الحكمة (20): «المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى» ترجمة عبد الإله الملّاح

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (20): «المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى» ترجمة عبد الإله الملّاح

أقف اليوم في محطتي العشرين: الهند أو “البهارات” وفقاً لمسمّاها المُشتق من اللغة السنسكريتية. الاسم الذي سيطلقه العرب على ما سيصلهم من شبه القارة الهندية من توابل؛ أمّا في معنى كلمة “المهابهاراتا” فيعود إلى الهند العظمى، وهي أيضاً اسم أطول قصيدة ملحمية عرفتها الإنسانية.

في عمل فريد من نوعه، يقدم عبد الإله الملّاح نسخة عربية مترجمة ومعدلة بعنوان «المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى» نَشرت طبعتها الثانية دار ورد للنشر والتوزيع في سنة 2017 في دمشق. بعد تبينه خلو المكتبة العربية من نسخة مترجمة عن «المهابهاراتا» واطلاعه على النسخة الأصلية في مجلداتها الإثني عشر، قرر الملّاح ترجمة نص مُختصر للملحمة لب.لال (نيودلهي 1989). ثم استعان بنصوص وروايات أخرى يعمد إلى مقاطعتها مع بعضها ليتبين النص الأصيل والأحداث الأساسية من الإضافات المتأخرة، وبذلك استطاع ترميم ما يجده من ثغرات. (ص. 9) ويُمكن اعتبار هذا العمل بمثابة نسخة أو مسودة جديدة من «المهابهاراتا» التي تتجاوز مسوداتها الألف مسودة.

“تُصور «المهابهاراتا» عالماً كاملاً بكل تفاصيله، منظوراً بعين الفلسفة، في لحظة اتصال العقل في بدايته وبراءته بالكون، مأهولاً بشخصيات ذات سمات محددة وألوان خاصة: يوديشترا الباحث عن العدالة في عالم الظلم، أو يحسبه كذلك، يقابله دريودانا، ابن عمه في الطرف الآخر مناصر الحق والنظام، وهناك أرجونا المحارب الذي يتوسل بالعلم والتقنية للتدمير باسم العدالة، أو ما يحسبها عدالة، والرجا ديتراشترا، الملك الكفيف الذي يعتمد الخبرة والحكمة ولا ينقطع عن البحث عن التوازن بين المتناقضات: العدالة مقابل الحق، العلم والحكمة. وبهيشما المدافع عن النظام والقانون، ورمز التقاليد والاستمرار”. (ص. 17)

تتفرع تفاصيل الملحمة وتتكاثر شخصياتها، وتتمحور حول الصراع بين آل باندو وآل قوروش. فبعد تنازل باندو عن الحكم واختياره حياة الزهد والتأمل، تسلم أخوه ديتراشترا مقاليد الحكم لعقود نشأ فيها أبناء الأخوين سوياً.

تميز أبناء باندو في كل ما كان يُعهد إليهم من دروس وتدريب، وطغى أمرهم على أبناء العم ديتراشترا فتفوقوا عليهم في كل مجال. (ص. 56) أشعل هذا التفوق نيران الغيرة والحقد في قلب دريودانا ابن ديتراشترا الذي سعى بكل ما أوتي من جهد إلى الاستحواذ على جميع المُلك لصالحه دون أن يتقاسمه مع أبناء عمه.

تخوض الملحمة في تفاصيل الصراع بين هذه الأطراف، وتمر بنفي أبناء باندو والحرب الطحون بين الطرفين والتي سينتج عنها خسائر بشرية هائلة. وسط الحرب، يدور حوار عميق بين كوشنا الشاب الوسيم، وأرجونا ابن باندو تلميذه وصديقه، ويُسمى نص هذا الحوار بـ «البهغفات غيتا» أو أنشودة الرب، ويمثل النص الأساسي للنظام الهندوسي الديني المعاصر. يكشف كوشنا في أحد أجزاء الحوار عن حقيقته الإلهية قائلاً: “اعلم أني اتخذت شكل البشر، ولذلك عصي على الحمقى أن يتعرفوا إليّ. أنا رب البشر! أنظرني فأنا الواحد الفردّ! أنظرني! فمن تأملني وحدي بالعقل، ولم يعبد إلا إياي بلغني في النهاية.” (ص. 231)

كما تتخلل الملحمة حكماً عديدة تتمركز أغلبها في «البهغفات غيتا»، وتتخذ في بعض المواضع صيغة العظة والنصح من قبيل: “اعلم أن الحكيم من أعرض عمّا يزينه الهوى. ومن تساوى عنده الحر والبرد، اللذة والألم، الشرف والعار، نال السكينة الأبدية، ومن كانت هذه حاله كان عنده التراب والذهب سواء، فلا يقيم تمييزاً بين الصديق والعدو، اللاهين والبليدين، بين أهل الحقد وسوء الطوية وذوي الصدق والاستقامة ذلكم هو الإنسان الكامل.” (ص. 231) لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من الممكن للإنسان أن يكون كاملاً؟

دائماً ما أقف على مثل هذه الأفكار وأنا في صراع داخلي حاد. بعضي يريد أن يصدق أن بوسعي الوصول لمثل هذه الدرجات من الكمال، وبعضي الآخر تذهله تجربة الحياة على نقصانها.

