الحكمة (3): «صاحب الظل الطويل» لجين ويبستر

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (3): «صاحب الظل الطويل» لجين ويبستر

أقف اليوم في محطتي الثالثة: الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أن هذه الرواية بالذات لم ترتبط أبداً في ذهني بالولايات المتحدة بقدر ما ارتبطت بالإنمي الياباني الذي تتشارك دبلجته العربية مع رواية جين ويبستر في عنوان «صاحب الظل الطويل» ، وقد نشرت طبعة الكتاب السابعة دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع في سنة 2020 في بغداد، ونقلته عن الإنجليزية بثينة إبراهيم.

تقدم لنا الكاتبة هذه الرواية في  شكل مجموعة من الرسائل التي تكتبها جودي أبوت – بطلة الرواية – إلى “صاحب الظل الطويل” فلا يطلع القارئ على أي من الأحداث التي تحيط بها إلا عبر رسائلها باستثناء أول فصل من الرواية المكتوب من وجهة نظر الراوي العالم. في هذا الفصل، يعلم القارئ أن جودي يتيمة مقيمة في ميتم (جون غرير)، وبعد نجاحها في الثانوية العامة وتفوقها في مادة فن الخطابة تكفل بمصاريف دخلوها للكلية أحد الأوصياء على الميتم مقابل أن تكتب له عن تقدمها في دروسها وتفاصيل حياتها اليومية وكأنها تكتب إلى والديها لو كانا على قيد الحياة، وتشكل هذه الرسائل نص الكتاب.

تدور حبكة الرواية حول هوية هذا الوصي، والذي لا تعلم جودي حتى اسمه، فكل ما تعرفه عنه هو الآتي:

“أدركت [جودي] أثراً خاطفاً للرجل، وكان ذلك الأثر مرتبطاً بالطول. كان يلوّح بذراعه للسيارة المنتظرة في انعطافة الممر [ممر الميتم]. وحين أخذت تتحرك وتقترب وتتقدم بسرعة، عكست الأنوار الأمامية ظله بدقة على الجدار في الداخل. ظهر الظل بذراعين وساقين طوال امتدت على طول الأرضية وجدار الممر. لقد بدا، للعالم كله، مثل عنكبوت ضخم مرتعش ذي قوائم طويلة.” وتضيف المترجمة في هذا الخصوص: “تستخدم الكاتبة تعبير (Daddy Long Legs) ، وهو نوع من أنواع العناكب، والتعبير مستخدم علمياً،” (ص. 16) كما أن هذا هو اسم الرواية الأصلي.

أعتقد أن أكبر سؤال يطرحه القارئ على نفسه خلال الرواية هو عن ماهية مشاعر جودي تجاه صاحب الظل الطويل. فبين مشاعر الأبوة المفقودة، والعشق اليافع، تنقلت كثيراً وأنا اقرأ الرواية. في بعض أجزاءها كنت متأكدة أنه سيكون والدها الغائب، وفي أجزاء أخرى أجزمت أنها تحبه حباً شغوفاً.

لماذا هذا الكتاب؟ ربّما تتساءلون. والحقيقة أنني لم أعلم بوجود هذه الترجمة للرواية إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتشارها بين صور المغردين والمغردات. عندما كنت طفلة، كنت أحب أغنية الإنمي الياباني، وتعجبني بطلته العفوية والباسمة دائماً، لكنني لم أتمكن من متابعته بانتظام لأنه لم يكن يُعرض يومياً. حينها كنّا لا نزال تحت رحمة البث التلفزي وجدولته، ولم يكن في مقدوري مشاهدة جميع الحلقات دفعة واحدة كما هي الحال الآن. نتيجة لذلك كبرت ولم أعلم من هو صاحب الظل الطويل. لذا وبينما كنتُ أقرأ الرواية، كنتُ خائفة من عدم معرفة هذا السرّ المثير حتى بعد إكمالها. “ماذا لو فضّلت الرّاوية أن تُبقي هويته سراً؟” تساءلت وفزعت فتوقفت عن القراءة فترة، ثم تحليت بالصبر الكافي لإنهائها ومعرفة هوية صاحب الظل.

كما ذكرتُ سابقاً، لم يسبق لي مشاهدة الإنمي كاملاً أو قراءة العمل الأصلي باللغة الإنجليزية، لذا فلست متأكدة إذا ما كان هذا الالتباس مقصوداً أم أنه خيانة ترجمة. لكن يمكنني القول أن عنوان الرواية الأصلي « Daddy Long Legs» يحمل ذات الالتباس في طياته. فكلمة “Daddy” – وعلى الرغم من كونها جزءاً من الاسم العلمي للعنكبوت المُشار إليه سابقاً – قد تعني أيضاً الوالد أو الأب.

