الحكمة (6): «رغوة سوداء» لحجي جابر

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (6): «رغوة سوداء» لحجي جابر

أقف اليوم في محطتي السادسة: أريتريا. القريبة منّا والبعيدة عنّا في الآن ذاته. الدولة التي يتحدث أهلها اللغة العربية كلغة ثانية، وتقع قريبة من منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا ومع ذلك هي بعيدة كل البعد عن كتاباتنا وأفلامنا وفنّنا فلا نعلم عن قصتّها وصراعها وتاريخها سوى أقل القليل. وسط هذا التصحر المعرفي يقدم حجي جابر كنزاً غنياً لكل من يريد أن يعرف المزيد عن أخيه الإنسان في رواية «رغوة سوداء» التي نشرتها دار التنوير للطابعة والنشر في طبعتها الأولى عام 2018 في القاهرة.

ظنّنا مني أن الرواية متعلقة بالقهوة – فالرغوة السوداء في ذهني مرتبطة بالقهوة فقط – انهمكت في قراءة الرواية انهماكاً حاداً، حتى انصدمت بأن الرغوة ما هي إلا البطل: “كل مكان يلفظه إلى السطح كرغوة، دون أن يمنحه التفاتة تبقيه في العمق،” فكلمة رغوة هنا تشبيه برغوة البحر التي تلفظها الأمواج إلى الشاطئ: نكرة، غريبة، ولا قيمة لها كبطل الرواية تماماً.

البطل ليس شخصاً، وإنما مشروع شخص كان يُمكن أن يكون. مشروع كان يُمكن أن يكون مسلماً، فيكون اسمه داوود، مسيحياً اسمه ديفيد أو داويت اليهودي. هو مادة قابلة للتشكل بحسب المحيط الذي يعيش فيه والمستقبل الذي سيزهر له، وهو التجسد الكامل والمثالي للا بطل.

هو ثمرة مجهولة الأصل من “ثمار النضال”، ولد على جبهة القتال في حرب تحرير إريتريا من الحكم الأثيوبي. وُلد نكرة لا هوية له. مُجرد أداة في يد الثورة لزيادة عدد المناضلين. ويقول في هذا السياق: “فتحت عيني في ميادين القتال، وأنا أنتقل من حاضنة إلى أخرى، وكلهن أمي. كانت المقاتلات يتناوبن على ربطي بظهورهنّ معهنّ أصعد التل وأنزل السهل، وأتمدد في الخنادق. أول لعبة كنت ألعب بها هي بندقية كلاشنكوف فارغة، وربما ممتلئة، من يدري!” (ص. 106)

من هذه البذرة الضائعة تشكلت هويته المشوهة التي تحيط بها الأكاذيب والتدليس لصنع واقع لا يملكه. يهرب من معسكرات التدريب، ويقع في غرام “عائشة” فيصبح داوود المسلم. ثم يحاول الهجرة إلى أوروبا، فيكذب على المسؤول على الهجرة إلى أوروبا، ويخبره أن اسمه ديفيد. وعند رفض طلبه، وضعَ خطة مُحكمة لينال عطف صاحبة النزل “سابا” عبر افتعال حريق في نزلها وإطفائه في دور بطولي دفعها إلى مجازاته ومساعدته على تزوير ماضيه على أنه إحدى “يهود الفلاشا” أو اليهود الإثيوبيين، حتى تُفتح له أبواب الهجرة إلى إسرائيل.

نجحت خطته، وسافر إلى إسرائيل. وصل مليئاً بالأحلام والطموح وكأنه وصل إلى أرض الميعاد فعلاً، حتى تفاجأ بالتقسيم العرقي عندما انتقلت الحافلة التي تقله إلى الأحياء المخصصة لليهود الإثيوبيين و” لاحظ داويت أن المدينة غيرت كثيراً من ملامحها ما إن أصبحت الحافلة في الأحياء الشرقية؛ فقد اختفى القطار الرمادي، واستحالت الحافلات الخضراء الداكنة إلى بيضاء بخطوط جانبية خضراء، وبدت المباني كنتوءات عشوائية بارزة وهي تئن.” (ص. 141)

