الحكمة (7): «الراهبة الإسبانية» لتوماس دي كوينسي

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (7): «الراهبة الإسبانية» لتوماس دي كوينسي

أقف اليوم في محطتي السابعة: المملكة المتحدة.

إن الحب نوع خطير من أنواع التعلق، وخاصة عندما يكون الكتاب هو المحبوب. فما العمل بعد أن ينتهي؟

هذا هو شعوري الآن بعد أن قاربت على إنهاء رواية «الراهبة الإسبانية» لتوماس دي كوينسي، والتي نشرتها دار مسكيلياني للنشر والتوزيع في سنة 2020 في تونس، ونقلها عن الإنجليزية عبد المنعم المحجوب.

سأكون صريحة معكم، وأعترف أنني لم أنهِ قراءة الرواية بعد حتى لحظة كتابة هذه الفقرة. بقي لي فيها عدة صفحات لم أقوَ على تجاوزها وكأنني لا أستطيع تخيل حياتي من دونها. كيف ستمضي ساعات يومي من دون مغامرات كيت وسخرية توماس دي كوينسي؟

لمن لا يعرف من هي كيت، دعوني أعرفكم بها. كاتالينا دي إراسو هي الراهبة الإسبانية؛ بطلة هذه الرواية، وهي “السيدة المحاربة، الضابط الوسيم، هذه الراهبة العسكريّة، هذا الفارس الشديد الجمال… رددت كل من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا صدى مغامراتها. إسبانيا الشمال والجنوب، تحدوها رغبة جارفة في النظر إلى طفلتها التي تتقد حماساً، الطفلة التي ألهبت سيرتها وبطولاتها الخيال الوطني.” (ص. 104)

تبدأ الرواية في سنة 1592 عندما رُزق نبيل إسباني بابنة رابعة و “هو أكثر من عدد البنات المعقول المسموح به.” فأخذها إلى دير القديس سبيستيان حيث كان مرحباً بها “بينما كانت موضع نفور في مكان آخر.” (ص. 5-6) منذ تلك اللحظة، وكيت تواجه قيود المُجتمع التي تُفرض عليها لأنها ولدت أنثى، غير أنّها لم تستسلم لها، وشقت لنفسها طريقاً مُختلفاً. فبعد مرور خمس عشرة سنة كانت كيت تُهدهد فيها برفق بين يدي “القديس سباستيان، وفي أحضان بناته، لم تعد تجد – من الآن فصاعداً – مساحة للتنفس بين العواصف الأبدية، وكان عليها أن ترى صومعتها المسالمة، وتلقي نظرة على المعبد المُقدس، للمرة الأخيرة.” (ص. 11) قبل الهروب منه.

عند الهروب، حولت كيت رداء الراهبات إلى ثياب رجالية تنكرت بها، فأول “شيء تفعله شابة تمر بظرف صعب، حتى وإن صادف أن كانت شاباً، هو تعديل هندامها ليبدو جميلاً.” (ص. 31) ثم عاشت حياة كاملة على أنها بيترو دياز. تنقلت بين إسبانيا وأمريكا الجنوبية في رحلات ومغامرات فروسية عديدة، حتى إن “كلمة (قتل) متناثرة في كل صفحة من سيرة كيت الذاتية.” (ص. 46)

في آخر مغامراتها أصيبت بجرح بليغ، فقادها أحد الأساقفة “إلى الدير، وما هي إلا برهة صغيرة، حتى أصبحت عاجزة عن إخفاء أنوثتها أكثر من ذلك.” وعندما انكشفت هويتها الحقيقية (أي أنها أنثى) غُفر لها كل ما ارتكبته من “تدنيس المقدسات وسفك الدماء والهروب وازدراء مفاتيح القديس بطرس.” وتم إصدار العفو بحقها والتوقيع عليه وختمه. (ص. 104-105)

وبهذا وصلتُ إلى نهاية الرواية أخيراً، وتمكنت من إغلاقها، لكن سؤالاً بقي عالقاً في ذهني: هل كيت هي الاستثناء أم القاعدة؟

أميل إلى الاعتقاد أن كيت ليست الاستثناء. كرجال ذاك العصر وُلدت كيت بحس المغامرة وشهية مفتوحة للقتل. لم تمنعها قواعد المجتمع من أن تعيش الحياة التي تناسبها لذا تنكرت وعاشت على أنها رجل. وأتصور أن النساء مثلها كثيرات، لكن التاريخ لم يكتب عنهن؛ لأن التاريخ غالباً ما يكتبه الرجال.

