الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (23): «أخوة محمد» لميسلون هادي
أقف اليوم في محطتي الثالثة والعشرين: العراق؛ منطلق رحلتي الإبداعية حيث كانت ميسلون هادي الروائية الأم التي طبعت أسلوبها على قلمي وكتاباتي، فوجدتُ نفسي أسيرة نسجها الروائي في تعاملها مع الحقيقة كما هي، ثم ترفّعها فوقها بحلم يقظة طويل. (ص. 30)
كانت رواية «العيون السود» أولى قراءاتي من الروايات العربية، بل إنني قرأتها مرات كثيرة حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتي الأدبية. تُجسد الرواية الواقع العراقي أثناء فترة الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، ويكمن جمالها، كما هو الحال في جميع أعمال ميسلون هادي، في تصوير اليومي المُعتاد رغماً عن كل ما يحيط به من حصار مُستهجن، وفي تصوير العلاقات الإنسانية البسيطة وسط ظلال الأزمة والمصيبة. فالإنسان هو الإنسان وإن تساقطت عليه القنابل ومنعته صافرات الإنذار من النوم ليلاً.
بعد مرور ست عشرة سنة على نشر رواية «العيون السود»، تعود ميسلون هادي برواية أخرى عن المأساة، لكن المأساة هذه المرة أعمق والجرح أكثر وجعاً. في سنة 2018، نشرت دار الذاكرة للنشر والتوزيع رواية «أخوة محمد» في بغداد.
تتميز رواية «أخوة محمد» بلبس فريد تخلقه عند قارئها، فلقد وجدت نفسي، على سبيل المثال، حائرة في فهم مقصد الكاتبة في تقديم رواية في جوف أخرى. تروي الرواية الأولى أستاذة الكاتبة التي انتقلت مؤخرا إلى منزلٍ جديد، لتفاجئ، أو بالأصح لتنزعج، بجارتها المُعجبة بكتاباتها والتي كتبت مسودة رواية وتصرّ على الحصول على رأي الأستاذة فيها. وبعد محاولات الجارة أورشينا العديدة، توافق الأستاذة على قراءة المسودة التي تحتل ما يقارب الـ 150 صفحة من أصل 214.
تركز الرواية الأولى على العلاقة بين المرأتين، وما يتخللها من مناقشات وملاحظات، فعلى سبيل المثال، تقول الأستاذة معبرة عن رغبة الكتّاب في العزلة والانفراد “ليس سهلاً الحديث على كاتب.. سهلٌ عليه أن يكتب فقط، وأن يتحدث مع برتقالات الحديقة، ويتحاور مع القواقع وديدان القز، وأن يمشي وحيداً بين الناس يحدث نفسه.” (ص.15)
كما تشهد الرواية الأولى تغيراً في منظور الأستاذة التي كانت متشبثة بفكرة أن الشكل هو ما يهم في الرواية، لتعدل رأيها أخيراً، وتقرر ألا تعلّق “بشيء حول الرواية” طالما كانت “المسافة بين الحقيقة والحلم ليست كبيرة، فمنطقة الخيال تأتي من الواقع، بدليل أن كتّاب الخيال العلمي لا يرسمون مخلوقاتهم الفضائية بدون عون وأجسام مثلنا. نحن محبوسون في بيت الواقع حتى وإن ذهبنا إلى غرفة الخيال. كل شيء في الحلم له أصلاً وفصل. له جذر وفرع، وحتى وإن قلبت أورشينا روايتها على بطانتها، أو جعلت قاعدة الهرم قمته، فستبقى ذبذبات من نفسها وواقعها منتشرة فيه، ترمي نفسها على قارعة الطريق. تغير صوتها أكثر من مرة. تعيد نفسها إلى مكانها الأول. مهما فعلت فإن تعاطفها سيكون واضحاً مع الطيب والشرير.” (ص. 199)
أمّا الرواية الثانية، والتي تحمل اسم (أخوة محمد) تتحدث عن الحي الذي تقطن فيه المرأتان. فقد اكتشفت أورشينا أن جميع أولاد الشارع “يحملون اسم محمد، ما عدا عبد الملك زوج ماريا [المسيحي].” (ص. 18) وهنا تكمن رمزية كبيرة، فما تريد ميسلون هادي إيصاله بصورة غير مباشرة هو وحدة الطوائف المسلمة على الرغم من كل التفرقة الطائفية التي يشهدها المجتمع العراقي. فبالنسبة لها، كلهم محمد، أي كلهم مسلمون.
بل إنها تتعمق أكثر في هذه الرمزية عندما يختار سفيان وعباس (بطلين رئيسيين في الرواية) أن يسميّا أنفسهما محمد أيضاً، حتى ليختلط على العصابة التي اختطفتهما أن تحدد انتماءهما، قالا: “اثنيناتنا سنة وشيعة. آني أبوية سني وأمي شيعية، وهو أوبوه شيعي وأمه سنية.” (ص. 189)
الحكمة من الكتاب:
حاولت تحليل الروايتين على حده، ففشلت فشلاً ذريعاً، فالحكمة من رواية «أخوة محمد» تكمن فيما توصله عبر القصتين معاً. فبينما كانت الأولى تجرداً من الأشكال الأدبية، وما تضعه من ثقل على الرسالة الإنسانية، أتت الثانية للتذكير بأن جميع العراقيين محمد أو بالأصح “أخوة محمد”.