لعل المغزى من مثل هذه العظات يكمن في دفع الإنسان نحو السعي الدائم إلى حالة مُستحيلة تطبيقيا،ً ومنطقية نظرياً. وفي المقابل تعالج الملحمة المنطقية المفرطة لبعض هذه المفاهيم بسردها المتواصل والمستمر للأحداث. فحالة الحركة هذه تُمثل حياة الإنسان التي منذ اللحظة الأولى التي يعي فيها وجوده وهو في حركة مستمرة نحو فنائه. كل دقيقة تمرّ عليه ما هي إلا دفعة جديدة نحو مصيره المحتوم. هذه الحركة بطبعها تمنعه من الكمال. فهل من مُكتمل مُتحرك؟

الحكمة من الكتاب:

الحركة المستمرة هي الحكمة الأكبر من كتاب «المهابهاراتا»، وهي حالة الكون. الحركة المُتمثلة في الأساطير التي ترويها الملحمة، وفي سعي الإنسان المستمر نحو وجهة ما. إنها تُمثل حالة الحياة التي تمضي غير عابئة بما يقوله أو يقرره من فيها. هذه الحركة هي الإثبات الوحيد لحقيقة الإنسان وجوهره. هي المعري لطبقات الافتراضات الخاطئة التي قد يحملها الإنسان عن نفسه، ثم يكتشف مع طول الطريق أنها مجرد افتراضات، وأنه أبعد ما يكون عن الصورة التي كوّنها عن ذاته. وحده طريقه سيثبت ذلك.

الطريق الذي ورد في عدة مواضع في الكتاب منها: “الملك والسلطان، إذ انقطع … وسلك طريق الزهد والتقشف، كما شاء لنفسه، بالغابة، وبات على نهج المجاهدة ورياضة النفس باليوغا لا ينقطع عنها” (ص. 52) و”كان ينطوي … على احتقار عظيم للآخرين. وليس هذا بالطريق السليم للفوز في هذه الحياة” (ص. 362).

اقتباسات من الكتاب:

“الحق أن الأخلاق مسألة عويصة … من ذا الذي يملك أن يطلق حكماً مطلقاً فيقول هذا من الأخلاق وذاك ليس من الأخلاق في شيء؟” (ص. 92)

“إن الاحتفاظ بالملك أصعب من تأسيسه. ولذلك كانت صفات الملك غير صفات سواه. وأعلم أن هذه ستة لا بد منها لكل ذي سلطان يبغي الحفاظ على سلطانه؛ وهي الحيلة في التدبير، وحسن الاستعداد لاستباق الخطوب قبل أن تداهمه، والذكاء في التعامل مع الأعداء، وقوة الذاكرة، وعمق المعرفة بعلم السياسة والدهاء، والتمسك بأهداب الفضيلة. ومن افتقد هذه الصفات زال ملكه بلا ريب مهما ضحكت له الأقدار.” (ص. 111)

“حذار أن تقع في مثالب الملوك الأربعة عشر: الإقبال على الملذات، والإلحاد، والغضب، والحمق، والتسويف، والخمول، والنزق، واتباع رأي مستشار واحد، وعدم الأخذ برأي الراسخين في العلم، والتراجع عن قرار محسوم، والخوض في أسرار الدولة، وتبديد الأموال في غير المفيد من المشاريع، وتغليب النزوات على القلب.” (ص. 113)

“إن الإنسان الصالح يأتي بالحسنة دون أن يتوقع جزاء.” (ص. 150)

“أن ليست الشدة خيراً دائماً ولا اللين كذلك. فمن عرف باللين أصبح موضع استغلال الناس فأساء إلى الأقربين وحمل إلى أهله الظلم. فتراه كالفريسة الضعيفة يتجرأ عليه خدمه، وأعداؤه والغرباء ويغتصبون ماله تحت سمعه وبصره، ولن يتورعوا عن اختطاف زوجه أيضاً. واعلم أن أهل الشر لا يتأثرون بنعومة المسلك.”  (ص. 160)

“لا يقوم الكون إلا بالحب، فهو غرسة الله في النفس.” (ص. 160)

“يا للبلاغة إذ تتدفق كالسيل، وإذا بها تتكشف عن منطق زائف يتزيا بزي العقل والحكمة!” (ص. 161)

