم يكن أحد يعتبر أن أي سامى يستطيع أن يتقدم في الزمن بحيث يتجاوز التطور الذى حققه في الفترة ” الكلاسيكية” ، أو أن يتحرر يوماً ما من البيئة الرعوية الصحراوية لخيمته وقبيلته. وهكذا كان من الممكن، بل من الواجب، إرجاع كل مظهر من مظاهر حياة “الساميين” الفعلية إلى الفئة البدائية التي تشرح ذلك المظهر ألا وهي فئة أو مرتبة “السامية”.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان هذا النظام المرجعي قد ازدادت قوته التنفيذية زيادة هائلة، وأعنى به النظام الذى يتيح إرجاع كل حالة من حالات السلوك الفعلية المنفصلة، بعد اختزالها، إلى عدد صغير من الفئات “الأصلية” التي تشرح تلك الحالة وتوضحها، وكانت مكانته في الاستشراق معادلة لمكانة البيروقراطية في الإدارة العامة في “مؤسسات” الدولة حيث تعتبر المؤسسة” أكبر فائدة من الملفات الفردية، وحيث ترجع أهمية الفرد قطعاً، وفى المقام الأول، إلى أنه السبب في وجود الملف في المؤسسة. ولابد أن نتخيل أن عمل المستشرق يشبه عمل الموظف الكتابي الذى يقوم بوضع ضروب بالغة التنوع من اللفات في خزانة ضخمة تحمل عنوان “الساميين”.” (ص. 364)

ويتابع فيذكر الغرض من ذكر هذا التحول “الذى يشبه المسخ، الذى أصاب فرع التخصص العلمي، البريء نسبياً، في فقه اللغة قد جعل منه طاقة على تدبير حركات سياسية، وإدارة المستعمرات، وإصدار مقولات تكاد تتسم بطابع الرؤى الغبية بشأن صعوبة المهمة الحضارية الموكولة إلى الرجل الأبيض، والملاحظ أن ذلك كله يدور في إطار ثقافة تزعم أنها ليبرالية، وتبدى اهتماماً بالغاً وحرصاً شديداً على ما تباهى به من معايير التعددية والتسامح والقدرة على قبول الاختلاف. وأما ما حدث في الواقع فكان النقيض الكامل لليبرالية، إذ تحجر المذهب والمعنى اللذين أضفاهما “العلم” على “الحقيقة”. فإذا كانت مثل هذه “الحقيقة” تحتفظ لنفسها بالحق في الحكم على الشرق بأن يظل شرقياً بالصور التي أشرت إليها، فلن تزيد الليبرالية عن كونها شكلاً من أشكال القمع والتحيز الذهني.” (ص.392)

وقد ركّز إدوارد سعيد في هذا القسم كثيراً على العملاء الإمبرياليين وراسمي السياسات بدلاً من الباحثين الأكاديميين، رغبة منه على تأكيد التحول الكبير في مسار الاستشراق، ومسار المعرفة بالشرق والتعامل معه، من مرحلة الدراسة الأكاديمية إلى مرحلة الاستعانة به كأداة في الواقع العملي. “فلقد صاحب هذا التحول تغير في الموقف وفي المستشرق الفرد ذاته، إذ لم يعد يحتاج إلى الإحساس بأنه ينتمى – مثل لين وساسى ورينان وكوسان ومولر وغيرهم – إلى جماعة مهنية ذات تقاليد داخلية وشعائر خاصة، بل أصبح المستشرق الآن رجلاً يمثل ثقافته الغربية، وهو رجل يجمع في أطواء عمله ثنائية كبرى، في صورة مضغوطة، وكان عمله نفسه (مهما يكن شكله المحدد) تعبيراً رمزياً عن هذه الثنائية: ألا وهى سيطرة الوعى والمعرفة والعلوم الغربية على أقصى أقاصي الشرق وكذلك على أدق خصوصيات الشرق المفردة. وكان المستشرق يرى صورياً أنه يحقق الوحدة بين الشرق والغرب، وإن كان ذلك يتوسل أساساً بإعادة تأكيد التفوق التكنولوجي والسياسي والثقافي للغرب، وهكذا يتعرض التاريخ، في مثل هذه الوحدة، إلى ما يضعفه ضعفاً شديداً إن لم يؤد إلى إلغائه. فـإذا نظرنا إلى التاريخ الإنساني باعتباره تياراً من التطور، أو خطاً قصصياً، أو قوة دينامية تتجلى بانتظام وفى صور مادية في الزمان والمكان، وجدنا أن هذه النظرة الاستشراقية تضع التاريخ الإنساني للعرب أو الغرب في مرتبة ثانوية بالنسبة للتصور المثالي للشرق والغرب، أي تصور وجود جوهر ثابت لكل منهما. وإحساس المستشرق بأنه يقف على حافة الأخدود الذى يفصل بين الشرق والغرب يجعله لا يقتصر على الحديث بلغة التعميمات الفضفاضة، بل إنه يحاول أيضا تعويل كل جانب من جوانب الحياة الشرقية أو الحياة الغربية إلى سمة مباشرة من سمات هذا النصف الجغرافي أو ذاك”. (ص. 381-382)

الوحدة الثالثة: الاستشراق الأنجلوفرنسي الحديث في أوج ازدهاره

تركز هذه الوحدة على الفرق بين الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى والفترة التي تليها. ولدراسة الفترة ما بين الحربين، استشهد إدوارد سعيد بكلٍ من المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) والمستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (1895-1971). وقد ذكر الطريقة التي وجد الاستشراق فيها سبيلاً إلى دخول العلوم الاجتماعية وذلك عبر “الأنماط والتنميط”. وختماً، ذكر إدوارد سعيد التحول النهائي الذي لحق بالاستشراق وحوله للصورة التي هو عليها اليوم.

يعود السبب الرئيسي في تغّير خطاب الاستشراق – إن صحّ التعبير – بين الفترتين ما قبل الحرب العالمية وما بعدها إلى “تغير الواقع السياسي والثقافي في فترة ما بعد الحرب. كانت السيطرة على الشرق لا تزال قائمة، ولكنها تطورت.” فبعد أن أصبحت مصر تحت الاحتلال البريطاني، وكان “الأهالي يكادون يقبلون وجودها دون معارضة، أصبحت قضية سياسة يشتد الخلاف حولها يوماً بعد يوم، وتزيد من تعقيدها مطالب الاستقلال الوطنية المناوئة لتلك السيطرة.” وتبعاً لذلك، اختلفت الأسس التي ينطلق منها هذا الخطاب، كما اختلفت أولوياته، “إذ لم يعد من الممكن لأحد أن يقبل، دون جدل شديد، القول بأن سيطرة أوروبا على الشرق تكاد تكون من حقائق الطبيعة، بل ولم يعد أحد يفترض أن الشرق في حاجة إلى التنوير الغربي: كانت القضية المهمة في سنوات ما بين الحربين قضية وضع تعريف ثقافي للذات [الغربية] يتجاوز النظرة الإقليمية وكراهية الأجانب.” (ص. 397)

وتضمنت “الأعمال الاستشراقية التي شهدتها فترة ما بين الحربين – والتي تمثلها الحياة العملية الباهرة للباحث الفرنسي ماسينيون وللإنجليزي جيب نفسه – بعض العناصر التي تتميز بها أفضل الدراسات الإنسانية في تلك الفترة. وهكذا فإن لنا أن نعتبر أن الاتجاه إلى التلخيص أو الإجمال، الذي سبق لي الحديث عنه، هو المعادل الاستشراقي للمحاولات التي بذلت في مجال العلوم الإنسانية الغربية البحتة لتفهم الثقافة باعتبارها كياناً كلياً، بأسلوب حدسي متعاطف مضاد للمنطق الوضعي. فالمستشرق وغير المستشرق ينطلقان من إدراكهما أن الثقافة الغربية تمر بمرحلة مهمة، وأن سمتها الأساسية هي الأزمة التي فرضتها عليها بعض الأخطار، مثل خطر الهمجية، والاهتمامات التقنية الضيقة، والجدب الأخلاقي، والنزعة القومية الحالية النبرة، وما إلى ذلك بسبيل. كما نرى أن فكرة استخدام نصوص محددة، على سبيل المثال، للانطلاق من الخاص والعام (ابتغاء فهم الحياة الكاملة لفترة ما، ومن ثم تفهم ثقافة ما) فكرة يشترك فيها الباحثون الغربيون في العلوم الإنسانية الذين يستلهمون عمل قيلهلم دلثي، وكذلك عمالقة المستشرقين مثل ماسينون وجيب. ولذلك نجد في أن مشروع بث حياة جديدة في فقه اللغة يقابله مشروع مناظر له في محاولات التجديد وبث الروح في دراسات المستشرقين المتسمة بالتقنية الصارمة لفقه اللغة … ولكننا نلمح رابطة أخرى، أهم من هذه، بين الاستشراق في هذه المرحلة من تاريخه وبين علوم الإنسان الأوروبية (ما يسميه الفرنسيون علوم الإنسان، والألمانيون العلوم الإنسانية) المعاصرة لها. وعلينا أن نشير أولاً إلى أن الدراسات الثقافية غير الاستشراقية كانت بالضرورة تفوق الدراسات الاستشراقية في تصديها للأخطار التي تتهدد الثقافة الإنسانية ذات التخصص التقني الذي يضخم صورة الذات ويستبعد دور الأخلاق، وهي الأخطار التي تتمثل، إلى حد ما على الأقل، في ارتفاع مد الفاشية في أوروبا. وأدى هذا التصدي إلى امتداد شواغل فترة ما بين الحربين واستمرارها في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية أيضاً.” (ص. 398-399)

