الحكمة (17): «كافكا الخاطب الأبدي» لجاكلين راوول دوفال

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (17): «كافكا الخاطب الأبدي» لجاكلين راوول دوفال

أقف اليوم في محطتي السابعة عشرة: فرنسا، بلد الرومانسية والسحر والجمال. ومن هذا البلد العاطفي، تقدم جاكلين راوول دوفال كتاباً أكثر عاطفية وشاعرية عن كاتب الغرائبية والعجائب بعنوان: «كافكا الخاطب الأبدي» والذي نشرت طبعته الأولى منشورات تكوين في عام 2019 في الكويت ونقله إلى العربية محمد آيت حنا.

من عنوان الكتاب “الخاطب الأبدي” يتجلى جوهره، فالكتاب يلخص السيرة العاطفية لفرانتس كافكا الذي عاش طوال عمره – القصير نسبياً – خاطباً وساعياً للحب دون أن يعيشه بأكمله أو يختم الخطوبة بالزواج. قسّمت دوفال الكتاب إلى عدة فصول حسب النساء اللواتي مررن بحياة كافكا وكثافة العلاقة التي ربطته بهن. فأكبر الأجزاء كانت لفيليس وباور ودورا ديامانت بينما خصصت أجزاء أقصر لكل من غريت بلوخ، يولي ووريزيك، وميلينا يسينيسكا (وأعتقد أنها الأشهر من النساء اللواتي عرفهن نظراً لانتشار كتابه «رسائل إلى ميلينا»). كما تطرقت الكاتبة إلى العلاقة الفريدة التي جمعته بصديقه الكاتب ماكس برود عبر الرسائل التي يتبادلانها.

أجمل ما في الكتاب أنه عبارة عن واقع متخيل لملأ الفراغات التي لم تغطيها مُذكرات كافكا أو ما بقي من الرسائل التي أرسلها لحبيباته أو أرسلنهن إليه (إذ كان يأمر بأن تُحرق كل أعماله ورسائله بعد مماته). إن هذه الصلة بين الواقع والأدب تخلق عالماً شاعرياً وعاطفياً يُمتع القارئ ويثير شجنه.

كان فرانتس كافكا عاشقاً، متسرعاً، شغوفاً، متقلباً، ومندفعاً، لكنه وقبل كل هذا، كان يبحث عن امرأة تتقبله. تتقبل طبعه المتقلب وشغفه مُنقطع النظير بالكتابة والقراءة، وهو ما لم يجده إلا في خطيبته الأخيرة دورا ديامانت لكن المنية راودته قبل أن يتزوجها ويستكمل علاقته بها. يدفعني ذلك للتساؤل إذا ما كان احتراقه المبكر (إذ توفي عن عمر ناهز 41 عاماً) هو نتيجة ارهاق في الروح وفرطٍ في المشاعر وأنه ربّما لو كان أقل عاطفية أو حساسية لكُتبت له حياة أطول وعمراً مديداً أم أن هذا الشغف والحب الذي كان يملأ قلبه كان سبباً في منحه عمراً غنياً رغم قصره. قد لا تكون لدي إجابة بيّنة عن هذا التساؤل، إلا أنني أتفق مع مؤسس علم النفس سيغموند فرويد عندما علّق على انتحار الفنان فان جوخ قائلاً: (كانَ من الممكنِ أن يعيشَ أكثر، لو أنَّه وجدَ الحب، وحصلَ على حضنِ امرأةٍ يحتويه). (الخطيب، 2019)

لم أتمكن من منع نفسي وأنا اقرأ كتاب «كافكا الخاطب الأبدي» من تخيل كتبٍ مماثلة عن السيرة العاطفية لمحمود درويش أو نزار قباني وغيرها من الكتاب العربي المعروفين. كتب يتخللها الكثير من الشعر والنثر الجميل ويرويها كتّاب متمكنين كدوفال. كم ستكون هذه الكتب جميلة وشاعرية إن وجدت.