في حوار جميل ومثير أشارت الفنانة التشكيلية السعودية هند عبد الرحمن المنصور إلى أن التاريخ يكتبه الرجال “فهو إذا من منظار الرجال” وتمثيل المرأة فيه ناقص بشدة. وقد أظهرت في أعمالها الفنية نساء عربيات شهيرات في التاريخ العربي كولادة بنت المستكفي وهند بنت عتبة وغيرهن من النساء العظيمات. (نخلة، 2018)

إن المشكلة الكبرى في كتابة التاريخ هي عندما تتحول المجتمعات وما تعيشها من تغيرات وتحولات وتفاصيل في منتهى الصغر والتعقيد إلى علم عليه أن يكون قبل كل شيء منطقياً ومقبولاً من قبل مجتمع الأكاديميين والخبراء. في أثناء هذا التحول – بطبيعة الحال – تُحذف أو تُنسى المبادرات والحقائق التي لا تتماشى مع المنظور العام والمقبول من قبل المؤرخين.

إن كنتُ قد تعلمت أمراً واحداً من كتاب «الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق» لإدوارد سعيد فهو ألا أثق في التعاقب السردي للأكاديميين؛ لأن مجال البحوث الأكاديمي يعيد تدوير الأفكار ذاتها مهما تقدم بها الزمن، وتغيرت الأحوال والظروف. يغير فيها بعض الشيء كي تتماشى مع العصر الحاضر، ولكن الجوهر يبقى ثابتاً، لأنه يخدم ثقافة المجتمع وحضارة بعينها.

الحكمة من الكتاب:

تقدم لنا سيرة كاتالينا دي إراسو  نظرة خاطفة على التاريخ النسوي البديل، وتفسح المجال واسعاً لاحتمالية وجود نساء أخريات كثيرات مثل كيت عشن، وتمردن على العرف السائد، لكن التاريخ تجاهلهن أو لم ينلن رضا وإعجاب المؤرخين، فأنكروا وجودهن ببساطة.

إن الحكمة من هذا الكتاب تخص النساء أكثر من الرجال، ولكنها تعني كل شخص مختلف عن بقية المجتمع، وهي تدعو لأن يكون الإنسان صادقاً مع ذاته وشغفه وأحلامه، وأن يسعى إلى تحقيقها بصرف النظر عن القيود المجتمعية وقواعد العرف التي ستؤنبه وتنفيه من التاريخ إن لزم الأمر لأنه خارج عن القطيع.

اقتباسات من الكتاب:

“من الجيد أننا في هذا العالم العدواني نتخاصم بشراهة حول الأذواق، بما أن الاتفاق حول ما يعجبنا ونجده ملائماً لنا، يولد المزيد من القتال أكثر مما يولد الاختلاف.” (ص. 6)

“ليست المصادفة سوى اسم مستعار للرب، في تلك الحالات التي لا يظهر فيها إشارات عن وجوده علناً.” (ص. 23)

“مرير هو الحزن الذي تسببه يقظة الضمير، عندما يكتشف بعد فوات الأوان، عمق الحب الذي داسته الأقدام!” (ص. 54)

“لكن مع كل الأعذار التي تقدمها الأرض وظلامها، فمن المرارة بمكان في كل لحظة من لحظات الحياة، سواء كنا يقظين أو حالمين، أن ننظر إلى الوراء، إلى اللحظة التي طعنا فيها قلباً كان مستعداً للموت من أجلنا.” (ص. 55)

“الكراهية المتولدة من الخوف هي الأعمق دوماً.” (ص. 75)

الختام:

تغوص رواية «الراهبة الإسبانية» في خضم المغامرة والغرابة والعبث، والأهم من هذا كله السخرية التي قدم بها توماس دي كوينسي الرواية، إضافة إلى مداخلاته التي يتحدث فيها مباشرة إلى القارئ، وكأنه صديق حميم.

عالم الرواية غرائبي من الدرجة الأولى مما يولد عند الإنسان ردة فعل قوية وجذرية، فحسب تجربتي، واطلاعي على آراء القراء الآخرين يمكنني الجزم بأن هذه الرواية تدفع القارئ إمّا إلى التعلق بها تعلقاً جمّا أو عدم احتمالها البتة.

المصادر:

  1. أرزه نخله (17/11/2018) “عندما يصبح الفنّ أداة تمكين للمرأة العربيّة مع هند المنصور،” موقع ماري كلير العربية

أحدث التعليقات