الحكمة من الكتاب:

حكمة هذا الكتاب واضحة وصريحة وهي: أهمية روح الدعابة في تخطي أكبر أزمات الحياة، فشخصية البطلة – جودي – لم تكن متفائلة فقط وإنّما كانت دائماً ما تجد متسعاً للدعابة وسط رسائلها عبر الرسوم الساخرة أو المواقف العابرة التي تخفف من وطأة حقيقة أنها يتيمة عاشت طفولة محرومة وفقيرة. ومن أجمل ما كتبت في هذا الشأن:

“سأتظاهر بأن الحياة كلها ليست سوى لعبة علي أن ألعبها بمهارة وبإنصاف قدر استطاعتي. وإن خسرت، فسأرفع كتفيّ وأضحك، وسأفعل ذلك إن ربحت أيضاً.” (ص. 71)

اقتباسات من الكتاب:

“أنا لا أتفق مع النظرية القائلة إن الحظ العاثر والحزن وخيبة الأمل تنشئ قوة أخلاقية، فالأشخاص السعداء هم أولئك الذين يفورون محبة.” (75)

“هل تعرف يا عزيزي، أظن أن الخيال أهم صفة يمكن للمرء أن يتسم بها، فهو يجعل الناس قادرين على وضع أنفسهم في مواضع أشخاص آخرين، ويجعلهم لطيفين وعطوفين ومتفهمين. لا بد أن يربى الخيال في الأطفال، لكن ميتم جون غرير ينزع باستمرار  أقل ومضة تظهر منه. كانت السمة الوحيدة التي يحفرونها فيك هي الواجب. لا أظن أنه يتوجب على الأطفال تعلم معنى هذه الكلمة، فهي مقرفة وبغيضة، إذ عليهم أن يفعلوا كل شيء بدافع الحب.” (ص. 126)

“العالم مفعم بالسعادة ويمكنك اكتشاف الكثير منها إن كنت راغباً في استقبال ذلك الذي يصادفك في طريقك. إن السر بأكمله يكمن في المرونة.” (ص. 149)

“لقد اكتشفت السر الحقيقي للسعادة يا عزيزي، ويكمن هذا في أن تعيش اللحظة. وألا تتحسر على الماضي على الدوام، أو تفكر في المستقبل، بل أن تحصل على أكبر قدر من هذه اللحظة.” (ص. 172)

“ألا تظن أن الأمر سيكون مثيراً فعلاً لو أنك استطعت قراءة قصة حياتك، وقد كتبها بصدق شديد مؤلف عليم؟ ولنفترض أنك تستطيع قراءتها بشرط أنك لن تنساها لكن عليك أن تعيش الحياة وأنت تعلم بدقة إلام سيؤول كل شيء، وتترقب الساعة التي ستموت فيها. فكم برأيك عدد الأشخاص الذين سيتحلون بالشجاعة لقراءتها؟ أو كم عدد الذين سيكبحون فضولهم بقوة للهرب من قراءتها، حتى إن كان ذلك مقابل العيش بلا أمل ولا دهشة؟” (ص. 197)

“أنا لا أتفق بتاتاً مع الفلاسفة الذين يرون أن كل فعل ناتج حتمي وآلي مطلقاً عن مجموعة علل بعيدة. هذه أكثر المعتقدات التي عرفتها لا أخلاقية؛ فلا يمكنك لوم امرئ على فعل أي شيء. لو آمن المرء بالقدرية، فمن الطبيعي أن يجلس ويقول (ستقضي مشيئة الرب)، ويواصل جلوسه حتى يسقط ميتا.” (ص. 198)

“أؤمن كلياً بإرادتي الحرة وقدرتي على الإنجاز، وهذا هو الاعتقاد الذي يحرك الجبال.” (ص. 198)

الختام:

كتاب خفيف وذو معان كبيرة إذا ما حاول القارئ استخراجها من بين السطور. ربّما من أهمّها رؤية الحياة من منظور يتيمة إيجابية غير ساخطة على الآخرين وإنما تقدّر كل ما يعترضها في الحياة، وبهذا الخصوص أترككم مع سؤال حيّرني: هل يُمكن حقاً أن توجد مثل شخصية “جودي أبوت” في الحقيقة؟ أم أنّها تبقى ضرباً من الخيال؟

أحدث التعليقات