الإنسان العبثي في فيلم «ديموليشن»

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  أفلام تحت المجهر  /  الإنسان العبثي في فيلم «ديموليشن»

بالنسبة لديفيس (والذي يلعب دوره الممثل جيك غيلينهال) كان يومه يوماً عادياً كباقي أيام حياته، إذ كان يجلس في سيارته برفقته زوجته الجميلة ويتحدث عن صفقات بالملايين في عمل لا يبذل فيه الكثير من الجهد بقدر ما يكسب منه من مردود مادي، لكن وبينما هو في خضم هذه الحياة المثالية تتسارع الأحداث وفي ظرف ثوان يضيع كل شيء. تتوفى زوجته جوليا ويبقى المشاهد متفاجئاً  بهذه الأحداث المتسارعة التي تحدث في الدقائق الأولى من الفيلم الفلسفي «ديموليشن» (demolition) للمخرج جان مارك فاليه ولكاتب السيناريو براين سايب، والصادر باللغة الإنجليزية في الثامن من أبريل سنة 2016 في دور العرض الأمريكية.

عندما تخبر ديفيس الممرضة بأن زوجته قد فارقت الحياة ونرى والد زوجته الواقف خلفه منهاراً ، لا يتأثر ديفيس بما سمع وكأنه قد كون جداراً عازلاً يفصل بين قلبه وبين الشعور بحوادث الحياة وزلازلها، وبدلاً من أن يعبر عن حزنه وصدمته يقرر ديفيس أن يسقط كل هذه الإحباطات على آلة بيع الحلويات التي ابتلعت الخمس دولات خاصته من دون مقابل، فيشرع بعدها  في كتابة رسائل يتحدث  فيها عن حياته ويأسه وإحباطاته ويرسلها للشركة المسؤولة عن تلك الآلة وكأن كل مشاكله تتلخص في الخمس دولات التي ذهبت دون مقابل.

عن طريق هذه الرسائل يتعرف ديفيس على كارين (التي تلعب دورها الممثلة  نعومي واتس) وهي المسؤولة عن العلاقات العامة في الشركة التي يبعث لها بتلك الرسائل. وعلى عكس عادته منح هذه المرأة الكثير من الاهتمام وأبدى رغبته في لقائها ومعرفتها وهو الأمر الذي لم يكن يقوم به حتى مع زوجته المتوفية حديثاً فلم يمنحها الاهتمام الكافي.

أما بالنسبة لشغفه “بالهدم” وهو مرادف كلمة «ديموليشن»، فقد وجد هذا الشغف منذ وفاة زوجته إذ أخذ يفكك كل ما يصعب عليه فهمه أو يثير فكره. ويترافق مع المشهد الأول “للهدم” تردد كلمات والد زوجته على مسامعه وهو يقول له أنه عليه أن يفكك تلك التراكمات ليعود للأصل ويعلم ماذا يحدث، على الرغم من أن والد زوجته لم يكن يقصد تفكيكه للأجهزة والأشياء التي حوله وإنما يقصد تفكيكه للتراكمات النفسية والمعنوية وخاصة بعد تأثره بوفاة زوجته.

تدور أحداثه في  أقل من ساعتين لكنها  تثير فيك العديد من التساؤلات، هذا طبعاً إن استطعت متابعة الفيلم لآخره، فلقد لمحت العديد من الحضور وهم يغادرون قاعة العرض بعد نصف الساعة الأولى وهم غير مدركين أن عبثية هذا الفيلم تمثل عبثية الحياة ككل وأنهم حتى ولو كانوا بعيدين عن هذه العبثية حالياً فستضربهم كالزلزال في الوقت الذي لا يتوقعونه كما ضربت حياة ديفيس.

الفيلم لا يسير بسرعة بل إنه يحتوي على العديد من اللحظات الفارغة التي تعكس بدورها فراغ الحياة وخوائها، وفي عدة مواضع ذكرني بمسرحية «في انتظار غودو» للكاتب الأيرلندي صموئيل بيكت التي “تحمل في داخلها الكثير من الترقب والانفعال وتعتبر أفضل أعمال بيكت وأشهرها على الإطلاق، إنها مسرحية (اللامنطق) في عالم يتظاهر بالمنطق وفي داخله فوضى مرعبة.”(خضير ، 2014)  وهكذا كان الفيلم إذ كان يكشف الغطاء على اللامنطق وتلك الفوضى العارمة التي تسكن في داخل الإنسان من خلال شخصية ديفيس الذي فتح ذراعيه لعبثية الوجود عندما عاش تلك التجربة القريبة جداً للموت إذ كان من الممكن أن يموت هو عوضاً عن زوجته. في تلك الحالة التي يذهب فيها الشخص للموت ويعود منه، غالباً ما يتحول الشخص إلى إنسان عبثي، وكما ورد في مقال للكاتبة هالة رسلان عن أحد فلاسفة القرن العشرين: ألبير كامو (1913-1960)، “إن موت الإنسان وحتمية الموت تضفيان على العبث وزنًا إضافيًّا.” (رسلان، 2016)