كما قد نشأت قوة ثقافية أخرى “لا تقل قدرتها على التشكيل المنهجي، ألا وهي استخدام العلوم الاجتماعية “لأنماط” باعتبارها وسيلة للتحليل وأسلوباً لرؤية الأشياء المألوفة بطرائق جديدة. ولقد اهتم عدد كبير من الدارسين بدراسة التاريخ المُحدد “للنمط” على نحو ما نجده عند مفكري مطلع القرن العشرين” من المتخصصين في علم الاجتماع. ولا تزال فكرة “النمط” – شرقياً أو إسلامياً أو عربياً أو سوى ذلك – فكرة صامدة، وتغذيها ألوان مماثلة من التجديدات أو النماذج أو الأنماط التي تأتي بها العلوم الاجتماعية الحديثة. (ص. 400) ويبدو ذلك جلياً في الاستشراق الإسلامي في الوقت الحاضر، “أي موقفه الذي يتسم بالتراجع والتقهقر إن قورن بالعلوم الإنسانية الأخرى (بل حتى بفروع الاستشراق الأخرى) وتخلفه المنهجي والأيديولوجي العام، وعزلته النسبية عن التطورات الجارية من حوله، سواء كان ذلك في العلوم الإنسانية الأخرى أو في العالم الحقيقي الذي تتغير فيه الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.” (ص. 402)

ويرجح إدوارد سعيد ترجيحاً شديداً إلى أن “الباحثين الأوروبيين قد استمروا ينظرون إلى الشرق الأدنى من منظور “أصوله” الواردة في الكتاب المقدس، أي باعتباره ذا مكانة دينية رفيعة مؤثرة ولا تتزعزع. ولما كان الإسلام يتميز بعلاقة خاصة مع المسيحية واليهودية، فلقد ظل يمثل في نظر المستشرق فكرة (أو نمط) الوقاحة الثقافية – الأصلية، وهي النظرة التي تفاقمت، بطبيعة الحال، بسبب الخوف من أن تكون الحضارة الإسلامية قد استمرت بصورتها الأصلية (بل والمعاصرة أيضاً) في الوقوف موقف المعارضة على نحو ما للغرب المسيحي.” (ص. 401)

وفي هذا السياق، أوفى كل من جيب ومسينون بكل التوقعات التي أوجدتها لهما تقاليدهما القومية التي ينتمي إليها كل منهما. ويميز سيلقان ليفي بين هاتين المدرستين تميزاً واضحاً قاطعاً، إذ يقول:

إن الاهتمام السياسي الذي يربط إنجلترا بالهند يجعل النشاط البريطاني مقصوراً على الاتصال المستمر بالحقائق العملية، ويحافظ على التماسك بين كل ما يمثل الماضي وبين مشهد الحاضر.

وأما فرنسا التي تغذوها التقاليد الكلاسيكية فإنها تنشد تجليات عقل الإنسان في الهند، وبالصورة التي تبدي بها اهتمامها بالصين.

وقد يسهل القول بأن هذا التقسيم إلى قطبين معناه أن أحدهما يؤدي إلى العمل العقلاني المتسم بالكفاءة والطابع العملي وأن الآخر يؤدي إلى عمل ذي طابع عام عالمي، تأملي، نابه متألق، ومع ذلك فإن هذه “القطبية” توضح لنا طابع الحياة العملية الطويلة والمتميزة إلى حد بعيد لكل من جيب الإنجليزي وماسينيون الفرنسي، وقد ساد طابع عمل الأول الاستشراق الإسلامي الأنجلوأمريكي مثلما ساد طابع عمل الثاني الاستشراق الإسلامي الفرنسي، وذلك في الحالتين حتى الستينات من القرن العشرين. وإذا كان ما وصفته “بالسيادة” يدل على شيء ما، فإن السبب هو أن كل باحث منهما كان يستلهم ويعمل في إطار تقاليد واعية تخضع لضوابط (أو لحدود فكرية سياسية) ينطبق عليها وصف ليفي الذي أورده آنفاً.

ولد جيب في مصر، وولد ماسينون في فرنسا، وقد كتب لكل منهما أن يتسم بالتدين العميق، وأن يصبح دارساً للحياة الدينية في المجتمع أكثر منه دارساً للمجتمع وحسب، وكان كلاهما أيضاً مشغولاً انشغالاً عميقاً بشؤون الدنيا، وكان من أعظم منجزاتهما الانتفاع بالبحث العلمي التقليدي في دنيا السياسة الحديثة. ومع ذلك فقد كان نطاق عمل كل منهم – بل وأكاد أقول نسيج العمل نفسه – يختلف اختلافاً شاسعاً عن صاحبه، حتى ولو أدخلنا في حسابنا ألوان التفاوت الواضحة بين تعليم كل منهما وتربيته الدينية. ولقد وقف ماسينيون حياته على دراسة أعمال الحلاج، حتى لقد قال عنه جيب في النعي الذي كتبه له في عام 1962 إنه “لم يتوقف قط عن استشفاف آثاره في الكتابات الأدبية والدينية الإسلامية المتأخرة” وكان نطاق عمل ماسينيون لا يكاد يعرف الحدود، ويكاد يجوب به كل الأصقاع حيثما وجد الشواهد على “روح الإنسان التي تتخطى المكان والزمان”. وكان عمل ماسينيون قد اتسع فأصبح “يشمل كل جانب ومجال في حياة المسلم المعاصر وفكره”، بحيث أصبح وجوده في مباحث الإستشراق يمثل تحدياً دائماً لزملائه.” (ص.406-407)

وقد كتب ماسينيون في عام 1951 “يقول عن هذا اللون من الاستشراق “لا يمثل ولعاً بالغرائب ولا تبرؤاً من أوروبا، ولكنه محاولة للمساواة بين مناهج بحوثنا والتقاليد الحية للحضارات القديمة”. وحينما يبدأ تطبيق هذا اللون من الاستشراق في قراءة نص عربي أو إسلامي، فلا بد أن يؤدي إلى تفاسير تتسم بذكاء يكاد يكون قاهراً، ومن الحمق ألا يبدي المرء احترامه لعبقرية ذهن ماسينيون وجدة تفكيره. ولكن لا بد أن يشد انتباهنا في تعريف ماسينيون للون الاستشراق الخاص به عبارتان هما “مناهج بحوثنا” و “التقاليد الحية للحضارات القديمة”، أي إن ماسينيون كان يرى أن ما يفعله يمثل مركباً أو تركيباً من شيئين متعارضين إلى حد ما، ومع ذلك فإن ما يقلق القارئ هو “اللاتمثل” الغريب بينهما، ولا مجرد التعارض بين أوروبا والشرق، إذ يوحي ماسينيون بأن جوهر الاختلاف بين الشرق والغرب هو الاختلاف بين الحداثة والتقاليد العريقة. والواقع أن التعارض بين الشرق والغرب يظهر في صورة بالغة الغرابة في كتابات ماسينيون عن المشكلات السياسية والمعاصرة، حيث تبدو جوانب قصور منهج ماسينيون بأشد صورها المباشرة وضوحاً.

وتتجلى رؤية ماسينيون للتلاقي بين الشرق والغرب في أفضل صورها حين يهاجم الغرب ويحمله المسؤولية الكبرى عن غزو الشرق واستعماره، وعن هجماته الضارية على الإسلام فلقد كان ماسينيون مدافعاً لا يكل ولا يمل عن الحضارة الإسلامية، على نحو ما تشهد به مقالاته ورسائله التي كتبها بعد عام 1948، تأييداً للاجئين الفلسطينيين، ودفاعاً عن حقوق العرب المسلمين والمسيحيين في فلسطين وضد الصهيونية، وضد ما أطلق عليه عبارته اللاذعة، أي “الاستعمار البرجوازي”، التي يشير فيها إلى شيء ذكره أباإيبان. ومع ذلك فإن الإطار الذي لم تخرج عنه رؤية ماسينيون كان يخصص، بصفة أساسية، الماضي السحيق للشرق الإسلامي ويخصص الحداثة للغرب. وكان ماسينيون … لا يعتبر الشرقي إنساناً حديثاً بل إنساناً سامياً، وهي الفئة “الاختزالية” التي كانت تسيطر سيطرة محكمة على تفكيره.” (ص. 415-415)

