الحكمة (22): «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» لستيفان زفايغ

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (22): «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» لستيفان زفايغ

أقف اليوم في محطتي الثانية والعشرين: النمسا حيث نُشرت رواية «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» لستيفان زفايغ قبل ما يقارب مئة عام، وتكتسب الرواية في يومنا هذا أهمية تأريخية بصفتها عينية عن الرواية النمساوية آنذاك. أمّا بالنسبة للنسخة العربية، فقد نشر طبعتها الأولى المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء في 2018 ونقلها إلى العربية محمد بنعبود.

انطلاقاً من عنونها، تتحدث الرواية عن أربع وعشرين ساعة من حياة السيدة (س). ساعات اكتسبت فيها تجارب مُستقاة من الواقع تفوق “بمراحل التجارب التي نفحتـها إياها أربعون سنة من الحياة المحترمة.” (ص. 99) فالأشخاص “الذين لا نصيب لهم البتة من الشغف هم وحدهم الذين يعرفون في لحظات ليست كباقي اللحظات انفجاراً مباغتاً للشغف شبيهاً بانجراف ثلجي أو بعاصفة. يحدث ذلك عندما تُسارع سنوات كاملة من القوى غير المستعملة فتتدحرج إلى أعماق صدورهم البشرية.” (ص. 123)

السيدة (س) أربعينية أرملة وجدت نفسها، بين ليلة وضحاها، وحيدة بالكلية، فكانت هذه الوحدة عندها مثار اضطراب رهيب، بعد أن كانت معتادة على العيش وسط الأسرة محفوفة بالحنان، فبدا لها من المستحيل أن تظل يوماً واحداً في المنزل الموحش الذي يذكرها كل شيء فيه بالفقد المأساوي لزوجها المحبوب. (35-36) فكانت الوحدة دافعها في السفر وزيارة الكازينوهات ومراقبة أيادي المقامرين. عادةٌ ورثتها من زوجها المتوفي.

سحرتها كفي شاب يافع من بين الأيادي. “كفين بجمال نادر، لا فتتين بطولهما، شديدتي الليونة رغم أن عضلاتهما ظاهرة القوة. كفان ناصعان البياض في طرفيهما أظفار شاحبة صدفية الشكل ومستديرة برقة.” (ص. 45) فظلت تراقبهما وتراقبه طوال الأمسية، حتى تبين لها بعدما خسر كل ماله في اللعب، أنه على حافة الانتحار.

تقول معبرةً عن حالته المضطربة: “كان شعوري الوحيد، والذي لم يتغير منذ البداية، منذ أن كنت رأيته يخرج من القاعة مترنحاً، والذي لم أكف عن الإحساس به طوال هذه الساعة التي لا يمكن تخيلها، هو أن كائناً بشرياً شاباً ممتلئاً بالحياة ومتأجج الأنفاس، يكاد يفقد حياته، وأن عليّ إنقاذه.” (ص. 72)

تتطور رغبتها في إنقاذه إلى لقاء حميمي يليه لقاء مفعم بالحياة والبهجة. تتجلى بساطة المرأة عندما تطلب منه وهما يتجولان في الكنيسة أن يقسم بألا يذهب إلى الكازينو مرة أخرى، بل وتعطيه مالاً ليعود إلى أهله رغم إصراره على ألا يأخذه منها.

تعبّر المرأة عن هذه البساطة بعبارة (فراغ الروح) الذي “عادة ما يزرع في دواخلنا ما يشبه الغثيان فنبدأ في البحث على الأقل عما نتلهى به من أمور خارجية صغيرة لكنها مثيرة. وكلما كانت حساسيتي تغدو أقل تأججا في ذاتها، كانت رغبتي تزادا في أن ألقي بنفسي حيث تكون زوبعة الحياة أسرع. فالشخص الذي لا يحس بشيء لا يعود يحيا إلا بأعصابه ومن خلال اصطحاب الآخرين المشغوف، كما يحدث في المسرح أو في الموسيقى.” (ص. 37)

بينما قد لا يجد القارئ المعاصر في الرواية ما يجذب اهتمامه، فالمرأة في نهاية المطاف أرملة وحرة في حياتها وجسدها، لم يجدِ الموضوع ذات القبول قبل قرن مضى.