بهذه العبثية يصبح الشخص أكثر تحرراً من كل تلك القيود التي كانت تربطه بالعالم الروتيني والعالم المادي الذي يعيشه لأنه “فجأة” اكتشف أن هذا العالم زائل لا محالة وأنه ميت مهما فعل في حياته، ونجد أن هذه المفاهيم يجسدها البطل في عدة مشاهد فنراه لم يعد يبالي كثيراً بالعادات والإتيكيت إذ  يفارق طاولة العشاء في منزل أهل زوجته دون أي مبررات ويرحل بكل بساطة وبكل حرية فـ”مصدر الحرية الداخلية للإنسان العبثي يأتي من إدراكه عدمَ وجود مفهوم لانتظارِ حدوث أمر بعينه في المستقبل”(رسلان، 2016)  أي أنه ليس في انتظار أن يكون شخصاً مثالياً أو أن يحبه الآخرون ويقبلونه فكل هذه الأمور للإنسان العبثي عبثية جداً وخاصة عند عبثية الوجود كله.

ويتعمق البطل أكثر فأكثر في إدراكه للجانب العبثي للحياة فيقوم بـ”استبدال “كمية” تجربة الوجود بـ”نوعيتها”، وفي عبارة أخرى، أن لا يحيا الإنسان بشكل أفضل، بل أن يعيش لحظات أكثر؛ وهذا، بدوره، يمنحه الإحساس بالحياة والتمرد والحرية بأقوى شكل ممكن” إذ “يُظهِر العبث نفسه في الوجود الإنساني في شكل يدفع الوعي والعقل إلى النشاط والعمل.” (رسلان، 2016) فيعبر ديفيس عن هذه الحياة الجديدة بكل أريحية في إحدى الرسائل التي كان يرسلها  للشركة المسؤولة عن آلات بيع الحلوى ويقول فيها “أنه أصبح يلاحظ كل شيء، كل التفاصيل الصغيرة”  بل أنه أخذ يشبه نفسه بالشجرة المقتلعة من جذورها التي كان قد لمحها سابقاً، بالإضافة إلى شغفه الجديد بالعمل وخاصة العمل الجسدي الذي يبذل فيه جهداً جسمانياً وليس كعمله السابق الذي يصفه في أحد المشاهد بأنه غير واقعي.

ولعل المفارقة الحقيقة تكمن في كون الطفل أقرب للإنسان العبثي من الشخص البالغ الذي قد “أدبته” وكيفته الحياة ليدور في فلكها بعيداً عن العديد من الحقائق الجوهرية والفطرية وأقرب للتشدد والتعصب والتزمت فنجد أن الأطفال لديهم هذا الشغف بالبناء والهدم والتفكيك ولديهم مرونة في التعامل مع الاختلاف ومع الآخر أكثر من البالغين وهذه الصفة نلمحها أيضاً في شخصية ديفيس الذي أصبح أكثر تفهماً وقبولاً للآخر بعد تحوله لهذا الإنسان العبثي وذلك لإدراكه لعبثية الحياة وتفاهتها فنجد أنه عندما قابل الرجل الذي كان السبب في حادث وفاة زوجته لم يغضب عليه ولم ينفعل بل عانقه بكل بساطة.

أما بالنسبة للناحية الفنية، فبالإضافة إلى الفراغ الوجودي وبطئ الأحداث مقارنة بالأفلام الأخرى، نجد أن “الفيلم يحوي نكهة سينما أوروبية، أو أقرب إلى الأفلام المستقلة، من خلال اهتزازات الكاميرا الشديدة إلى درجة من المستحيل معها تجاهل ذلك.” (القمزي، 2016) إن فلم «ديموليشن» يشبه رواية أو لوحة فنية تمنح القارئ/المتأمل معناً وجودياً وتثير فيه العديد من الأسئلة العبثية.

وفي الختام وبعيداً عن الوجودية ووليدتها العبثية، إن الصدمات والآلام التي يمر بها الإنسان هي التي تصنع فيه ذلك الوعي بالحياة وبقيمتها من جهة وبتفاهتها من جهة أخرى، إذ تكمن تفاهة الحياة في المآرب الدنيوية والرغبات السطحية، بينما تتمثل قيمة الإنسان في تلك اللحظات الجميلة التي يقضيها وهو يقوم بما يحب أو برفقة من يحب أو في تلك اللحظات التي يشعر فيها بالنور الذي يعكس نشوة الروح التي لا تثيرها إلا التجارب الجوهرية للحياة، ألم يقل جلال الدين الرومي: “لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟” فحين يتسلل ذلك النور يفتح الأبواب لمتع الحياة الحقيقة والتي تتجاوز سطحية هذه الدنيا وروتينها.

المراجع:

’ديموليشن» يهدم نفسه.. ويغرق في الفوضى‘، الإمارات اليوم

Gillan, A. (2006) ‘Britons put work and fun before babies: ICM poll reveals changing attitudes behind UK’s low birthrate’, The Guardian, 2 May, p.17.

أحدث التعليقات