أمّا بالنسبة لجيب، فيرى “أن أي إيضاح لماهية الإسلام تحدده دائماً هذه القيود الميتافيزيقية، والواقع أنه يُفصل القول في هذه المسائل إلى حد كبير في كتابيه المهمين اللذين أصدرهما في الأربعينيات وهما التيارات الحديثة في الإسلام وكتاب الديانة المحمدية: استقصاء تاريخي. ففي كليهما يبذل جيب جهداً كبيراً في مناقشة الأزمة الحالية في الإسلام وفي تبيان مدى التعارض بين الكيان الأساسي الراسخ للإسلام وبين المحاولات الحديثة لتعديله. ولقد سبقت لي الإشارة إلى معاداة جيب لتيارات التحديث في الإسلام والتزامه الصارم بما يمسى المذهب الصحيح للإسلام، وحان لي أن أذكر تفضيل كلمة المحمدية على كلمة الإسلام (ما دام يقول إن الإسلام يقوم في الواقع على فكرة الخلافة النبوية التي وصلت ذروتها في محمد) ويذكر إدوارد سعيد تأكيده بأن العلم الرئيسي الإسلامي هو القانون، وهو الذي حل في وقت مبكر محل اللاهوت أو علم التوحيد الإسلامي. والغريب في هذه الأقوال هو أنها مقولات عن الإسلام لا تستند إلى أدلة داخلية في الإسلام بل إلى منطق تعمد صاحبه أن يأتي به من خارج الإسلام، فلن تجد مسلماً يدعو نفسه محمدياً، ولن تجد مسلماً، في حدود ما هو معروف، يرى بالضرورة أن القانون أهم من التوحيد، ولكن ما يفعله جيب هو أنه يوقع نفسه كباحث علمي في تناقضات يصرح بها هو نفسه عندما يصل إلى موقف في “الإسلام” يرى فيه “انفصالاً مضمراً بين الحركة الشكلية الخارجي وبين الحقائق الداخلية”. والمستشرق إذن يرى أن مهمته تكمن في الإفصاح عن هذا الانفصال، ومن ثم قول الحق عن الإسلام أو التعبير عن حقيقته التي لا يستطيع التعبير عنها، ما دامت تناقضاته تحد من طاقته على معرفة نفسه.” (ص. 429-430)

“وهكذا استطاع جيب وماسينيون ببراعة تسويد صفحات تلخص تاريخ الكتابة الاستشراقية في الغرب، بالصورة التي يتجسد فيها هذا التاريخ في أسلوب يختلف في تعميمه وفى تناوله للأماكن المختلفة، بعد أن تحول آخر الأمر إلى اتخاذ صورة موحدة في البحث العلمي الذى ينحصر في الكتابة عن فكرة واحدة، إذ نصادف عند جيب وماسينيون ما يسمى بالعينة الشرقية، والتطرف الشرقي، والوحدة المعجمية الشرقية، واللغة الشرقية المتوالية الحلقات، والنموذج الشرقي، وهما يخضعان ذلك كله لسلطة التحليل العقلاني التي تتمتع باليد الطولى وبأسلوب النثر الذى يسير في خط واحد لا يحيد عنه، والذى نراه في المقالات القصيرة والطويلة والكتب العلمية. وعلى امتداد الفترة التي شهدت إنتاجهما، أي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى أوائل الستينيات، تعرضت ثلاثة من الأشكال الرئيسية للكتابة الاستشراقية لتحول جذري، وهى شكل الموسوعة، وكتاب المنتخبات، والانطباعات الشخصية، بمعنى أن سلطة هذه الأشكال قد أعيد توزيعها أو نشرها فيما بين أشكال أخرى أو قل إنها فقدت شكلها الأصلي تماماً، إذ كان العمل فيها يحال إلى لجنة من الخبراء (كاللجنة التي وضعت دائرة المعارف الإسلامية، و تاريخ كمبريدج للإسلام) أو يتحول إلى مستوى أدنى من مستويات الخدمة (مثل تعلم مبادئ اللغة الذى لا يهيئ المتعلم للعمل في السلك الدبلوماسي، على نحو ما شهدناه في حالة منتخبات ساسي، ولكن لدراسة علم الاجتماع أو الاقتصاد أو التاريخ) أو يتحول إلى مجال الكشف المثير (وهو ما يتصل بالشخصيات أو بالحكومات لا بالمعرفة ، ولورنس هو المثال الواضح على ذلك). لقد شهدنا كيف كان جيب يكتب بأسلوب ينم بهدوء عن عدم اكتراث وإن كان في حقيقته يعتمد على التتابع المنطقي العميق، ورأينا كيف كان ماسينيون يتمتع بملكة الفنان الفطرية، ولا يرى مغالاة في أي إشارة يأتي بها ما دامت تخضع لموهبته التفسيرية الفذة، ولقد مكن هذان الباحثان من الدفع بما يتمتع الاستشراق الأوروبي من سلطة، وهى التي تقوم في جوهرها على توحيد مذاهبها، إلى أقصى مدى تستطيع بلوغه. أما الواقع الجديد الذى ظهر في أعقابهما – وهو الأسلوب المتخصص الجديد – فكان، بصفة عامة، أنجلوأمريكياً، وكان، بصفة خاصة، يتمثل في لغة العلوم الاجتماعية الأمريكية. وفى هذا الواقع الجديد انقسم الاستشراق القديم إلى أجزاء كثيرة، لكنها ظلت جميعا “تخدم” العقائد الاستشراقية التقليدية.” (ص. 434-435)

الوحدة الرابعة: آخر مرحلة

تأتي هذه الوحدة كختام مُقنع لكل ما سبق ذكره في هذه الدراسة المطولة لخطاب الاستشراق وكأن كل ما ذُكر سابقاً ما ذُكر إلا ليثبت صحة ما يرد فيها. وقد قسّمها إدوارد سعيد إلى ثلاثة أجزاء: 1) الصور الشعبية والصور التمثيلية في العلوم الاجتماعية، 2) سياسة العلاقات العامة، 3) مجرد الإسلام، وأخيراً 4) الشرقيون الشرقيون الشرقيون.

“بدأ ظهور شخصية العربي المسلم في الثقافة الشعبية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وبصورة أوضح بعد كل حرب بين العرب وإسرائيل، وذلك حتى بعد الاهتمام الشديد الذى بدأ العربي يحظى به في الحياة الأكاديمية، وفى عالم تخطيط السياسات، ودنيا التجارة والأعمال، وهو ما يرمز إلى تغير كبير في التشكيلات الدولية للقوى، إذ لم تعد فرنسا وبريطانيا تشغلان الموقع الرئيسي على مسرح السياسة العالية، بعد أن حلت السلطة الأمريكية المهيمنة محلهما، وظهرت شبكة شاسعة الأطراف من المصالح التي تربط ما بين جميع مناطق العالم التي كانت مستعمرة وبين الولايات المتحدة، كما إن فروع التخصص الأكاديمي التي انتشرت أصبحت تقوم على تقسيم جميع الباحث اللغوية السابقة التي كانت أوروبا مقراً لها، مثل الاستشراق، (وتقيم الروابط فيما بينها أيضاً) فلدينا الأن ما يسمى “المتخصص في منطقة ما وهو الذى يزعم الخبرة بذلك الإقليم، ويضع تلك الخبرة في خدمة الحكومة أر رجال الأعمال أو كليهما. وهكذا فإن المعرفة الهائلة، شبه المادية المختزنة في حوليات الاستشراق الحديث – على نحو ما سجلها، مثلاً، جول مول في التوثيق المحكم الذى أعده عن ذلك المجال في القرن التاسع عشر – قد تعرضت “للتذويب” والدفع بها في أشكال جديدة، وأصبحنا نشاهد الآن ضروباً منوعة من الصور المهجنة التي تمثل الشرق وهى تنتقل في الثقافة من مكان لمكان. ولقد كانت للصور التي تمثل اليابان، والهند الصينية، والصين، والهند، وباكستان، أصداؤها الشاسعة، ولا تزال تحدث هذه الأصداء، كما كانت تتعرض للمناقشة في أماكن كثيرة، لأسباب واضحة.” (ص. 436)

  1. الصورة الشعبية والصور التمثيلية في العلوم الاجتماعية

عادت صورة العربي للظهور بعد حظر النفط العربي في عام 1973 “في كل مكان في صورة تنذر بخطر أشد، فكثيراً ما كانت تظهر الرسوم الكاريكاتورية التي تصور شيخاً عربياً يقف خلف مضخة للبنزين.” ونتيجة لذلك، كان للعربي موقع يستلزم الانتباه له، “فإنه يمثل قيمة سلبية، إذ يراه الناس في صورة من يتهدد وجود إسرائيل ووجود الغرب، أو من وجهة نظر أخرى للأمر نفسه، في صورة عقبة أمكن تخطيها لإنشاء إسرائيل عام 1948.” (ص. 437)