“واجبك العمل. وحقك الوحيد أن تعمل. أما ثمار العمل فليست من شأنك. فإذا أنجزت أمراً تابعت مسيرك ولم تنظر إلى ما يتحقق منه أو يثمر من نجاح أو فشل. ولا تخدعن نفسك بالظن بأن في الامتناع عن الفعل والعمل مأثرة. ذلك أنه ليس من حقك الإعراض عن العمل. تجاهل كل أثرة أو هوى. التزم الاتزان. اعمل لتسمو نفسك فوق معاني النجاح والفشل.” (ص. 227)

“إنه ذو العقل الراجح، من ملك حواسه واستطاع التحكم والسيطرة عليها، شأن السلحفاة إذ تسحب رأسها إلى داخل درعها. فإذا انسحبت الحواس فقدت شهواتها وأشواقها، ونسي الإنسان مذاقها، ولكن هذا المذاق يتجدد عندما يبلغ مرتبة المعرفة بالعلي الأعظم! واعلم أن بلوغ هذا ليس بالأمر اليسير. فأحكم الحكماء قد خبروا ثورة الحواس تلك وعبثها بالعقل الذي يغدو عندئذ أشبه بالقارب التائه الذي تتلاعب به الأمواج وتتقاذفه.” (ص. 228)

“الزاهد الحق هو من نهض إلى عمله لا يرتجى من ورائه جزاء. فالزهد هو العمل المبرأ من الأنانية.” (ص. 230)

“أساس النجاح، الإرادة إن توفرت، والحظ إن أتيح والتدبير للإفادة، والخطة لإحكام الأمر.” (ص. 261)

“إن الإنسان الفاضل يترفع عن مثالب أربعة: التنديد بالنفس، ومدح الذات، وقذف الآخرين، وتملق أهل السلطان.” (ص. 263)

“الإنسان محكوم بأمرين، قدره وشخصيته، من فكر وأهواء وميول ونوازع. فإذا اجتمع الأمران واتفق القدر مع الشخصية كان النجاح مؤكداً. وهناك من يعرف انتهاز الفرصة حين تلوح له، كما أن هناك من يدعها تفلت من يديه.” (ص. 290)

“أليس العالم ظواهر تبرز ثم تتلاشى كالفقاعات على سطح الماء.” (ص. 316)

“من يخلص للحقيقة هو الغني.” (ص. 321)

“الشهوة هي أم الخطايا، فمنها يولد الطمع، ومن الطمع ينشأ الشر. إن الطمع هو أصل كل الخبث والنفاق، وهو السبب في الغضب والحمق وفساد النفس، إنه منشأ الاضطراب والفوضى والخديعة، وجرثومة الأنانية وسوء الطوية. وعن الطمع يصدر الجشع واللؤم، ويحمل صاحبه على هجر الحياء، والتيه والغرور والتباهي، ثم إنه يخنق في الإنسان نزعة التراحم، ويغذي الارتياب، وهو العلة التي تحفز على الزنى، ومبرر الكذب والدافع إلى الفسق، وهو الحافز إلى العنف والقسوة إن جرثومة الطمع والجشع كامنة في كل نفس: في الطفل والفتى واليافع من كل جنس، ولا تموت ما دامت الحياة تسري. إنه وحش رهيب لا سبيل إلى إشباع نهمه. فكلما قدمت له ضحية طلب المزيد، ولن تجد من يخلو من شروده، حتى أهل العلم، ويتوسل بكل وسيلة نبيلة ليفشو ويتملك ضحيته.” (ص. 324)

“كما أن الموت كامن في الجسد كذلك حال الخلود. استسلم للجهل تمت. وأنشد الحقيقة تبلغ الأبدية والخلود.” (ص. 325)

“ما من أمر كالمعرفة تحمل إليك البصيرة النافذة، ولا شيء يطهر النفس كالحقيقة، ولا أدعى إلى البهجة كالعطاء، ولا أشد استعباداً للنفس كالرغبة.” (ص. 325)

“العطاء القليل يأتي بالسعادة، والعطاء الكثير يأتي بالفرح الأعظم، فالقليل يذهب الخوف، وأما الكثير فيجلب راحة النفس.” (ص. 326)

“تحصن بحكمة عقلك الصافي، وخفف من الغلو في الحقيقة.” (ص. 330)

“أوصيكم بالسعي إلى الحقيقة، لأنه ليس هناك ما هو أسمى منها.” (ص. 332)

الختام:

أغلب الكتب تخاطب العقل فقط، وقليلها من يخاطب القلب والروح أيضاً. لذا تبرع ملحمة الهند العظيمة في مخاطبة كافة مكونات الإنسان. فقراءة «المهابهاراتا» ليست تمريناً فكرياً فقط، وإنّما غوص في تداعيات الذات وتقلبات النفس، وتوق الروح المستحيل إلى الكمال.

برع عبد الإله الملّاح في تقديم نسخة متكاملة عن الملحمة خالية من الفراغات، والفجوات، وكاملة المعنى والمنطق. كما يُمثل هذا العمل محطة أولى ممتازة لمن يرغب في الاطلاع على الفلسفات الهندوسية والبوذية والصوفية.

أحدث التعليقات