الحكمة (4): «من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا» لعبد الفتاح كيليطو

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (4): «من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا» لعبد الفتاح كيليطو

أقف اليوم في محطتي الرابعة: المغرب. هذه المرة قادني كيليطو إليها. الكاتب المغربي العظيم الذي أدهشني في كتابيه «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية» «لن تتكلم لغتي»، فأخذت أبحث عطشى عن المزيد. هذه المرة وقع بين يدي إصداره الجديد «من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا» والذي نشرت نسخته العربية دار توبقال للنشر في 2019 في الدار البيضاء بعد أن نقله عن الفرنسية المُترجم إسماعيل أزيات.

فكرت مطولاً في هذا الكتاب بعد قراءته، ولا أكذب عليكم القول إن قلت أن أحلامي أخذت بعداً شهرزادياً تأثراً بهذا الكتاب العجيب والذي أعتقد أن أفضل وصف يناسبه هو “هوامش أكاديمي حسّاس عن كتاب «ألف ليلة وليلة»”، فانطلاقاً من شغفه اللامتناهي بالليالي، يغوص عبد الفتّاح كيليطو في عمق معاني الليالي وتحليلها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب هو كتابه الثاني عن الليالي[اسم الكتاب الأول «أنبئوني بالرؤيا»]، وقد انتهج في كلا الكتابين أسلوباً متشابهاً “ذو نوع أدبي ملتبس” يقدم نفسه ومنذ الكلمات الأولى في “إطار ما تسميه جوديث شلانجر بـ (ملحمة البحث والتقصي) التي (تدرج الإشارة الجزئية الصغيرة ضمن نسيج سردي تجد فيه الحساسية الفكرية مبتغاها)”. (ص. 73-74)

بمهارة كاتب متمرّس وأكاديمي محنّك، ينسج كيليطو سرداً ممتعاً ومتداخلاً بين ثلاث قصص من «ألف ليلة وليلة»، وهي: لص بغداد، السندباد البحري، بُلُوقيا، وقصة شهريار وشهرزاد؛ ومجموعة من القصص القرآنية (كقصة سيدنا يوسف وإبراهيم عليهما السلام)؛ وكتب عالمية عديدة (على سبيل المثال، «جاك القدري» لديدرو، «أوجيني غراندي» لبلزاك، ورواية «السّجينة» لمارسيل پروست، و«الكوميديا الإلهية»)، وذلك عبر تحليل قصص الليالي وربط أجزائها المختلفة ودوافع شخصياتها ومشاعرهم بالقصص الأخرى وكأن جميع القصص السابق ذكرها تجري في البعد ذاته وتدور بين الشخصيات ذاتها لكن بأسماء مختلفة.

يحيك كيليطو نسجه بكفاءة وفعالية ليوصل إلى القارئ رسالة واحدة مفادها أن الشرق والغرب وجهان لعملة الإبداع الواحدة، وأننا جميعاً كبشر نقوم بعملية إعادة تدوير مستمرة للفن، فوفقاً لأنطون لاقوازيي: “لا شيء يُستحدث، لا في فعاليات الفن ولا في فعاليات الطبيعة، إلى حد يمكننا أن نضع كمبدأ أنه في كل عملية هناك نفس الكم من المادة سواء قبل العملية أو بعدها؛ وأن كيفيات العناصر الكيمائية وكمياتها تبقى هي ذاتها، وأنه ليس هناك إلا تحول وتغير.” (ص. 90)

وبذلك يختم كتابه قائلاً:

“قبل أن يحلم الغرب بالهيمنة على الشرق بأزمان فإن الشرق في إغفاءته ومجسّداً في الليالي غزا الغرب. اكتشف الأدب الأوروبي فجأة أن شيئاً ما ينقصه، فاندمج بالشرق ووجد (استعاد ثانية؟) نصفه. من هذه اللحظة فصاعداً ارتبط الغروب بالشروق. لنتذكر أبياتاً من الديوان الغربي-الشرقي لغوته:

(من يعرف نفسه والآخرين

يعترف هنا أيضاً أن:

الشرق والغرب

لا يمكن بعدُ أن يفترقا.

وبودي أن أهدهد نفسي

سعيداً بين هذين العالمين؛

وإذن فالتحرّك بين الشرق والغرب

هو الملك الأفضل)

إنه شأن الليل، ولكنه أيضاً شأن الشمس، نور الشرق، ظلمة الغرب. الليالي، وللمفارقة، مضيئة؛ يضمّ الليل النهار إليه. ألا يبدئ اليوم الجديد من قلب الليل، ومن منتصفه؟ حينما يلتحم النصفان، فإن العالم عند إذن تام أو إذا شئنا مترع. إذا كانت شهرزاد قد أنقذت (بنات المسلمين)، فإن الغرب ساهم بقوة في إنقاذ شهرزاد [يشير كيليطو هنا إلى إنقاذ الليالي من النسيان عبر ترجمتها إلى اللغات اللاتينية ودراستها]. الرّاوية في حاجة إلى المساعدة من الجميع حتى وإن كان عدد ممن أسرعوا لنجدتها، سبق أن حكموا عليها بالموت. أن تُميت شهرزاد من أجل أن تنقذها، من أجل أن تبقيها على قيد الحياة [يشير هنا إلى بعض المترجمين الذين قتلوها في النهايات التي أضافوها للنسخة المُترجمة]!”