فها هو الراوي غير العليم يصف لنا الجدال الذي دار حول هروب امرأة متزوجة مع شاب وسيم، فيقول: ” أمّا المتحلقون حول مائدتنا فقد أجمعوا فلم يروا في هذا الحدث، وهو أمر مفروغ منه ظاهرياً، سوى خديعة غادرة وتدبير ماكر من العاشقين، فغدا من البديهي عندهم أن السيدة هنرييت كانت تقيم منذ زمن طويل علاقات سرية مع الرجل الشاب، وأن ساحر الجرذان هذا لن يأت هنا إلا لتدبير آخر تفاصيل الهروب، لأن من المستحيل على امرأة شريفة – هكذا كان استدلالهم – أن تهرب مع أول فرصة تسنح، وبعد ساعتين من التعارف لا غير. عندئذ وجدتني أتسلى بأن أقف من جانبي موقفاً مخالفا فدافعت بقوة عن إمكانية، لا بل عن احتمال وقوع أمر مثل هذا يصدر عن امرأة قد أعدها داخلياً زواج تراكمت فيه الخيبات المتواليات وخالات سأم دامت زمناً طويلاً لتكون فريسة لأي رجل يبدي جرأة في معاملتها. وعقب معارضتي التي لم يكن ينتظرها أحد أضحى النقاش عاماً، غير أن من أضفى عليه صبغة الحماسة البالغة هما الزوجان الألماني والإيطالي، إذ رفضا مع زوجتيهما، باحتقار عنيف، قبول وجود الحب من النظرة الأولى، والذي لم يروا فيه سوى حماقة وخيال رومانطيقي تافه.” (ص. 16)

وبعد دفاعه عن السيدة هنرييت، تبوح له السيدة (س) بما حدث لها في أربع وعشرين ساعة منذ عشرين سنة، وبذلك ينجح ستيفان زفايغ في تقديم قصة في باطن أخرى.

هرباً من الموضوع الرئيسي للرواية، والذي شعرتُ أنه وعظي ومشابه للقصص التي يرويها شيوخ الدين عن فتيات اتبعن قلوبهن، فكانت النتيجة طفل غير شرعي أو تشهيراً بصورهن في الإنترنت، ركّزت على الجانب الإنساني للرواية المتمثل في رغبة السيدة (س) في إنقاذ الشاب من الانتحار، وأخذت أتساءل عن السبب الحقيقي الذي دفع السيدة (س) إلى مساعدته، فهل كانت المرأة صادقة في مساعدتها أم أنها حاولت بذلك سد فراغ الفقد والملل؟

في نهاية الرواية، وبعدما تدركك السيدة (س) انتحاره، تقول: “لم أشعر من ذلك [خبر الانتحار] تقريباً بأي ألم، لا بل ربّما (لماذا ننكر أنانيتنا!) كنت قد أحسست من ذلك ببعض الراحة، لأن بموته يختفي كل خطر من حدوث تلاقٍ بيننا، فلم يعد ضدّي من شاهد سوى ذكراي الخاصة بي. منذئذٍ صرت أشعر بالسكينة، لأن معنى أن يشيخ المرء على راحته هو أن ينتفي خوفه من ماضيه،” (ص. 140) وهنا تكمن المعضلة الحقيقية.

أولاً، كان هذا الشعور دليلاً على سطيحة حكم المرأة غير الإنساني. فالشاب مدمن على القمار، وهي توقعت أن قسماً في الكنيسة كفيلٌ بتغييره متجاهلة رفضه للمال الذي كان سبب انتكاسته. ثم إن خوفها من الفضيحة جعلها تشعر بالسكينة بعد سماعها خبر انتحاره؛ الفعل ذاته الذي كانت تدّعي أنه أثار حفيظتها ورغبتها في مساعدته.

