الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (11): «ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج» لأنطونيو سكارميتا
أقف اليوم في محطتي الحادية عشر: تشيلي. بدأت رحلتي مع هذا الكتاب عندما ذُكر الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا مؤخراً في أحد المسلسلات الأجنبية. تعجبت كيف لم أسمع به من قبل وهو شاعر الحب الأعظم، وحاولت جاهدة شراء كتابه الأشهر «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» حتى باءت جميع محاولاتي بالفشل. وعوضاً عن أشعار نيرودا منحني القدر بديلاً مناسباً. منحني رواية عن نيرودا والشعر والحياة بعنوان «ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج» لأنطونيو سكارميتا والتي نشرت طبعتها الثانية دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في عام 2019 بدمشق، ونقلها إلى العربية صالح علماني.
في قرية ساحلية إيطالية تسودها الأمية واصطياد السمك، يقبل ماريو خيمينث وظيفة ساعي البريد ليوصل الرسائل لشخص واحد فقط: بابلو نيرودا ويتطلع من بعيد إلى نادلة جميلة يتمنى لو يتزوجها، بينما يعيش الشاعر التشيلي في منفاه مراقباً ومشاركاً التحولات الكبيرة التي تمر بها بلاده. عبر اللقاءات القصيرة والمناقشات في الشعر والحب والسياسة، تنشأ علاقة خاصة بين ساعي البريد المُغرم والمسحور بأشعار نيرودا والشاعر المسكون بالسياسة.
طالما وجدت الكتابة عن الشعر أكثر شاعرية من الشعر نفسه، وهذا ما نجح سكارميتا في إيصاله للقارئ بكل مهارة. ففي البداية يقف الكاتب وقفة مطولة مع الاستعارة. يمكن تلخيص هذه الوقفة في سؤال طرحه ماريو خيمينث على نيرودا قائلاً: “هل تعتقد أن العالم كله، وأنا أعني كل العالم، بما في ذلك الرياح، والبحار، والأشجار، والجبال، والنار، والحيوانات، والبيوت، والصحاري، والأمطار […] إلى آخره! هل تعتقد حضرتك أن العالم كله هو استعارة لشيء آخر؟” (ص. 23) وبذلك يُخرج الكاتب مبدأ الاستعارة من سياق الشعر والأدب، ويطبقه على الحياة الواسعة، بكل تفاصيلها الصغيرة.
ثم ينتقل سكارميتا ليحدثنا عن سطوة الكلمة وتأثيرها على السامع وخاصة السامعة، فتنصح والدة النادلة ابنتها (التي وقع خيمينث في غرامها، وغازلها بأشعار نيرودا) قائلة: “ليس هناك مخدر أسوأ من الكلام. إنه يجعل نادلة حانة ريفية تشعر كأنها أميرة فينيسية. وبعد ذلك حين تأتي ساعة الحقيقة، لحظة العودة إلى الواقع، تكتشفين أن الكلمات لم تكن إلا شيكاً بلا رصيد. إنني أفضل ألف مرة أن يلمس سكيراً مؤخرتك في الحانة، على أن يقال لك إن ابتسامتك تطير عالياً مثل فراشة!” (ص. 49)
وفي النهاية، يُعلن موت الكلمة بموت الحرية، ويكتب في آخر سطر من الرواية: “صادر [جيش الانقلاب] طبعات عدة لمجلات معادية منها: نحن التشيليون، وبالوما، وكينتا رويدا.” (ص. 126) وبمصادرة الكلمة المطبوعة تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح وتنتهي الرواية.