اكتشف أن أرض الميعاد ليست سوى أسطورة، لكن لم يكن بوسعه أن يغضب. أن يمتعض. أن يعترض. فالغضب “ترف عند المغلوبين، بينهم وبينه سياج من الإذلال والإخضاع. الغضب فعل إرادة، والمغلوب منزوع الإرادة والقرار.” (ص. 220)

تتسارع الأحداث، وينكشف غطاؤه ويدرك رفقاءه أنه ليس يهودياً. لكن ما هو؟ ما هي ديانته؟ أسئلة لا يعرف البطل الإجابة عنها. أسئلة لا يسعه الإجابة عنها.

الحكمة من الكتاب:

أعتقد أن ما يحاول حجي جابر نقله إلى القارئ عبر رواية «رغوة سوداء» هو صورة الواقع الصعب والمرير الذي يعيشه الشعب الإريتري في ظل النضال المُستمر والبحث عن لقمة العيش مما دفعه إلى التلون والتغير والتبدل بمختلف الألوان بحثاً عن مستقبل أفضل حتى وإن كان عليه أن يسدد هويته وذاته مقابل هذا المستقبل.

وتبعاً، فإن الحكمة هي عدم جدوى هذه الطريقة والدليل في الميتة الخطأ التي ماتها البطل في نهاية الرواية، ولسان حاله يقول أن مصير العبث عبث لا محالة. على الإنسان أن يكون واضحاً مع ذاته وأهدافه، رغباته وشغفه. عليه ألا يدع متسعاً للظلم مهما كان شديداً من أن يطال روحه وذاته لأنه إن فعل، فسيُقضي عليه لا محالة.

اقتباسات من الكتاب:

“وددت أن أتجاوز كل أشكال البدايات لأخبرها كم هي جميلة. لم يكن لائقاً أن أخوض معها حديثاً عادياً وهي حدث لا يمر بي كل يوم.” (ص. 103)

“السائح لا يتوقف، وإن فعل فإنه يفعل ذلك بكثير من النّزق ، هو معنّي فقط بجمع الأدلة على مروره بالمكان، لكنه لا يمنحه شيئاً من روحه ولا يأخذ منه إلا ما ندر، وهو يظنّ العكس.” (ص. 160)

“للحكايات باب واحد، نلج منه ثم ندور في عالمها إلى الأبد. لا نجاة من الحكايات التي نتورط فيها، حتى لو اعتقدنا خلاف ذلك.” (ص. 171)

“ما الأسماء إلا أسمال لا يمكنها أن تحجب [المصائر].” (ص.197)

“أعرف [الحب] تماماً، ملامحه وطعمه وحتى صفاته السيئة. كان قريباً بحيث لو مددت يدي لأمسكته، وبعيداً بحيث يستهلكني العمر كله كي أصل إليه.” (ص. 199)

“ثمة متعة في البقاء قريباً من مكامن الخطر، لكن شريطة أن ينبض الأمل داخلنا دوماً بإمكانية النجاة.” (ص. 204)

“أحياناً نبحث عن كوننا محبوبين أكثر من أي شيء آخر، ولهذا قد نبحث عن الحب فقط لنحصل على هذه النعمة.” (ص. 213)

“كم هي النفس غائرة أكثر من قدرتنا على الوصول إلى قاعها وكشف أغطيتها.” (ص. 215)

“الصمت دائماً ما يأتي على مقاس أشيائنا، بينما يندر ألا يكون الكلام فائضاً عن الحاجة.” (ص. 231)

الختام:

أسلوب حجي جابر الفريد والقصة الغريبة التي لا أعرف عنها الكثير جعلت من الرواية رحلة غرائبية ممتعة منعتني من مفارقتها قبل الانتهاء من قراءتها.

عند قراءة هذه الرواية بالذات، على القارئ أن يتجاهل كل التعميمات والأحكام المسبقة التي يعرفها عن كل شيء، وينصت إلى ألم البطل. إلى ألم الألوف من الأفارقة ممن يجدون في البحر والمجهول ملاذاً من واقع مظلم.

أحدث التعليقات