وأما في السينما والتليفزيون فترتبط صورة العربي إما بالفسوق أو الخيانة وسفك الدماء، فهو يظهر في صورة صاحب الشهوة الجنسية الطاغية، المنحل المنحط، القادر ولاشك على أن يحيك مؤامرات خبيثة بارعة، لكنه في جوهره يتلذذ بتعذيب غيره، خثون، وضيع. ومن الأدوار التقليدية للعربي في السينما دور تاجر الرقق، وسائق الجمال، والصراف، والوغد الجذاب، وكثيراً ما يظهر القائد العربي (لعصابة لصوص أو قراصنة أو جماعة من “الأهالي” المتمردين) في صورة من يسخر من البطل الغربي الذى أسروه مع صاحبته الشقراء (وصورتهما تنضح بالخلق السوى) قائلاً “سوف يقتلكما رجالي – ولكنهم يريدون التسلي أولاً”. وهو يرمقهما بنظرات خبيثة موحية أثناء حديثه، وهذه هي الصورة المنحطة الحديثة لشخصية الشيخ التي قام بها فالنتينو. وأما في النشرات أو الصور الإخبارية فالعربي يظهر دائماً في حشود كبيرة، وينتفي اعتباره فرداً يتمتع بخصائص أو خبرات شخصية. والصور تمثل الغضب الجماهيري الجامح والبؤس، أو الحركات غير العقلانية (التي تبدو شاذة وميؤوساً منها). وخلف جمع هذه الصور يكمن التهديد بخطر الجهاد، أو الخوف من أن المسلمين (أو العرب) سوف يستولون على العالم.” (ص. 438-439)

أما بالنسبة للمجال الأكاديمي، فأفضل مثال على ذلك التقرير الذي أعده “مورو بيرجر عام 1967 ، وهو أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون، بناء على طلب وزارة الصحة والتربية والرعاية الاجتماعية، وكان عندها رئيس رابطة دراسات الشرق الأوسط، وهى الجمعية المهنية التي تضم الباحثين المعنيين بجميع جوانب حياة الشرق الأدنى “أساساً منذ نشأة الإسلام من وجهة نظر علم الاجتماع والعلوم الإنسانية” والتي تأسست في عام 1967، وقد جعل عنوان دراسته “دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: التطورات والاحتياجات” ونشرها في العـدد الثاني: من نشرة تلك الجمعية. ويبدأ بيرجر باستعراض أهمية هذا الإقليم استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً للولايات المتحدة، ثم يعرب عن تأييده لشتى مشروعات دعم البرامج الدراسية في الجامعات التي اضطلعت بها حكومة الولايات المتحدة والمؤسسات الخاصة مثل قانون التعليم الخاص بالدفاع الوطني الصادر في عام 1958 (والذى يمثل مبادرة مستلهمة مباشرة من نجاح الاتحاد السوفييتي في إطلاق القمر الصناعي الأول سيرتيك) وإقامة الروابط بين مجلس بحوث العلوم الاجتماعية وبين ودراسات الشرق الأوسط – وينتهى بيرجر إلى النتائج التالية:

لا يعتبر إقليم “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” الحديث مركزاً للإنجاز الثقافي العظيم، وليس من المحتمل أن يصبح كذلك في المستقبل القريب. ومن ثم فإن دراسة الاقليم أو لغاته غير مجزية في ذاتها من زاوية الثقافة الحديثة.

… وليس إقليمنا مركزاً لقوة سياسية كبرى ولا يتمتع بإمكانات اكتساب هذه القوة . .. وأهمية الشرق الأوسط السياسية المباشرة للولايات المتحدة آخذة في الانحسار (ويصدق ذلك بدرجة أقل على شمال إفريقيا) بالمقارنة بإفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأقصى (حتى من زاوية “احتلال العناوين الرئيسية” أو تسببه في “المتاعب”).

…وهكذا فإن الشرق الأوسط المعاصر لا يتمتع إلا بقدر ضئيل من الخصائص التي تبدو مهمة في اجتذاب أنظار الباحثين. ولكن هذا لا ينتقص من صحة دراسة المنطقة والقيمة الفكرية لهذه الدراسة، ولا يمس نوعية العمل الذى يقوم به الباحثون فيها، وإن كان يضع حدوداً، وعلينا أن ندركها، لطاقة المجال على قبول الزيادة في أعداد الباحثين والدارسين فيه.”

من الواضح أن ما يتنبأ به بيرجر هنا يدعو للأسف إلى حد كبير، ويزيد من هذا الأسف أن المسؤولين لم يكلفوه بوضع هذا التقرير بسبب خبرته فحسب بالشرق الأدنى، بل لأنهم كانوا يتوقعون منه – على نحو ما يتضح في ختام التقرير – أن يكون في موقع يمكنه من التنبؤ بمستقبل الإقليم ومستقبل السياسات الخاصة به. وأعتقد أن عجزه عن أن يدرك أن الشرق الأوسط يتمتع بأهمية سياسية كبرى، وأنه قد يكتسب قوة سياسية كبيرة، لا يعتبر انحرافاً عارضاً في الحكم، فالخطآن الرئيسيان اللذان يرتكبهما بيرجر واردان في الفقرتين الأولى والأخيرة، وكلاهما ينحدر تاريخياً من سلالة الاستشراق على نحو ما درسناه حتى الآن. فإذا نظرنا إلى ما يقوله بيرجر عن عدم وجود إنجاز ثقافي عظيم، وما ينتهى إليه بشأن دراسة الإقليم في المستقبل – أي إن الشرق الأوسط لا يجتذب اهتمام الباحثين بسبب وجوه ضعفه المتأصلة – وجدنا تكراراً دقيقا للرأي الاستشراقى المعتمد الذى يقول إن الساميين لم ينشئوا قط ثقافة عظمى، وإن العالم السامي، كما قال رينان مراراً وتكراراً، أفقر من أن يجتذب الاهتمام العالمي يوماً ما. ومعنى هذا أن بيرجر كان يؤكد موقفه الأساسي باعتباره مستشرقاً، فهو يكرر الأحكام التي أصبحت تقليدية راسخة، ويرفض رفضاً قاطعاً أن يدرك ما تشهده عيناه، إذ لم يكن بيرجر يكتب ما كتب منذ خمسين سنة، بل في الفترة التي كانت الولايات المتحدة تستورد فيها نحو عشرة في المائة من إمدادات نفطها من الشرق، وكانت استثماراتها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة بالغة الضخامة. وما يقوله، في الواقع، هو إنه لولا أشخاص من أمثاله لانتهى مصير الشرق الأوسط إلى التجاهل، وإنه لولا دوره في الوساطة والتفسير لما تمكن أحد من فهم ذلك المكان، لسببين: الأول أن ما يتطلب الفهم فيه محدود وغريب إلى حد بعيد، والثاني هو أن المستشرق وحده هو الذى يستطيع تفسير الشرق، ما دام الشرق يعجز عجزاً متأصلاً عن تفسير ذاته .

وأما أن بيجر لم يكن مستشرقاً كلاسيكياً عندما كتب هذا الكلام (فهو ما لم يكنه وليس كذلك حتى الآن) بقدر ما كان عالم اجتماع محترف، فذلك لا يقلل من مدى الدين الذى يدين به للاستشراق وأفكاره. ومن بين هذ الافكار نزعة اكتسبت شرعية خاصة، وهى نزعة النفور من المادة التي تمثل القاعدة الرئيسية لدراسته وخفض قيمتها، وكانت نزعة بلغ من قوتها عند بيرجر تعتيم الحقائق الفعلية التي تشهدها عيناه، وهى تؤدى إلى ما هو أعجب، إذ لا تلزمه بأن يسأل نفسه: لماذا يوصي أي فرد بتكريس حياته لدراسة ثقافة الشرق الأوسط، على نحو ما فعل هو، ما دام ذلك الإقليم “ليس مركزاً للإنجاز الثقافي العظيم”؟ والباحثون قد يدرسون، أكثر من الأطباء مثلاً، ما يحبونه وما يحظى باهتمامهم، ولا يدفع الباحث إلى دراسة ما لا يكن له تقديراً إلا الإحساس المبالغ فيه بالواجب الثـقافي”. (ص. 440-442)

