الحكمة (21): «خبز على طاولة الخال ميلاد» لمحمد النعّاس

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (21): «خبز على طاولة الخال ميلاد» لمحمد النعّاس

أقف اليوم في محطتي الواحدة والعشرين: ليبيا، الدولة العربية التي قليلاً ما نقرأ منها.

يصبح الأدب خالداً عندما ينجح في التحرر من قيد البلاغة ويتجاوزه كي يعبر عن صميم التجربة الإنسانية، وهذا بالضبط ما نجحت رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لمحمد النعّاس في إثباته عند حصولها على الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الخامسة عشرة. صدرت طبعة الرواية الثانية كعمل مشترك بين دار مسكيلياني للنشر والتوزيع ودار رشم للنشر والتوزيع في عام 2022 في الشارقة وعرعر على التوالي.

عبر مذكرات ميلاد، أو ربّما اعترافاته إن صح التعبير، نجح الكاتب في الغوص إلى أعماق رجل ليبي استثنائي. رجل مُخالف لصفات الرجولة المعتادة في المجتمعات العربية. الصفات التي يتفق المجتمع ضمنياً على “ذكوريتها” ومنها العنف والقسوة والشهوة والخيانة والثقة وطبعاً المحفظة العامرة. بينما تعود الصفات المقابلة على النساء كالرقة واللين والبرود الجنسي والوفاء والتردد والاتكالية المالية.

كما يبدو أن المجتمع يتفق على تقسيم المكان. فهناك أماكن تليق بالرجال وأخرى بالنساء. وهذا ما تضمنه وصف ميلاد لوالدته التي “كانت تملك عقلية العجائز الزمنية القديمة، تلك التي تقول إن على المرأة تحمل كل شيء، وأن عليها الاهتمام براحة زوجها، حتى عندما كانت تجدني أغسل الأواني – قبل الزواج – في مطبخها كانت تطردني من المطبخ، وتقول لي أنني رجل، والرجل لا يجدر به أن يمسك سوى المسحاة أو الخباشة، الرجل يزرع ويحصد والمرأة تطبخ، الرجل يبني ويعمر والمرأة تنظف ما بناه، هذا هو الاتفاق الضمني بين الجنسين، وأي خلل يجب إصلاحه.” (ص. 57) الرجل مكانه في الخارج بينما المرأة تقبع في بيتها، وإن حدث صراع بين هذه الأماكن والصفات فيجب حله فوراً!

تتمحور مذكرات ميلاد، وربّما شخصيته كلّها، حول هذا الصراع ومحاولاته الشتى في تخطيه. فيعترف قائلاً: “إمّا أن أستعيد رجولتي، أو أن أنهي حياتي. أمّا الاستمرار في العبث ومقاومة الحياة والمجتمع، الذي من حولي، فلا فائدة ولا طائل من ورائه.” وما يزيد من تعقيد هذا الصراع تعدد التصورات عن الرجولة والأنوثة في الواقع على الرغم من وضوحها في متخيل الأفراد والمجتمع، وهو ما يوضحه في الجزء الثاني من اعترافه: “حدثتني نفسي أنني لم أتلق يوماً تدريباً عملياً في أن أكون رجلاً. كل ما تلقيته هو الكلمات من أبي، ومحاولاته لحشري في العسكرية. كان للعسكرية تأثير سلبي على طريقة تفكيري، إذ أن معيارها للرجولة كان مغايراً لمعيار المجتمع. الرجولة لا تأتي من قتل الأرانب بيديك وأكلها نيئة، ولا تأتي من ساعات بروكك تحت الشمس. ها هو عبسي، معيار للرجل، وتهرب طيلة حياته من الخدمة العسكرية. العبسي، طرقت الفكرة ببالي، هل يمكن أن يعلمني الرجولة؟” (ص. 42)

وفي رحلته للبحث عن الرجولة، يذكر العبسي كثيراً وكأنه مقياس للرجل الليبي، وفي الحقيقة هو مثال ممتاز للرجولة السامة حد النخاع. رجولة شهوانية لا تشبع ولا ترى في المرأة أكثر من المتعة. فبالنسبة له، كل ما تقوله المرأة هو دعوة إلى الجنس. (ص. 331) كما أن تعدد علاقات الرجل وعدم وفائه، على سبيل المثال، ليس سوى صفات رجولية بالنسبة للعبسي، إذ يقول متحدثاً عن والده: “هل تعتقد أن عمك محمد [والد العبسي وعم ميلاد] كان وفياً لأمي؟ لقد ظل يضاجع القحاب حتى قرأ الفاتحة على قضيبه المهترئ، لقد قتله الجنس… لا أريد أن أكون في مكانه، رجلٌ ظالم … لكنه مات رجلاً.” (ص. 279) إلا أنه يثبت في موضع آخر أنه ورث ظلم أبيه في قوله: ” أنا أحياناً أضرب أخواتي فقط للتسلية وإبعاد شبح الكساد عني.” (ص. 286)

