الحكمة (13): «تصوف: منقذو الآلهة» لنيكوس كزنتزاكيس

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (13): «تصوف: منقذو الآلهة» لنيكوس كزنتزاكيس

أقف اليوم في محطتي الثالثة عشرة: اليونان.

أدركت مؤخراً أن الكاتب الممتاز هو الذي يجعلك تتعلق بشخصيات رواياته، كأن تعشقها وتتمنى لقياها وكأنها شخصية حقيقية، وهذا ما حدث معي بالضبط عند قراءة رواية «زوربا اليوناني» لنيكوس كازانتزاكيس.

لذا عندما علمت أنّ له كتاباً عن التصوف: «تصوف: منقذو الآلهة» شرعتُ مسرعة في اقتنائه وقراءته. نشرت طبعته الأولى دار المدى للثقافة والنشر في سنة 1998 في سوريا، ونقله إلى العربية سيد أحمد علي بلال.

مدفوعةً بتعلقي بالتصوف الإسلامي وما يتبعه من تجليات إلهية، رفعتُ سقف توقعاتي من الكتاب، وخاصة أن غلافه يحتوي على صورة مريد – من الطريقة المولوية – يدور في شجن، لأكتشف بعد قراءة الكتاب أنه أقرب للزهد والروحانيات منه للتصوف وفقاً لمدلوله التاريخي والديني في السياق العربي.

عرّف إبراهيم هلال التصوف بما يلي: (التصوف كما يراه الصوفية في عمومه هو السير في طريق الزهد، والتجرد عن زينة الحياة وشكلياتها وأخذ النفس بأسلوب من التقشف وأنواع من العبادة والأوراد والجوع والسهر في صلاة أو تلاوة ورد. حتى يضعف في الإنسان الجانب الجسدي، ويقوى فيه الجانب النفسي أو الروحي فهو إخضاع الجسد للنفس بهذا الطريق المتقدم سعياً إلى تحقيق الكمال النفسي كما يقولون، وإلى معرفة الذات الإلهية وكمالاتها وهو ما يعبرون عنه بمعرفة الحقيقة). (هلال، 1979، ص. 1) تربط بين التصوف والزهد والروحانيات الروابط الكثيرة، إلا أن ما ذكره كازانتزاكيس لا علاقة له بالتصوف وفق تعريف هلال، فحتى كلمة “Ασκητική” اليونانية الواردة في عنوان الكتاب الأصلي هي أقرب في معناها “للزهد” من “التصوف”.

وعلى الرغم من عدم توافق الكتاب مع عنوانه المُترجم، كانت تجربة قراءته تجربة ممتعة وروحانية من الدرجة الأولى. قسّم كازانتزاكيس الكتاب إلى عدة فصول مفيدة وعميقة وهي: الواجب (الأول – الثالث)، المسيرة (أنا، السلالة، الإنسانية، والأرض)، الرؤيا، الممارسة (العلاقة بين الإنسان والآلة، الإنسان والإنسان، والإنسان والطبيعة)، والسكينة. وختاماً أورد الناشر فصلاً ممتعاً ومهماً عن حياة الكاتب بقلم زوجته الحبيبة هيلين كزنتزاكيس بعنوان: (نيكوس الذي لم يساوم).

ذكرني كثيراً بكتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وشعرت بتشابه كبير بين نصائح الكاتبين على الرغم من أن نصائح جبران كانت عامة ومتنوعة عن مُختلف مجالات الحياة، بينما ركّز كزنتزاكيس على الروحانيات، الإنسان، وعالمه الجواني، إذ يٌمثل هذا الكتاب دستوراً أو دليلاً للجوانب الداخلية للإنسان، لذا فإن قراءته بمثابة رحلة في دواخله وغموضه الذي لم يثبته العلماء والباحثون بعد. يُوفر كازانتزاكيس عصير حكمته عبر صفحات الكتاب القليلة، والتي لا يتجاوز عددها الـ82 صفحة.

أكثر جزئية لفتت انتباهي واهتمامي في الكتاب هي علاقة الإنسان بسلالته أو بالأصح سلالاته السابقة، إذ يقول: “أنت لا تتكلم وحدك، ولا تتكلم سلالتك وحدها من خلالك، ففي داخلك تصطخب وتتصايح أجناس لا تحصى من البشر – بيض وصفر وسود.” (ص. 36) أدهشني هذا الربط؛ لأنني عادة عندما أفكر في أفكاري وخواطري يتملكني شعور خاطئ – على ما يبدو – بأنها ملك لي وحدي ونتيجة تجربتي الخاصة فقط، بينما هي على ما يبدو نتيجة سلالات من البشر سبقتني وأحمل دمها وملامحها والصفاتِ.

هذه الإشارة تعود إلى جدال علمي في علم النفس بين الطبع والتطبع، فهل شخصية الإنسان وتصرفاته نتيجة طبعه الذي ولد به، أم هو نتيجة تطبعه بالبيئة المحيطة، وكانت ولا تزال دراسة التوائم الذين عاشوا متفرقين عن بعضهم البعض من أهم الدراسات التي تصب في صالح هذا الجدال، وتعطي نتيجة متعادلة بين هذا وذاك كما اقترح كازانتزاكيس بالضبط: قليلاً منك وقليل من سلالتك.