وقد خصص إدوارد سعيد هذا الجزء للحديث على “بيرجر باعتباره مثالاً عن الموقف الأكاديمي تجاه الشرق الإسلامي، إذ يوضح لنا هذا المثال كيف يدعم المنظور العلمي الصور الكاريكاتورية التي تحظى بالدعاية في الثقافة الشعبية، ولكن بيرجر أيضاً يرمز إلى أشد صور التحول في الاستشراق شيوعاً، ألا وهو تحوله من مبحث في فقه اللغة في المقام الأول، وفهم عام وغامض للشرق، إلى تخصص دقيق في علم الاجتماع. لم يعد المستشرق يحاول أولاً إجادة اللغات “الباطنة ” للشرق، بل يبدأ باعتباره متخصصاً في علم الاجتماع في “تطبيق” علمه على الشرق أو على أي مكان آخر، وهذه هي المساهمة الأمريكية الخاصة في تاريخ الاستشراق، وقد نشأت، على وجه التقريب، في الفترة التي تلت الحرب العالية الثانية مباشرة، حين وجدت الولايات المتحدة أنها تشغل الموقع الذى أخلته بريطانيا وفرنسا، وأما الخبرة الأمريكية بالشرق قبل تلك اللحظة “الاستثنائية” فكانت محدودة: كان بعض الكتاب الأمريكيين الذين يشعرون بالعزلة الثقافية مثل هيرمان ملفيل يبدون اهتماماً بالشرق، وبعض الكتاب الساخرين من أمثال مارك توين يزورون الشرق ويكتبون عنه، وكان دعاة مذهب “التعالية” يرون الروابط القائمة بين الفكر الهندي وتفكيرهم، وكان بعض رجال اللاهوت المسيحىي ودارسي الكتاب المقدس يتعلمون اللغات الشرقية الخاصة بالكتاب المقدس، وكانت تقع بعض اللقاءات مع قراصنة البربر وأمثالهم، دبلوماسياً وحربياً، وبعض الحملات البحرية المتفرقة في الشرق الأقصى، وكذلك، كما هو معروف، البعثات التبشيرية إلى كل مكان في الشرق، ولكن الولايات المتحدة لم تشهد تقاليد استشراقية تمثل استثماراً عميق الجذور، وهكذا فإن المعرفة بالشرق لم تتعرض مطلقاً لخطوات التنقيح وإقامة الشبكات وإعادة البناء التي بدأت في دراسة فقه اللغة، وهى التي مرت بها في أوروبا. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لم تستثمر الشرق في الإبداع الأدبي مطلقاً، ربما لأن الحدود التي اتجهت الأنظار إلى “استثمارها”، أو التي يعتد بها، كانت تقع في الغرب الأمريكي. وهكذا أصبح الشرق، في أعقاب الحرب العالية الثانية مباشرة، قضية إدارية أو مسألة خاصة بالسياسات الأمريكية، لا قضية عامة شاملة على نحو ما كأنه الشرق بالنسبة لأوروبا على امتداد قرون طويلة. وهكذا دخل الساحة عالم الاجتماع والخبير الجديد، وهما اللذان تكفلا بحمل لواء الاستشراق، وإن كانت سواعدهما أضعف قليلاً من سواعد أسلافهم. ولقد قاما بدورهما، كما سنرى، بإدخال تغييرات فيه حتى اختلفت معالمه اختلافاً شبه كامل. ولكن المستشرق الجديد خلف الأسلاف، على أية حال، في اتخاذ مواقف العداء الثقافي والمحافظة عليها.

ومن الملامح البارزة للاهتمام الأمريكي الجديد بالشرق من منظور علم الاجتماع تجنبه الغريب للأدب، فقد تقرأ صفحات لا تحصى مما يكتبه الخبراء عن الشرق الأدنى الحديث دون أن تصادف إشارة مفردة للأدب، إذ يبدو أن “الخبير” بالإقليم يهتم أشد اهتمام بما يعتبره “حقائق”، وربما أدى النص الأدبي إلى اضطراب في هذه الحقائق. وحصيلة تأثير هذا التجاهل العجيب للوعى الأمريكي الحديث بالشرق العربي أو الإسلامي هو حبس الإقليم وسكان الإقليم في قالب فكرى مغلق، بعد اختزال هذا وذاك في “مواقف” و”اتجاهات” وإحصائيات، وباختصار بعد سلبهما الطابع الإنساني.” (ص. 443-444)

  1. سياسة العلاقات الثقافية

“إذا كان من الصحيح القول بأن الولايات المتحدة لم تصبح في الواقع امبراطورية عالمية حتى القرن العشرين، فمن الصحيح أيضاً أنها قد شغلت في القرن التاسع عشر بالشرق بالصورة التي مهدت لانشغالها الإمبريالي السافر بالشرق فيما بعد.” ومن الأمثلة التي نظر فيها إدوارد سعيد هي “تأسيس الجمعية الشرقية الأمريكية في عام 1842، إذ تحدث رئيس الجمعة في أول اجتماع سنوي تعقده، وكان ذلك في عام 1842، واسمه جون بيكرينج، وقال بوضوح وجلاء إن أمريكا تعتزم دراسة الشرق حتى تحذو حذو الدول الإمبريالية الأوروبية. وكانت رسالة بيكرينج تقول إن إطار الدراسات الشرقية – آنذاك وحالياً – إطار سياسي لا علمي وحسب.” (ص. 449)

“وكان موقف الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى الذى أصبح يمثل اهتماماً رئيسياً، في سياسات الولايات المتحدة، بالصهيونية وباستعمار فلسطين، قد لعب دوراً لا يستهان به في دخول الولايات المتحدة الحرب، كما إن المناقشات في بريطانيا قبل إعلان بلفور (نوفمبر 1917) وبعده كان يتجلى فيها مدى الجدية التي كانت الولايات المتحدة تنظر بها إلى هذا الإعلان وفى أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، تصاعد اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط تصاعداً كبيراً، فكانت القاهرة وطهران وشمال إفريقيا ساحات هامة في الحرب، ونظراً لاستغلال النفط في تلك المنطقة واستغلال مواردها الاستراتيجية والبشرية الذى كانت بريطانيا وفرنسا رائدتين فيه، تأهبت الولايات المتحدة للاضطلاع بدورها الإمبريالي بعد الحرب.

ولم يكن أقل جوانب هذا الدور شأناً “سياسة العلاقات الثقافية” – وفق التعريف الذى وضعه مورتيمر جريفز لها عام 1950، وقال إن هذه السياسة تتضمن محاولة الحصول على “كل المطبوعات ذات الشأن بجميع اللغات المهمة في الشرق الأدنى والمنشورة منذ عام 1900″ وهذه محاولة يجب على الكونجرس في بلدنا الإقرار بها باعتبارها من تدابير أمننا القومي”. وجاء في الحجة التي عرضها جريفز (وأقول عرضا إنها لقيت آذاناً صاغية إلى أقصى حد) إن القضية المعروضة تتعلق، بوضوح، بضرورة “الارتقاء كثيراً بالفهم الأمريكي للقوى التي تناوئ الفكرة الأمريكية بقبول الشرق الأدنى لنا. وأهم هذه القوى، بطبيعة الحال، هي الشيوعية والإسلام، وقد أدى هذا القلق إلى نشأة الجهاز الهائل للبحث العلمي في الشرق الأوسط، فكأنما كان هذا الجهاز ملحقاً معاصراً بالجمعية الشرقية الأمريكية التي كانت أكثر اهتماماً بالماضي.” (ص. 450)

“والتوازي بين الخطط الإمبريالية في أوروبا وأمريكا بشأن الشرق (الأدنى والأقصى) واضح، وربما لم تكن الأمور التالية لا تتمتع بنفس الوضوح وهى: (أ) مدى ما تعرضت له تقاليد البحث الاستشراقى الأوروبي من تكييف ومن إضفاء الصبغة الطبيعية والألفة عليها وإشاعتها على المستوى الشعبي، وإن لم يصل ذلك إلى حد الاستيلاء، عليها، ثم إدراجها في تيار ازدهار دراسات الشرق الأوسط فى الولايات المتحدة؛ و(ب) مدى ما أدت إليه التقاليد الأوروبية من نشأة موقف متماسك في الولايات المتحدة يشترك فيه معظم الباحثين والمؤسسات، وأساليب “الخطاب”، والتوجهات، على الرغم من مظهر التنقيح المعاصر، إلى جانب استخدام تقنيات علم الاجتماع (من جديد) التي تتخذ مظهر التقدم البالغ. ولقد سبق لي أن ناقشت أفكار جيب، لكنني يجب أن أشير إلى أنه أصبح في منتصف الخمسينات مديراً لمركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط، وكان لتفكيره وأسلوبه بفضل هذا المنصب نفوذهما المهم. وكان وجود جيب في الولايات المتحدة يختلف من حيث ما فعله من أجل هذا المجال عن وجود الأستاذ فيليب حتى في جامعة برنستون منذ أواخر العشرينات، إذ تخرج في جامعة برنستون عدد كبير من أهم الباحثين، وأدى النوع الخاص من الدراسات الشرقية فيها إلى إثارة اهتمام كثير من الباحثين بهذا المجال، وأما جيب فكان ذا صلة أوثق بجانب الاستشراق المعني بالسياسات العامة، وكان موقعه في هارفرد يوجه الاستشراق إلى التركيز على منهج دراسات المناطق في زمن الحرب الباردة إلى درجة تفوق كثيراً تركيز حتى عليه في جامعة برنستون.” (ص. 451)

  1. مجرد الإسلام

“بلغ من عمق ورسوخ نظرية السذاجة السامة في الصورة التي نرى عليها في الاستشراق الحديث أن أصبح الكتاب يطبقونها بلا تمييز يذكر في بعض الأعمال الأوروبية الشهيرة المعادية للسامية مثل بروتوكولات حكماء صهيون وفى بعض الملاحظات الأخرى مثل التي وجهها حاييم فايتسمان (وايزمان) إلى آرثر بلفور في 30 مايو 1918:

إن العرب الذين يتسمون بالذكاء السطحي واللماحية السطحية، يعبدون شيئاً واحداً، وشيئاً واحداً فحسب – ألا وهو السلطة والنجاح. . . وعلى السلطة البريطانية التي تعرف طبيعة الخيانة عند العرب . . . أن تلتزم الحرص واليقظة دائماً . . . وكلما زادت محاولة النظام الإنجليزي لاتباع العدل والإنصاف ازداد صلف العربي … ومن شأن الوضع الراهن أن يؤدى بالضرورة إلى إنشاء دولة فلسطينية عربية، لو كان في أرض فلسطين شعب عربي. ولكن الوضع الراهن لن يؤدى في الحقيقة إلى هذه النتيجة لأن الفلاح متأخر عن هذا العصر بما لا يقل عن أربعة قرون، والأفندي . . . كذاب غشاش، غير متعلم، وطماع، ولا يتصف بالوطنية مثلما لا يتصف بالكفاءة.