ولأن الرمزية من الاتجاهات الفنية البارزة في الإبداع الشعري والنثري على حد سواء، عالج سكارميتا بالرمز قضية التضييق على الحريّات في تفصيل صغير جداً وهو قبعة ساعي البريد. على مدار الرواية لم يلتزم ساعي البريد الجديد (ماريو خيمينث) بارتداء قبعته، فكان مديره “يغلي عندما يراه قادماً دون قبعة” ويرفض قبول التحية منه حتى يرتدي قبعته.” (ص. 28) لكن هذه الحال لم تدم. ففي نهاية الرواية وبعد الانقلاب العسكري العنيف في عام 1973 في تشيلي ارتدى ماريو خيمينث قبعة ساعي البريد الرسمية ثم قال: “من الآن وصاعداً لا يوجد استخدام آخر للرأس سوى حمل القبعة،” (ص. 114) معبراً عن فترة القمع والدكتاتورية التي بدأت آنذاك. بهذه التراجيديا يُعلن الكاتب نهاية الديمقراطية وموت الشاعر بابلو نيرودا فتنتهي الرواية ولا تنتهي. تبقى أثراً حياً في نفس قارئها، شعراً ومشاعراً.
بين نظم الشعر وعيشه، يقدم أنطونيو سكارميتا مزيجاً ساحراً لشخصيتين إحداها عاشت الشعر وجربته (شخصية خيمينث) وأخرى نظمته (شخصية نيرودا). وعلى الرغم من قلة الأشعار الواردة في الرواية، إلا أنها تتطرق للشعر معنىً وحساً، فتخلق عالماً من المعاني والاستعارات.
الحكمة من الكتاب:
تقدم رواية «ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج» الشعر كأسلوب حياة وليس كمجرد نوع من الأنواع الأدبية وقد نجح الكاتب في إيصال هذه الفكرة عبر تصوير شخصية بابلو نيرودا من منظور ساعي البريد البسيط والكسول. منظور الشخص العادي بعيداً عن تعقيدات الشعراء والكتّاب والسياسيين.
والحكمة من هذه الرواية هي أهمية عيش الأدب قبل كل شيء. أن لا نبقيه محتجزاً بين دفّات الكتب وفي المكتبات والمدارس ونجعل منه “خبزاً ساخناً” كما فعل نزار قباني من قبل.
اقتباسات من الكتاب:
“هنا في الجزيرة، البحر، ويا له من بحر! يخرج من نفسه كل لحظة. يقول نعم، يقول لا. يقول نعم بالأزرق، بالزبدة، بالعَدو. يقول لا، لا. لا يستطيع البقاء ساكناً. اسمي البحر، يقول وهو يرتطم بصخرة من دون أن يستطيع إقناعها. وعندئذ، بسبعة ألسن خُضرٍ، لسبعة نمور خُضر، لسبعة كلابِ خُضر، لسبعة بحور خُضر، يجتاحها، يقبلها، يبللها، ويضرب صدره مردداً اسمه” (ص. 22)
“ليس هناك من صورة لا تأتي بمحض المصادفة يا بني.” (ص. 23)
“كانت الحشود البشرية هي الدرس الذي تلقيته في حياتي. يمكنني أن أصل إليها بالخجل الملازم للشاعر، بخوف الهيّاب، ولكنني حين أصير وسطها أشعر بالتحول، بأنني جزء من الأغلبية الأساسية، ورقة أخرى من الشجرة العظيمة التي تشكلها الإنسانية.” (ص. 40)
“يلزمني وقت طويل لأحتفل بشَعرك، يجب أن أعدّه وأتغزل به شعرة شعرة.” (ص. 49)
“الشعر ليس ملك من يكتبه، وإنما ملك من يستخدمه!” (ص. 67)
“عصفور يأكل، لا بد من أن يطير.” (ص. 74)
“حفر القبور مهنة جيدة يا ماريو. إنها تعلم الفلسفة.” (ص. 117)
“الشيء الحقيقي الوحيد هو أننا نتنفس ونتوقف عن التنفس.” (ص. 122)
الختام:
لمن يرغب في أن يعيش الشعر ولا يكتفي بقراءته، عليه قراءة رواية «ساعي بريد نيرودا: صبر متأجج» رواية تمزج بين الشعر والحب والسياسة. رواية تختزل الحياة بكل تفصيلها في ما يقارب 128 صفحة فقط.
أحدث التعليقات