الحكمة من الكتاب:

كيف يُمكن استخلاص حكمة واحدة من كتاب كله حكماً؟ سؤال صادفني كثيراً في أثناء قراءة هذه الكتب العظيمة، والتي تدفعني إلى التفكير كثيراً في ذاتي ونفسي وداخلي أو بالأصح دواخلي. لذا فإن الحكمة الحقيقية من هذا الكتاب تكمن في أهمية التفكّر. علينا أن نفكر كثيراً في أنفسنا وذواتنا. أن نطرح العديد من الأسئلة حتى نصل لأصل الفكرة وسبب تفكيرنا فيها من الأساس، عندها فقط سنملك ما يكفي من العمق لنكتب عنه وإلا لن نضيف لهذه الحياة سوى مزيد من التفاهة وهي، وصدقوني حين أقول، على ما يكفي منها.

اقتباسات من الكتاب:

“لا تقل لي أزل الحجاب لأرى اللوحة. فالحجاب هو اللوحة نفسها.” (ص. 15)

“بإمكان عقل الإنسان أن يدرك الظواهر فحسب، لكنه عاجز أبداً عن إدراك الجوهر: إنه عاجز حتى أن يعقل كل ظواهر المادة، وإنما يستطيع فقط أن يعقل بعض ظواهرها.  وبتحديد أكثر: إنه لا يستطيع حتى أن يعقل ظواهر المادة وإنما فقط يستطيع أن يعقل العلاقات التي تربطها ببعضها البعض. إن العلاقات التي تربط بين ظواهر المادة ليست مستقلة فعلاً عن الإنسان. إنما هي من صنع البشر أيضاً.” (ص. 16)

“عليك أن تنجو من البساطة الفجة للعقل الذي ينظّم ويأمل في السيطرة على الظواهر. عليك أن تنجو من رعب القلب الذي يبتغي ويأمل العثور على الجوهر. انتصر على العقبة الأخيرة الأكثر إغراءً: الأمل.” (ص. 22)

“إلى أين نحن ذاهبون؟ لا تسل! أصعد وأهبط. لا توجد بداية ولا توجد نهاية.” (ص. 24)

“أعرف الآن أنني لا أطمع في شيء ولا أخاف من شيء. لقد تخلصت من العقل ومن القلب وصعدت إلى أعلى. أنا حر. هذا ما أبتغيه ولا أبتغي شيئاً عداه فلقد كنت أطلب الحرية.” (ص. 25)

“أنت لست جسداً ضعيفاً ويائساً، فخلف قناعك الترابي المتحرك يقبع وجه منذ آلاف السنين. إن عواطفك وأفكارك أكثر تقدماً من قلبك ومن عقلك.” (ص. 34)

“نعدو ونحن نحمل معنا مصباحاً يضيئ وجهنا ولحظتنا. ودون إبطاء نسلم المصباح إلى ابننا وحالاً ينطفئ نورنا ونهبط إلى العالم السفلي.” (ص. 36)

“ما معنى السعادة؟ هو أن تعيش كل أنواع التعاسة. ما معنى الضوء؟ أن ترى بعين غير معتمة كل الظلمات.” (ص. 38)

“مهما تعيش النشوة فإنك لن تستطيع أن تحولها إلى قول، ولكن رغم ذلك عليك أن تناضل لكي تحولها إلى قول. حارب بالأساطير والأمثال وبالاستعارات. حارب بالكلمات الشائعة، وبالكلمات النادرة، بالصيحات وبالقوافي، لكي تمنح النشوة لحماً ودماً وتجسّدها.” (ص. 49)

“إن واجبنا الإنساني العميق لا يتلخّص في أن نوضح أو نضيء إيقاع الإله، وإنما في الخضوع له قدر ما نستطيع، إيقاع حياتنا الصغيرة، وعمرنا هكذا فقط ننجح نحن غير الخالدين في أن ننجز أمراً خالداً، لأننا بذلك نتعاون مع من هو خالد. وهكذا ننتصر على التفاصيل وعلى الخطيئة المهلكة، كما ننتصر على محدودية عقولنا، ونحول عبودية المادة الترابية التي مُنحت لنا لاستخدامها في حياتنا، إلى الحرية.” (ص. 61)

“إن صلاتي ليست ندبة شحاذ، ولا اعترافات عاشق، ولا حسابات متواضعة لتاجر مقايضة صغير: وهبتك فاعطني. إن صلاتي هي تقرير من جندي إلى قائده: هذا ما فعلته اليوم.. هكذا حاربت لكي أنقذ قطاعي الخاص طوال المعركة، هذه هي المعوّقات التي واجهتها… وهكذا أفكر استعداداً لمعركة الغد.” (ص.  56)

“إننا لا نحارب شهواتنا المظلمة بفضيلة رزينة وشاحبة ومحايدة تسمو عليها، وإنما بشهوات أخرى أقوى منها وأشد بأساً.” (ص. 63)

“عليك أن تموت كل يوم، وأن تولد كل يوم، وأن ترفض ما عندك كل يوم. فالفضيلة الكبرى ليست في أن تكون حراً، وإنما في أن تناضل من أجل الحرية.” (ص. 64)

الختام:

بعض الكتب – كالأشخاص – تكون خفيفة جداً على النفس والروح لتجد نفسك تستمتع بأصغر تفاصيلها وأتفهِها. تجربتي مع هذا الكتاب كانت كذلك. كل جملة وعبارة كانت ممتعة ومفيدة بل وحكيمة أيضاً، كتاب صغير لكنه شامل وجامع. تجربة روحية عميقة أنصح الجميع بممارستها.

المصادر:

  1. إبراهيم هلال (1979) التصوف الإسلامي بين الدين والفلسفة، القاهرة : دار النهضة العربية.

أحدث التعليقات