والعامل المشترك بين فايتسمان والأوروبي المعادي للسامية هو المنظور الاستشراقي، أي اعتبار أن الساميين (أو أية أقسام فرعية منهم) يفتقرون بطبيعتهم إلى الشمائل المستحبة في الغربيين. ولكن الفرق بين رينان وفايتسمان هو أن الأخير كان قد حشد وراء ألفاظه المنمقة صلابة المؤسسات القائمة بالفعل، ولم يكن يتسنى ذلك للأول. ترى هل اختفى من استشراق القرن العشرين ما كان رينان يراه في نمط الوجود الذى لا يتغير قط للساميين، أي نفس “الطفولة الكريمة” التي لا تبلغ أبداً مبلغ الكبر، والتي تتحالف بلا اكتراث حيناً مع البحث العلمي، وحيناً آخر مع الدولة وجميع مؤسساتها؟

ولكن ما أعظم الضرر الناجم عن الحفاظ على شكل من أشكال هذه الأسطورة في القرن العشرين! لقد أدى إلى ظهور صورة معينة للعرب في عيون مجتمع متقدم شبه غربي، فكان الفلسطيني يبدو، في مقاومته للمستعمرين الأجانب، إما متوحشا غبياً أو كماً مهملاً معنوياً بل وجودياً. فالقانون الإسرائيلي يقضي بأن يتمتع اليهودي وحده بالحقوق المدنية الكاملة ومزايا الاستيطان غير المشروطة. وأما العرب فعلى الرغم من كونهم سكان الأرض فهم لا يُمنحون إلا حقوقاً أقل وأبسط: فهم لا يستطيعون الاستيطان من خلال الهجرة، وإذا كانوا لا يتمتعون بالحقوق نفسها، فيما يبدو، فذلك لأنهم “أقل تقدماً”. فالاستشراق يحكم السياسات الإسرائيلية تجاه العرب في جميع الأحوال، على نحو ما يثبته إثباتاً قاطعاً تقرير كونيج الذى نشر أخيراً، ونفهم منه أن العرب إما أخيار (وهم الذين يفعلون ما يؤمرون) أو أشرار (وهم من يعصون الأوامر ولذلك فهم إرهابيون). ومعظم الموجودين هم أولئك العرب الذين نتوقع منهم ما داموا قد هزموا أن يجلسوا طائعين خلف خط محصن تحصيناً محكماً، يحرسه أقل عدد ممكن من الرجال، وفق النظرية التي تقول إنه كان على العرب أن يقبلوا أسطورة التفوق الإسرائيلي ومن المحال أن يجرؤوا على شن الهجوم . ويكفى أن نلقي نظرة واحدة على صفحات ما كتبه الجنرال يهوشافات هاركابى بعنوان المواقف العربية تجاه إسرائيل حتى ندرك مدى تصوير العقل العربي في صورة العقل المنحرف، المعادي للسامية إلى النخاع، النّزّاع للعنف، المختلف، والعاجز عن كل شيء تقريباً ما عدا الالفاظ الطنانة، على نحو ما أشار إليه روبرت أولتر في عرضه في مجلة كومنتارى لما كتبه الجنرال المذكور، مبدياً إعجابه به. والأساطير تدعم وتولد بعضها البعض، وهى تجاوب مع بعضها البعض، تحقيقاً للتناظر وللأنساق التي تنتمى إلى النوع الذى نتوقعه من العرب باعتبارهم شرقيين، وإن كان من المحال إثباتها إذا اعتبرنا العربي إنساناً.

والاستشراق لا يستطيع التطور التلقائي ولا الذاتي باعتباره مجموعة من العقائد ومنهجاً لتحليل، بل إنه النقيض “الذهبي” للتطور، وحجته الرئيسية تنحصر في أسطورة توقف نمو السامين وتطورهم، ومن رحم هذه الأسطورة تخرج بل تتدفق أساطير أخرى وكل منها يقول إن السامي نقيض الغربي، وإن السامي ضحية وجوه ضعفه”. (ص.465- 467)

ويستمر إدوارد سعيد في ربط الاستشراق الحديث الإنجلوأمريكي بسابقه حين يشير إلى العلاقة بين الشرق الأوسط والغرب في الخطاب الاستشراقي لا تزال تتخذ طابعاً جنسياً في الواقع، فكما سبق له أن أشار في “معرض حديثه عن فلوبير نرى أن ارتباط الشرق بالجنس ما يفتأ يظهر بوضوح غريب، فالشرق يقاوم مقاومة أية عذراء ولكن الباحث الذكر يفوز بالمكافأة حين يدخل بها، ويخترق العقدة العويصة على الرغم من صعوبة المهمة. و”التوافق” هو نتيجة الانتصار على الدلال العذري، ولا يمثل بأي حال من الأحوال تعايشاً بين أنداد. وعلاقة السلطة المضمرة هنا بين الباحث ومادة موضوعه لا تتغير أبداً: فإنها ترجح دائماً كفة المستشرق. فالدراسة والفهم والمعرفة والتقييم تتستر جميعاً بقناع الملاطفة لتحقق “التوافق” ولكنها أدوات غزو.

و”العمليات” اللغوية … تستهدف نوعاً بالغ الخصوصية من الضغط والاختزال. وينتمى جانب كبير من أدواته إلى الأنثروبولوجيا – إذ يصف الشرق الأوسط بأنه “منطقة ثقافية” – ولكن النتيجة هي إلغاء تعددية الاختلافات فيما بين العرب (مهما تكن هذه في الواقع) في سبيل إظهار اختلاف واحد، وهو الذى يميز العرب عن سائر البشر، فإذا أصبح العرب مادة موضوع تقبل الدراسة والتحلل ازدادت سهولة السيطرة عليهم، كما إن اختزالهم على هذا النحو يسمح بإصدار أحكام عليهم من قبيل الهراء الذى نصادفه في بعض الكتب من أمثال كتاب المزاج النفسي العربي والشخصية العربية الذى كتبته سانيا حمادى، بل ويضفى الشرعية على ما به من ترهات عامة ويمنحها قيمة”. (ص. 470-471)

وهذا إحدى الأمثلة التي ذكرها من كتابات حمادي:

وهكذا فإن العربي يعيش في بيئة تغص بالمشقة وتدعو للإحباط، ولا تكاد تتاح له فرصة تنمية طاقاته الكامنة وتحديد موقعه في المجتمع، ولا يكاد يؤمن بالتقدم والتغيير ولا يجد الخلاص إلا في الآخرة.

وهكذا فإن ما لا يستطيع العربي أن ينجزه بنفسه يوجد فيما يكتب عنه، وأما المستشرق فهو يثق ثقة فائقة بإمكاناته هو، وليس متشائماً، وهو قادر على تحديد موقفه وموقف العربي معاً، والصورة التي تبرز صورة سلبية قطعاً.” (ص. 473)

وبذلك فإن لغة الاستشراق تقوم بدور مسيطر في كل شيء ناقشه إدوارد سعيد، فهي تجمع بين الأضداد بحيث يبدو ذلك أمراً “طبيعياً”، وتقدم أنماطاً بشرية مصطلحات ومنهجيات علمية، وتنسب الحقيقة والمرجعية إلى أشياء (أي كلمات أخرى) من ابتكارها. ونحن نعتبر اللغة الأسطورية “خطاباً بمعنى أنها لا يمكن إلا أن تتصف بالمنهجية، ولا يستطيع أحد في الواقع أن ينشئ “الخطاب” الذى يريده أو أن يقول ما يقول في إطاره دون أن ينتمي أولاً إلى الأيديولوجيا والمؤسسات التي تضمن وجوده، وقد يكون هذا الانتماء عن غير وعي في بعض الحالات، ولكنه انتماء غير وعي على كل حال. وهذه المؤسسات دائماً ما تكون مؤسسات مجتمع متقدم يتناول مجتمعاً أقل تقدماً، أو مؤسسات ثقافة قوية تلاقي ثقافة ضعيفة. والسمة الأساسية للخطاب” الأسطوري” هي أنه يخفى مصادره وأصوله، مثلما يخفى مصادر ما يصفه وأصوله. وهو يقدم “العرب في صورة الأنماط الثابتة المجردة تقريباً لا باعتبارهم كائنات تتمتع بإمكانات تمر بمرحلة التحقيق ولا باعتبارهم تاريخاً يتشكل ويتكون. والقيمة المبالغ فيها التي تنسب إلى اللغة العربية، من حيث كونها لغة، تسمح للمستشرق بأن يجعل اللغة مرادفة للعقل وللمجتمع وللتاريخ وللثقافة. فالمستشرق لا يرى أن الشرق يتكلم لغته ويفصح بها، بل إن اللغة هي التي تفصح عنه.” (ص. 472-473).

