الحكمة (15): «المحاكمة» لفارنتس كافكا

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (15): «المُحاكمة» لفارنتس كافكا

أقف اليوم في محطتي الخامسة عشر: التشيك، غير أن الكاتب يكتبُ باللغة الألمانية. إنه بلا جدال فرانتس كافكا.
منذ دخولي إلى عالم الأدب ومشاركتي في نوادي القراءة والفعاليات الثقافية، واسمه يتواتر على مسامعي. لم تجمعني به المصادفة من قبل، لذا وبينما كنتُ أجمع كتب «مشروع: خمسون حكمة حول العالم» أدركت أن الأوان قد آن لدخول عالم كافكا. ولأنها الرواية الوحيدة المتوفرة في المكتبات المحلية حينما قررت الغوص في عالمه، بدأت استهللت رحلتي برواية «المُحاكمة» التي نشرت طبعتها الأولى دار أقلام عربية للنشر والتوزيع في 2017 في القاهرة، ونقلها إلى العربية محمد أبو رحمة.
تُرجم اسم الرواية في نسخ أخرى إلى الـ «القضية» وأعتقد أن العنوان في كلتا الحالتين لا يشير إلى محاكمة أو قضية فعلية، وإنما إلى “المحاكمة الاجتماعية” أو “القضية البشرية” وما يلحق بالشخص جراء انخراطه في المُجتمع الإنساني.

تبدأ الرواية عندما يبلغ البطل – يوسف ك. – سن الثلاثين. فيفاجأ بزيارة المحققين ودعوته إلى حضور جلسة محاكمته عن تهمة لا يخبرونه عنها، ولا يُخبرنا عنها كافكا؛ لأنها حقيقةً لا تهم، فما يهم حقاً هو أنه مُتهم حتى تُثبت براءته.
تستمر إجراءات المحاكمة العبثية، والتي لا تُمثل الإجراءات القانونية الفعلية بأي وجه، فلا وجود لأي وثائق أو مستندات فعلية وهو ما يُتقنه “القضاء الاجتماعي” عادةً على أكمل وجه. وعلى سبيل المثال، وبعد الجلسة الأولى، عاد يوسف ك. إلى مكان انعقاد الجلسة ليطالع الكتب التي على طاولة القاضي. عندما فتح الكتاب الأول وجد “صوراً غير مهذبة، تظهر رجلاً وامرأة جالسان على أريكة، مما فضح نية الرسام الدنيئة” أمّا الكتاب الثاني، فكان “روايةً عنوانها: “نوائب عانت منها جريتا بسبب زوجها هانز”. (ص. 91) ويُمثل الكتاب الأول الغريزة البشرية التي تقود هذه “المحاكمة الاجتماعية”، وأمّا الكتاب الثاني، فيشير إلى عدم صحتها، لأنها تعتمد على رواية وقصص خيالية لا علاقة لها بالواقع.

تتدرج أحداث الرواية من سيئ إلى أسوأ، والمسكين يوسف ك. ينحدر معها في مستنقع الضغوط الاجتماعية والفساد الأخلاقي، حتى ينتهي به المطاف ميتاً بعد محاولته الهرب من حرّاس المحكمة، ولسان حاله يقول ألا مفر من هذه “المحاكمة الاجتماعية” إلا بالموت، غير أن هذه ليست الرسالة الوحيدة التي توصلها رواية «المُحاكمة» للقارئ، فقبل النهاية بقليل، يُدرج كافكا قصة في غاية الأهمية والرمزية.

بينما تقوده الأقدار “مُصادفة” إلى مقابلة قسّ السجن، يروي القس ليوسف ك. قصة تُلخص الحكمة من الرواية، وتُعرف بـ«أمام القانون». “أمام القانون يقف حارس للبوابة، وقد جاء أحد الريفيين إلى هذا الحارس طالباً الدخول إلى القانون، إلا أن حارس البوابة قال له إنه لا يستطيع الإذن له بالدخول الآن. ففكر الريفي ثم سأل عما إذا كان سيؤذن له بالدخول فيما بعد؟ فرد الحارس: (يُمكن هذا، لكن ليس الآن).” (ص. 307) يُقرر الريفي بعدها أن يجلس بجوار البوابة حتى يُسمح له بالدخول وخاصة أن الحارس قد هدده بوجود حرّاس آخرين وراءها. تمر السنين بينما يُحاول الحارس جاهداً كسب موافقة الحارس على الدخول ولا يفلح، حتى أدركته المنية وهو مُنتظر. قبل أن ترحل روحه بثوانٍ بسيطة، “يهدر الحراس في أذنه: (لم يكن لأحدٍ غيرك الحصول على إذنِ بالدخول، فهذا البابُ كان مُخصصاً من أجلك أنت فحسب، ولسوف أمضي لآن وأغلقه).” (ص. 309)