وبذلك يتركنا كيليطو حائرين أمام سؤال بالغ الأهمية: هل أنقذت الترجمات الغربية كتاب «ألف ليلة وليلة» حقاً؟ وإن هي فعلت ، فمن دفع حساب عملية الإنقاذ هذه ، ونحن صرنا نعرف أشد المعرفة  أن هنالك دائماً مقابل؟

كما نسج كيليطو نسجه، سأنسج أنا نسجي البسيط، وأعود إلى اقتباس لنزار قباني كنت قد نشرت جزءاً منه في الحكمة (1) يقول فيه:

“إن أسوأ ما في (ألف ليلة وليلة) هو أنها أصبحت صورتنا (الرسمية) الوحيدة التي يتداولها العالم. وكل نشرة سياحية تصدر في أوروبا عن الشرق لابد أن يظهر فيها شهريار، وهو منبطح كالخنزير البري على عشرين مخدة ومن حوله جيش من المحظيات يحملن المراوح، ويرقصن حتى الصباح لأكبر بلطجي عرفه التاريخ. إذن، فنحن لسنا ضد الفولكلور، ولا ضد الأساطير والرموز الجميلة التي يعبر بها الشعب عن نفسه، وعن أحلامه وعواطفه، ولكننا قطعاً ضد المستنقعات الفولكلورية التي تجعل من (علي بابا والأربعين حرامي) ومن (لص بغداد) ومن قرصان محترف (كالسندباد البحري) ومن ملك مصاب بالشيزوفرانيا (كشهريار) نماذج أدبية وسياحية نصدرها إلى العالم.” (قباني، 2011، ص. 187)

وهذا ما أكّده كيليطو نفسه ولو بطريقة غير مباشرة عندما أشار إلى تعدد الترجمات واختلافها وكأن المترجمين لم يمانعوا إضافة العديد من التفاصيل الشاذة عن العمل فقط كي يتماشى مع منظورهم المُستشرق، وهو ما تحدثت عنه كثيراً في سلسلة من المراجعات والمقالات عن كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد والذي ذكر بعضاً من المترجمين والكتّاب الذين تحدث عنهم كيليطو (كإدوارد لين وإرنست رينان) ولكن في سياق مُختلف تماماً ينقد فيه الأفكار المُعممة والأحكام المُسبقة عن الشرق.

لكن هل يلغي كل ما سبق ذكره الارتباط الوثيق بين الطرفين (الشرق والغرب)؟ أم أنه يحاول خلق ارتباط عادل ومنصف يكون البشر فيه سواسية؟

الحكمة من الكتاب:

يرى كيليطو أن كتاب «ألف ليلة وليلة» وحّد بين الشرق والغرب، فـ”من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا” سواء كانت نون الجمع شرقية أو غربية، ففي مقدمة الكتاب يقتبس كلمات من يوميات كافكا التي استعار منها عنوان كتابه: “في معظم الأوقات، من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا. […] يعود ذلك لكوننا لا نعرف شيئاً عن هذا الجار المبحوث عنه. وبالفعل، فإننا لا نعلم أننا نبحث عنه، ولا كونه يقطن قربنا، وفي هذه الحالة، يمكننا القول أن نكون على أتم اليقين أنه يقطن قربنا.” (ص. 7)

اقتباسات من الكتاب:

“هناك حالات، جد نادرة حقاً، يسبق فيها العقاب الإساءة.” (ص. 19)

“قصص الطريق [road novels]: إذا كان من الضروري الإشارة إلى نظير لها في الأدب العربي، فلنذكر مقامات الهمذاني والحريري التي يمكن اعتبارها بالمعنى الدقيق محكيات سفر مرتبطة بالطريق.” (ص. 32)

“أن تضل الطريق، أن تتبين ذلك في لحظة أو في أخرى، أن تأخذ على نفسك العودة على عقبيك، أن تسلك الطريق في الاتجاه المعاكس، أن تتوه، أن تجدد الصلة بذاتك.” (ص. 33)

“إن «ألف ليلة وليلة» من بين الكتب القليلة نسبياً التي تفرض اسم المترجم وتجعل منه محوراً أساسياً بل المحور  الأساس.” (ص. 64)

الختام:

يجدر التذكير أن الكتاب لم يُكتب باللغة العربية بل بالفرنسية، وهذا يدل أولاً، على براعة الكاتب في التمكن من الكتابة عن الليالي بغير لغتها الأصلية. وثانياً، يتركنا نتساءل عن الهدف الذي دفع الكاتب إلى تذكير الفرنسيين بأن ما يبحثون عنه يسكن قريباً لهم؟

أحدث التعليقات