  1. الشرقيون الشرقيون الشرقيون

يُمثل هذا الجزء أهم جزء بالنسبة لي في هذا الكتاب لأنه يخاطب الشرقي وهو ما يهمني من هذه الدراسة.

فالنتائج الخطيرة الناتجة عن مذهب الخرافات الأيديولوجية الذي أطلق عليه إدوارد سعيد اسم “الاستشراق” لا تعود فحسب إلى العيوب الفكرية، “فلقد أصبحت الولايات المتحدة استثمارات كبرى في الشرق الأوسط، أكبر من استثماراتها في أي منطقة أخرى على ظهر الأرض، وخبراء الشرق الأوسط الذين يسدون المشورة إلى راسمي السياسات قد تشربوا روح الاستشراق دون استثناء تقريباً. ولكن معظم هذا الاستثمار مبني على أسس من الرمال، وهى الاستعارة المناسبة لهذه المنطقة، إذ إن هؤلاء الخبراء يغذون السياسات بالمجردات التي يسهل تسويقها مثل النخب السياسية، والتحديث، والاستقرار، ومعظمها لا يزيد عن أنماط ثابتة قديمة من صنع الاستشراق، وإن كانت اليوم تكتسي رداء الرطانة السياسية، ومعظمها لا يصلح على الإطلاق لوصف ما حدث أخيراً في لبنان أو قبل ذلك في المقاومة الفلسطينية الشعبية لإسرائيل. والمستشرق اليوم يحاول أن يرى الشرق باعتباره صورة مقلدة للغرب، ويفترض، مثلما يقول برنارد لويس، أن الشرق لن ينجح في تحسين أحواله إلا إذا أصبحت نزعته القومية “على استعداد للتصالح مع الغرب”. وأما إذا حدث وقام العرب أو المسلمون أو العالم الثالث والعالم الرابع بسلوك سبل غير متوقعة، رغم كل شيء، فلن ندهش إذا سمعنا مستشرقاً يقول لنا إن هذا يشهد على عناد الشرقيين واستحالة إصلاحهم، ومن ثم يثبت أنهم ليسوا أهلاً للثقة.

ونحن لا نستطيع تفسير جوانب الفشل المنهجي للاستشراق بأن نقول إن الشرق الحقيقي يختلف عن الصور التي يرسمها المستشرق له، ولا بأن نقول بأنه مادام المستشرقون غربيين في معظمهم، فلا يمكن أن نتوقع منهم أن يدركوا حقيقة الشرق الباطنة. فكل من هذين الافتراضين فاسد. ولا تتمثل أطروحة هذا الكتاب في القول بوجود شيء يسمى الشرق الحقيقي أو الصادق (الإسلام أو العرب أو ما شئت) ولا تتمثل أيضاً في الزعم بتفضيل منظور “داخلي” على منظور “خارجي”، إذا استعرنا التمييز المفيد الذى وضعه روبرت ك. ميرتون. بل لقد حاول [إدوارد سعيد]، على العكس من ذلك، أن [يقيم] الحجة في هذا الكتاب على أن مفهوم “الشرق” نفسه مفهوم مختلق، وأن الفكرة التي تقول بوجود مساحات جغرافية، يسكنها بشر أصليون “يختلفون” اختلافاً جذرياً عن غيرهم ويمكن تحديد هويتهم على أساس الدين أو الثقافة أو الجوهر العنصري المناسب لذلك المكان الجغرافي فكرة مُختلف عليها إلى حد كبير، و[لا يؤمن] قطعاً بالافتـراض القاصر الذى يقول إنه لا يستطيع الكتابة عن السود إلا أسود، ولا عن المسلمين إلا مسلم وهلم جراً.” ( ص. 488)

وأخيراً، يتطرق إدوارد سعيد إلى جوهر الحديث، ألا وهو تأثر الشرقيين أنفسهم بخطاب الاستشراق فيقول: ” إذ تحفل صفحات الكتب والمجلات المنشورة بالعربية (وبلا شك باليابانية وشتى اللهجات الهندية وغيرها من اللغات الشرقية) تحليلات من الدرجة الثانية يكتبها العرب عن “العقل العربي” وعن “الإسلام”، وغير ذلك من أقوال في عداد الأساطير، كما انتشر الاستشراق أيضاً في الولايات المتحدة بعد أن أضافت الأموال والموارد العربية بعداً جديداً يتمثل في الجاذبية الكبيرة “للاهتمام” التقليدي بالشرق ذي الأهمية الاستراتيجية. والواقع هو أن الإمبريالية الجـديدة قد نجحت في تكييف الاستشراق واستيعابه، إذ أصبحت نماذجه الفكرية الحاكمة لا تتعارض، بل وتؤكد الخطط الإمبريالية المستمرة للهيمنة على آسيا.

ويحق لنا أن نعتبر أن التكيف بين الطبقة المثقفة وبين الإمبريالية الجديدة يعد انتصاراً من انتصارات الاستشراق الخاصة، في تلك البقعة من بقاع الشرق التي أستطيع أن أتحدث عنها بشيء من المعرفة المباشرة. فالعالم العربي اليوم تابع فكري وسياسي وثقافي يدور في فلك الولايات المتحدة، وليس هذا في ذاته ظاهرة يؤسف لها، لكن ما يؤسف له هو شكل علاقة التبعية المذكورة .” (ص. 490)

ثم يُلخص ذلك في ثماني نقاط كالتالي:

  1. “الجامعات في العالم العربي التي تدار بصفة عامة وفقاً لنسق موروث من دولة استعمارية سابقة أو فرضته تلك الدولة بصورة مباشرة. ولقد تغيرت الظروف حتى أصبحت المحتويات الفعلية للمقررات الدراسية غريبة غرابة تكاد تكون شائهة، فالقاعات تغص بمئات الطلاب، المعلمون لم يتلقوا التدريب الجيد، ويعملون أكثر مما ينبغي ويتقاضون رواتب أقل مما ينبغي، كما يحدث أن يعين أحدهم في منصب جامعي لأسباب سياسية، هذا إلى جانب الافتقار شبه التام إلى البحوث العلمية المتقدمة والتجهيزات اللازمة لها، وأهم من ذلك كله الافتقار إلى مكتبة “محترمة” واحدة في المنطقة العربية كلها. وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد سيطرتا يوماً ما على الآفاق الفكرية للشرق بفضل علو كعبهما وثرائهما، فلقد غدت الولايات المتحدة تشغل هذا المكان، والنتيجة هي أن القلة من الطلاب الواعدين الذين يستطيعون النجاح من خلال النظام التعليمي في بلادهم يُحفزون على القدوم إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراساتهم العليا، وإذا كان من الصحيح دون شك أن بعض طلاب العالم العربي لايزالون يقصدون أوروبا للدراسة، فإن الأغلبية تأتي للولايات المتحدة، ويصدق هذا على طلاب البلدان التي توصف بالراديكالية مثلما يصدق على البلدان المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والكويت. أضف إلى هذا أن نظام الرعاية في الدراسة والنشاط التجاري والبحث العلمي قد أتاح للولايات المتحدة أن تمسك بزمام الأمور وتتمتع بسيطرة شبه كاملة، إذ يسود الاعتقاد بأن “المصدر” هو الولايات المتحدة مهما ابتعدت في الواقع عن أن تكون “المصدر” الحقيقي.
  2. التيارات البارزة للثقافة المعاصرة في الشرق الأدنى تسترشد بالنماذج الأوروبية والأمريكية. وعندما قال طه حسين عن الثقافة العربية الحديثة عام 1936 إنها أوروبية لا شرقية، كان يسجل هوية الصفوة أو النخبة المصرية المثقفة التي كان هو من أفرادها البارزين ويصدق ذلك نفسه على النخبة الثقافية العربية اليوم، وإن كان التيار العارم للأفكار المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث الذى ساد المنطقة منذ الخمسينات قد خفف من الطابع الغربي للثقافة السائدة.
  3. العالم العربي والإسلامي لا يزال يمثل قوة من الدرجة الثانية من حيث إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث العلمي. وعلينا هنا أن نتسلح بالواقعية الكاملة في وصف الأوضاع الناجمة، إذ لا يملك باحث عربي أو إسلامي أن يتجاهل ما ينشر في الدوريات العلمية ولا ما يحدث في المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، والعكس ليس صحيحاً. فعلى سبيل المثال، لا توجد دورية علمية كبرى للدراسات العربية تنشر في العالم العربي اليوم.
  4. لا توجد مؤسسة تعليمية عربية قادرة على تحدي جامعات مثل أوكسفورد وهارفارد وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس في دراسة العالم العربي، وتقل قدرة المؤسسات التعليمية العربية على ذلك في مجال الدراسات غير الشرقية والنتيجة المتوقعة لهذا كله هي أن الطلاب الشرقيين (والأساتذة الشرقيين) لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيين، حتى يعودوا ليكرروا على مستمعيهم المحليين نفس القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتها بأنها عقائد استشراقية جامدة. ومثل هذا النظام من التكاثر أو الاستنساخ يدفع الباحث الشرقي حتماً إلى استخدام تعليمه الأمريكي في الإحساس بالتفوق على أبناء وطنه بسبب قدرته على “الإحالة” بالنظام الاستشراقي وتطبيقه، لكنه يظل مجرد “مصدر معلومات وطني” في علاقاته برؤسائه من المستشرقين الأوروبيين أو الأمريكيين. والواقع أن دوره في الغرب سوف يقتصر على ذلك إذا أسعده، الحظ بالمكوث في الغرب بعد تعليمه العالي.
  5. المعروف أن معظم المناهج الدراسية الأولية في اللغات الشرقية يقوم بتدريسها هؤلاء “الشرقيون” في جامعات الولايات المتحدة اليوم، ولكن السلطة في هذا النظام (في الجامعات والمؤسسات وما شابهها) تكاد تكون محصورة في أيدي غير الشرقيين، وإن كانت أعداد غير الشرقيين من الأساتذة المقيمين لا تزيد بصورة صارخة عن أعداد نظرائهم الشرقين.” (ص. 491)
  6. “لا نكاد نجد معهداً واحداً في الشرق، ولو تواضع مستواه، يتخصص في دراسة الشرق.” (ص. 491)
  7. “الصورة الثقافية للشرق التي تقدمها أجهزة الإعلام الجماهيرية الأمريكية و”تستهلكها” دون تفكير جماهير التلفزيون في المنطقة. ومفارقة العربي الذي يعتبر نفسه “عربياً” بالصورة التي تقدمها هوليود ليست سوى أبسط النتائج.
  8. [من] النتائج الأخرى نجاح اقتصاد السوق الغربي وتوجهه الاستهلاكي في إنتاج طبقة (يزداد إنتـاجها بمعدل سريع) من المتعلمين الذين يتجه تكوينهم الفكري إلى إشباع احتياجات السوق. فالتركيز الشديد على الهندسة وإدارة الأعمال والاقتصاد لا يكاد يحتاج إلى إيضاح” (ص. 423)

