الحكمة (10): «ألف شمس ساطعة» لخالد حسيني

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (10): «ألف شمس ساطعة» لخالد حسيني

أقف اليوم في محطتي العاشرة: أفغانستان. هذا البلد الجبلي الجميل، متنوع الثقافات والحضارات، والذي – وللأسف – لم يصلنا عنه سوى سيرة مقاتليه الملثمين وأسلحتهم القديمة وحقول نبات الخشخاش المُستخدمة في صناعة المخدرات.

مدفوع بالحنين إلى بلده الأم ومُتجاوزاً كل التعميمات والصور النمطية، يُقدم خالد الحسيني رواية «ألف شمس ساطعة» التي نَشرت طبعتها الخامسة دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في عام 2018 في بيروت، ونقلها إلى العربية إيهاب عبد الحميد.

تدور أحداث الرواية حول بطلة واحدة فقط هي “أفغانستان الأنثى” إذ يتطرق الكاتب إلى الأحداث التاريخية والسياسية التي عاشتها أفغانستان بين عامي 1959 و 2003 من منظور امرأتين: مريم وليلى، ولسان حاله يقول إن الحياة في أفغانستان تتجاوز حركة طالبان والمجاهدين الأفغان، وأن شعبها – كغيرهم من شعوب العالم – يحب ويحلم ودائم المحاولة لتحسين سبل الحياة.

يستخدم خالد الحسيني شخصيتي مريم وليلى رمزاً يُلخص تاريخ أفغانستان الحديث في 542 صفحة قسّمها على أربعة أجزاء. في الجزء الأول (بين عامي 1959 و1978)، يعرض الكاتب حياة مريم ابنة الحرامي أو “الحرامي” كما كانت تناديها والدتها. عاشت مريم طفولتها في شوق إلى والدها الذي لا يزورها إلا لمماً، لكنه في تلك الزيارات يمنحها العالم بين يديها. لذا وعندما بلغت الخامسة عشر، قررت أن تزوره في منزله في المدينة. يتجاهلها والدها ولا يخرج لمقابلتها. فتتحطم جميع آمالها، وتعود خالية الوفاض إلى والدتها في الأضاحي ولتكتشف أنها انتحرت؛ لأنها ذهبت للقائه. تنتقل مريم للعيش مع والدها لبضعة أيام. ثم وعلى الرغم من صغر سنّها، تسارع زوجاته الثلاث إلى تزويجها من رشيد، صانع الأحذية من كابول. تتزوجه مريم رغماً من فارق السن المهول بينهما، وتحمل منه، وتجهض مرات عديدة مما يعرضها إلى مختلف الإهانات والتجاوزات. في 15 أبريل 1978، تتم مريم عامها الـ19 تزامناً مع اغتيال مير أكبر خيبر – القيادي الأبرز من حزب خلق الديمقراطي الشيوعي – وهو ما أشعل فتيل المظاهرات والاحتجاجات التي أدت إلى الانقلاب السياسي، وسيطرة حزب خلق على مقاليد الحكم في الـ27 من الشهر ذاته. تتخطى مريم شخصيتها في الرواية لتُمثل فترة زمنية تسودها التقاليد القاسية التي ما أنزل الله بها من سلطان والاستبدادية الذكورية متمثلة في شخصيتي والدها ورشيد الشهوانتين.

أمّا الجزء الثاني، والذي يخصصه لليلى، فيعكس فترة أخرى حكم اليسار فيها أفغانستان. ليلى التي يُصادف أنها وُلدت في ذات التاريخ الذي تقلد فيه حزب خلق الحكم. يُمكن الجزم بأن الفصل الثاني هو أسعد وأفضل جزء في الرواية، فهل كانت أفغانستان أسعد في فترة حكم اليسار بين عامي 1978 و1989؟

ربما، على الرغم من أن الكاتب حاول أن يكون موضوعياً في خلقه لشخصية مامي (والدة ليلى) والتي تعيش اضطرابات نفسية وحزناً عميقاً بعد فراق ولديها ومشاركتهما في الحرب ضد السوفييت. ينتهي هذا الفصل بصراعات المجاهدين الأفغان ضد بعضهم سعياً للسلطة وسقوط قنبلة من قنابل الصراع على منزل ليلى نتج عنه موت والديها.

في الجزء الثالث، يختلط الحابل بالنابل. يُنقذ رشيد ليلي من حطام القنابل، وينقلها لمنزله كي تعتني بها مريم. ثم يتزوجها ليختلط المحافظ بالشيوعي، ويشهدا سوياً انهيار الدولة الحديثة كما عهداها؛ وخاصة بعد وصول طالبان للحكم في عام 1996، وتحكمهم بأبسط مجريات الحياة. ربّما من أفضل نقاط المقارنة التي رسمها الكاتب ببراعة هي العناية الطبية المُتوفرة للنساء، والتي كانت جيدة في الجزء الأول مقارنة بالحالة التعيسة التي وصلت إليها في حكم طالبان الذي ضيق على المرأة أبسط سبل العيش وحقوق الإنسان.