ولمّا كانت المُحاكمة مُحاكمة اجتماعية بالأساس، فلا يُمكن للقانون إلا أن يكون رمزاً للحياة. حياة الإنسان التي قد يُحرم من عيشها إذا صدّق كلام “حارس البوابة” وامتنع عن عيش الحياة وفقاً لرغبته وشغفه الحقيقي، فما منع الريفي من الدخول إلى القانون أو الحياة سوى كلام الحارس، لم يكن هناك أي عائق مادي، والأمر ذاته صحيح بالنسبة لقصة يوسف ك. فلم تصله أي دعوة مادية للمثول أمام المحكمة، كل ما قابله كان معنوياً لا أساس له سوى الإدعاء.

وأميل إلى الاعتقاد أن المُحاكمة لم تبدأ بعد عيد ميلاد يوسف ك. الثلاثين، وإنما كانت جارية منذ اللحظة الأولى التي ولد فيها، غير أنه لم ينتبه لها إلا حينها. وتُشير العديد من الدراسات إلى أن سن الثلاثين هو سن الرشد الحقيقي، ففي فترة العشرينات نكون معرضين إلى اضطرابات كبيرة في الصحة العقلية (فرنانديز، 2019) يزيد من حدتها الضغوطات الحياتية المُتعلقة باختيار المهنة وإيجاد العمل المناسب وتحقيق الاستقلالية المادية ما يعرّض الدماغ إلى هذه الاضطرابات، وهي أمور تُحل كلياً في سن الثلاثين. فبينما كان يوسف ك. جزءاً فاعلاً ومشاركاً في هذه “المُحاكمة الاجتماعية” الباطلة، يكتشف عند بلوغه سن الرشد الحقيقي أن كل ما يعيشه ما هو إلا وهم وادعاء، ولأنه لم يستطع أن يجد طريقه وسط فوضى الحياة، كان مصيره الموت.

الحكمة من الكتاب:

يُشير أحد الأمثال التونسية الشائعة إلى تفاهة الكلام وخاصة إن لم يُتبع بأفعال تؤكده، ويقول المثل: “كلام يهزو الريح” بمعنى أن الكلام من تفاهته وخفته يُمكن للريح أن يأخذه معه، فيصبح وبكل بساطة نسياً منسياً. كلمات هذا المثل البسيطة تُلخص الحكمة من رواية «المُحاكمة». فهي رواية عن الادعاء والكلام ولا شيء غيره، وعلى الشخص الفاعل والإيجابي أن يتخطى الكلام، ولا يقف عنده. عليه أن يتحدى المُسلّمات والقواعد والقوالب الاجتماعية ليتجنب الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الريفي، فقضى عمره في الانتظار نتيجة تصديقه لادعاءات الحارس.

اقتباسات من الكتاب:

“من قضى مثلي ثلاثين عاماً في هذه الدنيا وعرك الحياةَ يصير صلباً تجاه المفاجآت ولا يجد مشقة كبيرة في تحملها.” (ص. 37)

“إن الإدراك الصحيح لشيء ما وسوء فهم نفس الشيء لا يتعارضان تعارضاً تاماً.” (ص. 311)

“ليس علينا أن نعتقد أن كل شيء حقيقي، وإنما نعتقد أنه ضروري.” (ص. 316)

الختام:

أذهلتني رواية «المُحاكمة» وحيرتني كما حيرت جل قرّاء كافكا، غير أن كتابته، وعلى الرغم من بساطتها اللغوية، لا تناسب كل القراء وخاصة غير المُستعدين إلى التساؤل والنقد والتفكير خارج العادي والمُعتاد.

تأتي هذه الرواية ضمن سلسلة ثلاثية من عالم كافكا، وهي أولاً، هذه الرواية طبعاً، وثانياً رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موراكامي وثالثاً رواية «كافكا الخاطب الأبدي» لجاكلين راؤول-دوفال.

المصادر:

  1. FERNANDEZ, C. (2019, March 19). Adulthood begins at 30: Scientists say that our brains are not fully grown-up when we are in our twenties. Retrieved from Daily Mail.

أحدث التعليقات