ونتيجة لجميع هذه الأسباب، “وبإيجاز، نرى أن الشرق الحديث يساهم في صبغ نفسه بصبغة “الشرق” الاستشراقية.” (ص. 493)

ثم يتساءل إدوارد سعيد إذا ما كان هنالك بديل للاستشراق، فيشير أولاً إلى أن مشروعه هو وصف نظام فكري خاص وأنه لا يحاول على الإطلاق، أن يأتي بنظام جديد يحل محله. وأنه يحاول أن يطرح “مجموعة كاملة من الأسئلة المتصلة بالموضوع وهو مناقشة مشكلات الخبرة الإنسانية: كيف يقدم المرء صوراً تمثل ثقافات أخرى؟ ما معنى ثقافة أخرى؟ وهل فكرة وجود ثقافة (أو جنس بشري أو دين أو حضارة) متميزة فكرة مفيدة، أم تراها تختلط في جميع الأحوال إما بتهنئة الذات (عندما يناقش المرء ثقافته الخاصة) وإما بالعداء والتعدي (عندما يناقش المرء ثقافة “الآخر”)؟ وهل تعتبر الاختلافات الثقافية والدينية والعنصرية أهم من الفئات الاقتصادية الاجتماعية أو الفئات السياسية التاريخية؟ كيف تكتسب الأفكار السلطة، وكيف تتمكن من أن تصبح أفكارا “سوية” وترقى إلى منزلة الحقائق “الطبيعية”؟ ما دور المثقف؟ هل ينحصر دوره في إثبات صحة الثقافة والدولة التي ينتمى إليها؟ ما مدى الأهمية التي يجب أن يوليها للوعى النقدي المستقل، أي الوعي النقدي المعارض؟” (ص. 493)

ثم يجيب عنها برجاء أنه قد أجاب عن هذه الأسئلة “مضمرة فيما سبق قوله،” ويستمر في ذكر المزيد في عدة نقاط:

  1. وصفى لطابع الاستشراق أن قلت أنه يثير الشكوك ليس فقط في إمكان إجراء بحوث علمية بريئة من السياسة بل أيضاً في حكمة وجود علاقة أوثق مما ينبغي بين الباحث والدولة.
  2. إنه من الواضح أيضاً أن الظروف التي تجعل الاستشراق نمطاً فكرياً ذا قدرة دائمة على الإقناع سوف تستمر… ومع ذلك فإنني أتوقع، وعلى أسس عقلانية، عدم استمرار ما يدعو إلى أن يظل الاستشراق دائما بمنجى من الطعن فيه فكرياً وأيديولوجياً وسياسياً، على نحو ما شهدناه حتى الآن. .. إذ يوجد اليوم كثير من الباحثين الأفراد الذين يعملون في بعض المجالات مثل التاريخ الإسلامي، والدين الإسلامي، والحضارة الإسلامية، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والذين يتميز إنتاجهم العلمي بقيمته العميقة. ولا تبدأ المتاعب إلا عندما تزحف التقاليد “المهنية” للاستشراق فتتولى على الباحث غير اليقظ، والذي لا يأخذ وعيه الفردي في البحث العلمي حذره من الأفكار التقليدية التي يتوارثها أبناء المهنة بسهولة من أسلافهم. وهكذا فالأرجح أن ينجز الأبحاث الجيدة الباحثون الذين يدينون بالولاء لمبحث علمي ذي حدود فكرية لا “لمجال” مثل الاستشراق حدوده هي الأصول المرعية في “المهنة” أو التقاليد الإمبريالية أو الحدود الجغرافية.
  3. إن أحداً لا يملك تجنب ضروب أخرى من التفرقة، إن لم تكن بين الشرق والغرب، فبين الشمال وبين الجنوب، أو بين الأغنياء وبين الفقراء، أو بين الإمبرياليين وبين مناهضي الامبريالية، أو بين الأجناس البيضاء وبين الأجناس الملونة، ولا نستطيع الالتفاف حولها جميعاً متظاهرين بأنها غير موجودة، بل على العكس من ذلك نجد أن الاستشراق المعاصر يعلمنا الكثير عن التزييف الفكري الكامن في الخداع بشأن هذه القضية، إذ يؤدى ذلك إلى تعميق التقسيمات وجعلها خبيثة ودائمة معاً. ومع ذلك فما أسرع ما يمكن أن يتدهور البحث العلمي “التقدمي” القائم على جدلية صريحة ونظرة عقلية صالة، فيصبح بمثابة غفوة من غفوات الجمود المذهبي، وهو احتمال لا ترجى منه فائدة علمية هو الآخر.
  4. دراسة الإنسان في المجتمع دراسة تقوم على وقائع تاريخ البشر وخبراتهم، لا على تجريدات الأساتذة أو على القوانين الغامضة أو على النظم التعسفية. والمشكلة إذن هي تطويع الدراسة وفقاً للخبرة، بحيث يتحدد شكل الدراسة في ضوء الخبرة بصورة ما، وعندها تستطيع الدراسة إيضاح الخبرة وربما تغييرها أيضاً والواجب أن نتجنب، مهما يكن الثمن، إضفاء صورة شرقية مسبقة على الشرق في كل خطوة نخطوها، وسوف يترتب على هذا قطعاً تنقيح المعرفة والتقليل من غرور الباحث.
  5. الاستشراق فشل إنساني بقدر ما هو فشل فكري، إذا إنه حين دفع دفعاً إلى اتخاذ موقع معارضة لا يمكن اختزاله إزاء منطقة من مناطق العالم يعتبرها أجنبية غريبة عنه، قد عجز عن التعاطف أو التوحد مع الخبرة البشرية بل وعجز عن إدراك أنها خبرة بشرية.
  6. ومن الممكن الآن تحدي السيطرة العالمية للاستشراق وكل ما يرمز له، إذا استطعنا أن نستفيد استفادة صحيحة مما شهده القرن العشرون بوجه عام من ارتفاع مستوى الوعى السياسي والتاريخي لعدد كبير من شعوب العالم.
  7. في كون [هذا الكتاب] تحذيراً يقول: ما أسهل إنشاء بعض النظم الفكرية مثل الاستشراق وضروب “خطاب” السلطة والخرافات الأيديولوجية – وهي أصفاد يصنعها العقل – وما أسهل تطبيقها والحفاظ عليها.
  8. أن الرد على الاستشراق ليس “الاستغراب”، ولن يجد من كان “شرقياً” يوماً ما أي تسرية في القول بأنه ما دام شرقياً هو نفسه فمن المحتمل، بل من الأرجح، أن يدرس “شرقيين” جدداً – أو “غربين” – من ابتكاره الخاص .
  9. إذا كان لمعرفة الاستشراق أي معنى، فإنه يكمن في كونه تذكيراً بالتدهور اللغوي للمعرفة، أية معرفة، في أي مكان، وفي أي زمان. وربما يصدق هذا على العصر الحاضر أكثر ما يصدق على الماضي . (ص. 493-494)

أحدث التعليقات