يُمارس رشيد العنف والإهانة على زوجتيه وخاصة على ليلى عندما يعلم أنها استضافت طارق (صديق طفولتها) في منزله. وعند اشتداد الصراع بينه من جهة وبين ليلى ومريم من جهة أخرى، تضربه مريم فترديه قتيلاً. وتبعاً، لا تستطيع تحمل تأنيب الضمير، وتعترف بما اقترفت للشرطة لينتهي بها المطاف مسجونة ثم مقتولة بالكلاشينكوف. قبل وفاتها بثواني “غمرها إحساس بالسلام. فكرت في دخولها إلى هذا العالم: طفلة (حرامي) من قريبة وضيعة، غلطة، حادثة تثير الشفقة وتستدعي الندم، عشبة ضارة. وها هي تغادر العالم امرأة أًحبت وأُحبت. تغادر العالم صديقة، ورفيقة، وحامية، وأمّا [لأطفال ليلى فهي لم تنجب]، شخصًا له وزن أخيراً. فكرت مريم أن ميتتها بهذه الطريقة ليست بهذا السوء. نهاية شرعية لحياة كانت بدايتها غير شرعية.” (ص. 479) وكم هو مؤلم أن يقيّم الإنسان حياته على هذا المنوال: شرعي وغير شرعي وكأن وجوده وكيانه لا وزن له إن كان غير شرعي.

يربط الجزء الرابع والأخير خيوط الحكايات كلّها. تتزوج ليلي طارق، وتعيش معه في راحة وهناء. وفي “ذات ليلة دافئة في يوليو عام 2002، تمددت مع طارق في الفراش يتحدثان بأصوات خفيضة عن كل التغييرات التي تجري في الوطن. كانت تغييرات كثيرة جداً قد وقعت، إذ طردت قوات التحالف الطالبان من كل المدن الكبيرة، ودفعتهم عبر الحدود مع باكستان، وإلى الجبال في جنوب وشرق أفغانستان، وأُرسلت إلى كابل قوات حفظ سلام دولية، اسمها (إيساف)، وأصبح لدى البلاد رئيس منتخب، وهو حامد كرزاي.” (ص. 498-499) أمّا بالنسبة لمريم، فوقع بين يدي ليلى رسالة تركها لها والدها يطلب منها المغفرة والغفران، ويترك لها نصيباً من ثروته.

تنتهي الرواية بخاتمة سعيدة وكأن المعاناة والمأساة التي عايشها الشعب الأفغاني قد انتهت حينها، غير أنهاً لم تنتهِ. للحروب بصمة خالدة على النفوس والشعوب؛ نظراً لما تثيره فيها من غريزة القتل والإبادة وكره للآخر وعدم قبول الاختلاف، ثم إنها تُخلف ناساً لا يعرفون إلا الحرب. أناس تعلموا المشي بزجاجة لبن في يد وبندقية في الأخرى. (ص. 230)

الحكمة من الكتاب:

بين شخصيتي مريم وليلى، أحببت ليلى أكثر، ويُمكنني الجزم أن الحكمة الوحيدة من الرواية هي المحاولة وعدم الاستسلام. أن يبقى المرء يحاول ويقاوم ليعيش حياة سوية وصحية مهما كثرت التحديات، وصعبت الطرق وتعددت المنعرجات. الحياة قاسية وصعبة، ويجب أن نكون على قدر كافٍ من الإصرار والمرونة لمواجهتها. وفي هذا السياق، يقول الكاتب في الحاشية: “أنظر إلى رواية «ألف شمس ساطعة» “بوصفها تعبيري المتواضع عن التقدير لأفغانستان، ولما تتحلى به من قدر عظيم من الشجاعة والصبر والصمود.”” (ص. 542).

اقتباسات من الكتاب:

“كما إبرة البوصلة تشير إلى الشمال، فإن إصبع الرجل تجد دائماً امرأة. دائماً.” (ص. 14)

“المجتمع لا يُمكن أن ينجح ما لم تكن نساؤه متعلمات … لا يُمكن أن ينجح.” (ص. 149)

“حتى من يعضه ثعبان ينام، إلا الجائع.” (ص. 395)

“مثل عاشق للفن يهرب من متحف يحترق، راحت تخطف ما تسطيع حتى نظرة، همسة، آهة- لكي تنقذها من الذوبان، لكي تحافظ عليها.” (ص. 235-236)

“عندما لا يكون لدى الشخص ما يقوله، يُستحسن أن يُمسك لسانه.” (ص. 284)

الختام:

كيف نشفى من مثل هذه الأعمال العظيمة؟

هذا السؤال الذي يبقى عالقاً في ذهني بعد الانتهاء من قراءة الأعمال المتقنة، والعميقة، والمؤثرة. انتهيت من قراءة هذه الرواية منذ ما يزيد عن شهر، وما زلت لا أستطيع خيانتها مع عمل آخر. لا تزال أطياف بطلتيها ترافقني وحزنهم يزيد من حزني. هل يشفينا الأدب أم يزيد من معاناتنا؟ سؤال لا أملك له من إجابة.

أحدث التعليقات