إذن، هل نساعد الآخرين حقاً عند تدخلنا في حياتهم، أم أن كل ما نقوم به هو منح معنى لوجودنا الشخصي فقط؟

الحكمة من الكتاب:

إذا ما تجاهلنا العظة الأخلاقية من الفضيحة أو افتتان المرأة الأربعينية بالشاب الوسيم، تطرح الرواية سؤالاً في غاية الأهمية، ألا وهو: لماذا نساعد الآخرين؟

استناداً إلى أحداث الرواية، والفشل الذريع الذي آلت إليه محاولة السيدة (س) في “إصلاح” الشاب المدمن على القمار، يمكن الجزم بأن ستيفان زفايغ لا يؤمن بقدرة الإنسان على تغيير الآخر، وأن أعظم ما يمكنه فعله هو عيش اللحظة إلى منتهاها بكل جنون.

اقتباسات من الكتاب:

“إن غالبية الناس لا يملكون سوى خيال كليل، فلا يستطيع أي شيء مما لا يمسهم مباشرة – وكأن أعماق دماغهم مسكونة بخمول مكين – أن يثير مشاعرهم، لكن إن طرأ أمر أمام أعينهم، ومس مباشرة شعورهم، حتى إن كان قليل الأهمية، فإن شغفاً لا حد له سرعان ما يجعل يغلي في دواخلهم، فيعوضون لحظتئذ، بأي شكل من الأشكال، لا مُبالاتهم المعتادة بحماسة في غير محلها، زائدةٍ عن الحد.” (ص. 5)

“إن الطبيعة المتوترة، أثناء وقوع أزمة خارقة للعادة… غالباً ما تهب موقف الإنسان تعبيراً يكون من غير الممكن الحديث عنه لا بالصورة ولا بالكلام بنفس القوة المتفجرة التي يحملها في ذاته.” (ص. 12)

“إن كثيراً من الأشخاص يجدون لذتهم في الاعتقاد بأنهم أقوى من باقي الناس وأكثر تمسكاً بالفضيلة وأطهر من الأشخاص الذين (يسهل إغواؤهم).” (ص. 17)

“أنا من المدافعين عن حرية السلوك الشخصي، وأجد شخصياً متعة في فهم الناس بدل الحكم عليهم.” (ص. 21)

“إنه لا فائدة من نصف الحقيقة، لذلك وجب أن تكون كاملة.” (ص. 31)

“أنا لست أخشى أي تأويل مغرض بعد أن بلغت من العمر سبعاً وستين سنة.” (ص. 31)

“ما ضير أن نكون قد عشنا في حياتنا لحظة جنون، لحظة جنون واحدة! لكننا دائماً ما نعجز عن تجاوز هذا الذي نسميه بغموض الضمير. ” . (33-34)

“لم يسبق لي قط (على أن أكرر هذا بلا انقطاع) أن رأيت وجها ينبعث منه كل هذا الشغف، بحيوانية، وفي عري تام.” (51)

الختام:

ما أجده جذّاباً في الروايات القديمة هو تعمقها في وصف الحالة الإنسانية ولكأنك تراها قابعة أمامك وهو ما وفّق الكاتب في نقله في رواية «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة».

يجعلني ذلك أتساءل عن سبب غياب هذا العنصر من الروايات والأعمال الأدبية المعاصرة، فهل سبب ذلك تشتت الإنسان المعاصر أم هو بحثه المستمر عن الإثارة والتجديد مما يجعله يتجنب الحديث عن الحالة البشرية وتقلّباتها؟

فإن كانت الثانية، فأنا شخصياً أفضل التعمق في الحالة البشرية وتناقضاتها.

أحدث التعليقات