في المقابل، نجد شخصية ميلاد تناقض شخصية العبسي في جميع تفاصيلها السلبية والإيجابية. لم يكن ميلاد يملك روح المبادرة أو الإصرار كما لم يكن واضحاً أو متحملاً للمسؤولية. فحتى عندما يتحدث عن حياته، يلوم كل من حوله عن خيباته وتعاسته دون تحمل مسؤولية قراراته: “أدرك أن كل ما حدث واقع على عاتقي أنا، لم أتمكن من ترويض فرسي حببتها جريئة وقوية وقادرة على ركلي، إذا حاولت أن أخطئ في حقها، كنتُ أحياناً أضع وجودي المخزي في مجتمعي على عاتق أبي، وأنه لم يتمكن من إنجاب أخ آخر لي يريني الطريق نحو الإمساك بزمام الأمور. في بعض الأحيان، كنتً ألقي باللوم على أخواتي، وطريقتهن في التعامل معي، على تعليمهن إياي طريقة صنع حلوى الشعر، بل ونزع الشعر أرجلهن أمامي والمعان في تمييعي بتركي أجرب نزعه عنهن. إعجابهن بيدي اللطيفة الحانية عليهن، ونزعي الشعر بطريقة تكاد تكون خالية من الألم إلا الذي منه، ثم إعجابي نفسي بذلك وتطبيقه على زينب في شقة عمها، كنتُ أوجه أصابع الاتهام إلى الجميع: المادونا [مدربه في الجيش] وتعامله الوحشي معي وإرغامه إياي على أن أكون رجلاً، وإن كلف الأمر حياتي، عمي وعدم اهتمامه بي بعد وفاة أبي، وتركه إياي أتربى بين خمس نساء، عم زينب الفنان الداعر الذي تمكن من تحويلها إلى كائن لا يمكنه العيش وسط حيطان البلاد. اتهمت الجميع إلا نفسي.” (ص. 201)

تنتهي حيرة ميلاد وصراعه في آخر صفحات الرواية. تنتهي بتحوله إلى نسخة مزيفة عن العبسي. نسخة قامت بمضاجعة زميلة زوجته أولاً، ثم بجلد زينب التي واجهته بحقيقته قائلة: “دعني أتحسس رجولتك، أليس هذا ما تود الوصول إليه؟ أن تقمعني وتجعلني فرساً مطيعاً، هيا اضرب، الرجل لا يعيبه شيءٌ في هذه البلاد، فلماذا لا تُقدم على فعلتك التي لطالما حلمت بها؟” (ص. 354-355) إلا أنه لم يكن وحده يضرب ظهرها العاري، بل كانت يد أبيه، ويد المادونا، ويد العبسي، كلها تجلدها معاً. (ص. 355)

في المشهد الأخير، تجلت إرادة المجتمع في إبادة الاختلاف. تجلت بكل وضوح عندما ذبح ميلاد زينب بالموسى التي كان يستخدمها للتوقيع على الخبز.

ما لم يدركه ميلاد حينها، أنه فقد ذاته بفقدانها، كما فقد عقله بالتأكيد. كان وجودها ضرورة لوجوده. هما الطرفان المناقضان لكل ما يجب أن تكون عليه الأدوار الجندرية في المجتمع.

الحكمة من الكتاب:

ليست الرواية سوى صرخة في وجه الأدوار الجندرية المُثقلة بغبار التاريخ وحمل التخلف. صرخة في وجه المطالبين بمجتمع متطابق في جميع تفاصيله. رجالٌ يتشاركون ذات الصفات، ونساء كذلك وأي خلل، والعياذ بالله، يجب إصلاحه.

اقتباسات:

“لا تعرف بعد أن شيئاً من الجمال يكمن في البطء وفي أخذ الأمور بجدية أقل.” (ص. 13)

“هل أخبرك بنقيض الحب؟ نقيض الحب ليس الكراهية، نقيض الحب مختلف تماماً عن الكراهية، إنه اللامبالاة، التبلد، التباعد رغم العيش في مكان واحد، ألا تبتسم في وجه الآخر بعد أن كانت مجرد رؤيتك إياه تمكنك من الطيران.” (ص. 99)

“يجب عليك، أحياناً، أن تكون أملاً للآخرين. علينا أن نكمل حياتنا بقدر ما نستطيع، وأن نحارب من أجل ذلك.” (ص. 112)

“(الفرس على راكبها) مثل شعبي يعني أن المرأة تتخلق بأخلاق زوجها، وأنه هو الذي يربيها بعد أبيها. يأمل الكثير من شباب ليبيا، في وقت كتابة هذه الكلمات، أن يتزوجوا نساء يمكنهم أن (يربوهن على أيديهم).” (ص. 113)

“تقول لي أمي إن الله عندما قرر أن يخلق الدنيا وما فيها كان قد كتب كل شيء وعرف الرجال بزوجاتهم في الجنة وسلمهم مفاتيح قلوبهن، وعلمهم كيف يلتقون بهن. كان حدوث الأمر مخططاً له إن صح التعبير، ولم أكن سوى لاعب في القصة.” (ص. 123)

“هكذا هو الحب حسب اعتقادي، إنه يكبر ببطء حتى يصعد فجأة إلى قمة عالية. هناك في القمة، يقرر العاشقان ما إذا كان بإمكانهما أن يجربا صعود قمم أعلى أو أن يحافظا على وجودهما فيها لتصبح عادة لهما، أو أن ينزلا مفترقين.” (ص. 131)

“اسمع يا ولد، إذا كنتَ تخشى الغرق فستفعل ذلك، وإن لم تتعلم السباحة، فلن تكون شجاعاً أبداً لتمضي في الحياة قدماً.” (ص. 158)

“هناك الدين الحقيقي وهناك دين المجتمع، والأمران مختلفان.” (ص. 161)

الختام:

أظلم الرواية حقها إن قلت إنها من أهم الروايات العربية الحديثة، فهي تتجاوز ذلك بكثير. رواية تلمس عمق المصيبة العربية وتقشرها كالبصلة، طبقة طبقة. ومع كل طبقة تزداد دموعنا انهماراً، ويزداد غضبنا كثافة.

ويبقى السؤال الملح قائماً: إلى متى؟

أحدث التعليقات