الحكمة من الكتاب:

يُمكن الجزم بأن البطل الحقيقي للكتاب ليس فرانتس كافكا، وإنما الشغف، فهو المحرك الأول والأخير لكافكا وكل من دخلن حياته من النساء، لذا فإن الحكمة التي تعلمتها من كتاب «كافكا الخاطب الأبدي» هي أن أتمسك بالشغف الذي يملني ولا أحاول أن أكبته أو أمحقه بل أتركه يتخللني ويتملكني حتى أتوصل إلى الحقيقة. حقيقة الحياة. فكما تذكر الكاتبة، يخاطب كافكا حبيبته فيقول: (“لقد أخبرتُكِ عديد المرات يا ميلينا، ليس يهمني إلا أن أعذَّبَ أو أعذِّبَ.) فتجيبه: (لأي سبب)، فيرد: (لأنتزع الحقيقة. لأبتز الاعتراف.) ” (ص. 163)

اقتباسات من الكتاب:

“لا أستطيع أن أحب، إلا متى رفعتُ موضوع حبي عالياً جداً، بحيث يصير متعذراً على بلوغه.” (ص. 7)

“حين تصلني رسائلك أرتعد كمجنون، وجيف يهز جسدي بأكمله، وقلبي لا يعرف سواك.” (ص. 27)

“اكتبي إلي على الفور رسالة جديدة. أجيبي بدقة عن أسئلتي كلها، أحتاج أجوبة تضاهي الثعابين دهاء وسرعةً.” (ص. 35)

“ينبغي أن أكتب إليكِ، وإلا قتلني الحزن.” (ص. 35)

“قوام حياتي كان دوماً، وما يزال، هو الكتابة، وفي الغالب الأعم مجرد محاولات فاشلة، لكني حين لا أكتب، أتهاوى أرضاً، أصير غير صالح إلا للكنس.” (ص. 38)

“لا ينبغي أن نقرأ إلا الكتب التي تلدغنا وتلسعنا، على الكتب أن تكون بمثابة الفأس الذي يكسر بحر الجليد فينا.” (ص. 42)

“إن ما يخيفني حقاً – ولا يمكن أن نقول أو نسمع أسوأ – هو انني لن أستطيع أبداً امتلاككِ. في افضل الأحوال ينبغي أن أقنع، ككلب وفي، بتقبيل يدك التي تتركينها لي شاردة، ولن يكون ذاك فعل حب، وإنما فقط علامة على يأس الحيوان المحكوم بالخرس والبُعد الأبدي. سوف أحس بقربي نفَسَ جسدك الحي، مع بقائي بعيداً عنك أكثر مما أنا بعيدٌ هذه اللحظة في هذه الغرفة. سأظل منفياً عنك إلى الأبد.” (ص. 50)

“إن شعوري بالذنب قوي على الدوام، فلا حاجة بك إلى إذكائه، لكنني لست قوياً بما يكفي لأبلع مثل هذا الطعام. ثم إن هذا النص ليس وحده المؤلم. كل ما كتبته حتى اللحظة هو كذلك، زماننا، وزماني أنا على وجه التخصيص، كلها شديدة الإيلام. منذُ زمن بعيد وزماني أبعد من أزمنة الجميع. يعلم الرب أي درك كنت سأنزل إليه لو كان مسموحاً لي أن أكتب كما شئت!” (ص. 110)

“إنني امرأة أكثر مما ينبغي لتواتيني القوة على الخضوع إلى رهبانيتك وزهدك الأشد صرامة. أنا امرأة واقعية، وأحب الحياة حباً جماً.” (ص. 156)

“لا تحزن، لا تكره نفسك على شيء، ولكن [أيضاً] لا تحزن على عدم وجود ما يُكرِهك، كف عن تشمم إمكانات الإكراهات.” (ص. 177)

“إن مسقط الرأس، دوماً ما يكون مكاناً غير مضياف، إنه فضاء للذكريات، للحنين المرضي، للصغائر، للمهانة، للغواية، ولتبديد الجهد سوى.” (ص. 216)

الختام:

في عالم تطغى فيه الماديات على العواطف والأحاسيس، يأتي كتاب «كافكا الخاطب الأبدي» ليقدم مثالاُ حياً عن شخصٍ عاش حياته كلها بحثاً عن الحب. الحب فقط. عاشق ولهان بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معاني. لذا، لا يسعني في النهاية إلا أن أشكر جاكلين راوول دوفال، المترجم محمد آيت حنا، وطبعاً منشورات تكوين على هذه التجربة العاطفية المُشبعة والغنية.

تأتي هذه الرواية ضمن سلسلة ثلاثية من عالم كافكا، وهي أولاً، رواية «المحاكمة» لفرانتس كافكا، وثانياً رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موراكامي وثالثاً هذه الرواية.

المصادر:

  1. رابعة الخطيب (04/09/2019) ” انتحار فان جوخ بين الحب والبؤس والشعور بالوحدة”، مدونات الجزيرة

أحدث التعليقات