وبذلك تنجح الكاتبة في التشديد على الرسالة الحقيقة للأدب، ألا وهي: صدق المعنى ونجاح الكاتب في نشر ذبذباته وواقعه عبر كتاباته.
اقتباسات من الكتاب:
“رأسي يعرف الكثير من الأشياء التي لا أعرفها. وأنا فعلاً لا أعرف الكثير. وأحب أكثر أن أعرف منه. فمن هو رأسي هذا؟” (ص. 8)
“من السهل جعل العيون تلتفت، ولكن من الصعب جعل القلوب هي التي تتلفت إليك. “(ص. 11)
“أنا لست مصابة باليأس. مشكلتي أني مصابة بالأمل.” (ص. 13)
“ما أكثر القصص في هذه الحياة.. كثيرة ولا تنتهي، وأنا أريد الهروب منها، والاقتراب من كل شيء موجود في ظل هذه الحياة قبل أن يدركه الضوء الساطع” (ص. 17)
“الخطر يصبح لذيذاً وقت الحرب مع عدو جاء بملابس الغزو ليشن عدوانه علينا. تلك الحرب شابتها اللذة فعلاً بحيث لم يهرب أحد منها، أما الحرب الأهلية بين أبناء البلد الواحد فمخيفة ومرعبة بحيث شلت حركة الجميع أو جعلتهم يهربون.” (ص. 26)
“مرحلة الحمار من حياة الإنسان… هي المرحلة التي يحملون فيها الأعباء والأنوار فوق ظهورهم، ثم عندما ينقض هذا الحمل، يعودون حملاناً من جديد يلهون في الحقول والمراعي.” (ص. 33)
“لا يمكن لعاقل أن يحتمل الحياة وقت الغروب… أو أن يدفع عنه هذا الحزن الجبار الذي يمتلكنا عندما يجن الليل، وتتناهى إلى أسماعنا موسيقى بعيدة لحفلة عرس. سنفكر بأن هذه الموسيقى هي من أجل إنجاب أولاٍد نعلم بأنهم سيدفنون ذات يوم. ألا يتطلب الاستمرار في هكذا حياة أن يتحول العقل إلى كومة من الضياع والجنون؟” (ص. 36)
“ساعات يفيض عندي إحساس غريب من الحرية. حرية بدون معنى. ليست للاكتشاف ولا لفعل شيء. فقط للحديث إلى نفسي، فأتحول إلى عصفورة صغيرة تظل تزقزق بالوتيرة نفسها، أو حمامة بدينة تهدل بين سعف النخيل، وأول مرة تحرك فيها القلب كانت بأمر من أوامر الطبيعة هذه.” (ص. 40)
“لا سلطة الائتلاف المؤقتة، ولا مجلس الحكم، ولا بول بريمر ولا قوات التحالف ولا العراق الجديد جعلت حياتنا أفضل من السابق. ولو كانوا قد وقفوا لجانب بعضهم البعض، لقاموا بواجبهم على نحو جيد، غير أن كل واحد منهم فعل ما بوسعه ليبدأ الجحيم منذ لحظة اختياره لمجلس الحكم.” (ص. 65-66)
“عندي قناعة من الطريقة التي تجعلنا، وتجعل أطفال الحدائق سعداء للغاية في التعامل مع الورد والشجر والأرض بأن أصل الإنسان هو النبات، وليس الحيوان.” (ص. 81)
“أليس الرجال هم السبب؟ ليتهم يتعلمون من دهاء النساء وبراعة النساء كيف تكون إدامة الحياة، وحب الحياة، وإدارة الحياة.” (ص. 145)
“يجب أن تكون هناك علة فيما يحدث لنا. إنه لشيء عجيب كيف ترف قلوبنا عندما نسمع صوت صافرة الإنذار وتبدأ الغازات. وكيف نثار وننفعل لأصوات الصواريخ والطائرات؟ كيف يكون الذعر بعيداً عن العاقل والمجنون؟ فهل أحبتنا الحرب لهذا السبب؟ من غير المعقول أن تكون الحرب قد أحبتنا دون أن تعرف بأننا نحبها. وبأن الملل قد يصيبنا إذا ما هجرتنا؟ (ص. 148)
“إنني لا أدافع عن الفقراء أو الفرهود، ونحن لسنا في عالم مثالي، ولكن أخبرني فقط كيف لا يشعر الفقراء بالحقد علينا، ونحن أولادنا أطباء ومهندسون، وهم أولادهم صبّاغون وزبّالون وفلاحون وسائقو أجرة وحادلات أو عمال بناء. أولادنا يحملون اللابتوبات وأولادهم يحملون المساحي والدلاء وطاسات البناء.” (ص. 152)
الختام:
من فوضى الواقع العراقي، تنجح ميسلون الهادي مرة أخرى في إيجاد قصة تُروى وتُمتع القارئ. بل إنها في «أخوة محمد» تروي قصتين اثنين، قصة مبطنة عن الانقسام السني الشيعي، وأخرى تناقشها وتبحر في جدوى المعنى بعيداً عن الشكل والقشور. رواية حقيقة وموجعة حد البكاء والانفعال الجميل. رواية عن الصداقة والجيرة والعلاقات الإنسانية في بساطتها اليومية.
أحدث التعليقات