الحكمة (1): «الكتابة عملٌ انقلابي» لنزار قباني

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (1): «الكتابة عملٌ انقلابي» لنزار قباني

أقف اليوم في محطتي الأولى: سوريا. حكمة اليوم مستمدة من كتاب «الكتابة عملٌ انقلابي» لنزار قباني، والذي نَشر طبعته السادسة منشورات نزار قباني في سنة 2011 في بيروت. يتكون الكتاب من 54 مقالاً نُشرت في مجلة (الأسبوع العربي) خلال أعوام 1973، 1974، 1975. يُمكن تصنيف المقالات إلى ثلاثة مواضيع رئيسية: (1) الكتابة ونظم الشعر، (2) رثاء ابنه توفيق، و(3)مستجدات القضية الفلسطينية في تلك الفترة.

بقدر تأثري بشعر نزار قباني يبقى لنثره وقع أكبر على نفسي وخاصة كتابه الآخر: «والكلمات تعرف الغضب». تملك مقالاته منظوراً فريداً، وتتميز بحس الكرامة العالي والنخوة والعروبة. أمّا بالنسبة لأجمل ما كتب في كتاب «الكتابة عملٌ انقلابي» فهو مقال عن العلاقة بين العرب والإسبان بعنوان (يا زمان الوصل في الأندلس) وقد أدرجت إحدى فقراته في الاقتباسات الواردة أدناه.

بين جنون الكتابة، وحزنه على فقدان ابنه، وأحداث الثمانينات السياسة وتداعياتها على منطقة الشرق الأوسط، ورثائه للأندلس المفقود، أخذني نزار قباني في دوامة عاطفية لم أكن أعلم هل أضحك أم أبكي من تأثيرها. ذكرني هذا الكتاب بجدي عبد الحق الأسود رحمة الله عليه. فهو ونزار ينتميان لجيل نادر من الرجال العرب الذين كانوا ثابتين على مبادئهم وواثقين من عروبتهم وقيمهم. للأسف فقدنا أغلب هذا الجيل بعد أن غدت أعمارهم تقارب التسعين. وقد شهد هذا الجيل الاستقلال واحتلال فلسطين وما لحق به من خيبات وحروب وانقسامات، لكن روحهم كانت دائماً عالية وإيجابية، وشعارهم الأوحد هو العلم والعمل.

لقد أقام هذا الكتاب في مكتبتي لأكثر من خمس سنوات. كل مرة ابدأه ولا أنهيه لأنني في كل مرة لا أستطيع تجاوز الأجزاء غير المتعلقة بالكتابة بعد أن توقعت أن تدور جميع المقالات عن انقلابية الكتابة، لكن الآن وبعد قراءتي لكامل الكتاب يُمكنني القول أن جميع المقالات كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً عبر كاتبها وكأنها حبّات فسيفساء متعددة الألوانغير أنها جميعاً تكون صورة أوسع وأكبر عن حياة نزار قباني وجيله.

الحكمة من الكتاب:

يصعب استخراج حكمة واحدة من كتاب متعدد المواضيع – والاقتباسات الواردة أدناه أفضل دليل على ذلك – لكن يمكنني التركيز على حكمة واحدة في مقامي ها هنا، ألا وهي أهمية التفكير والإبداع والتي يمكن اعتبارها موضوعاً جامعاً لجميع المقالات. في البداية يذكر نزار قباني أهمية أن لا يتحول الإنسان الحر إلى حبة فاصولياء مُقيدة بقوانين الطبيعة (أو المجتمع)، ثم في الأجزاء الأخيرة من الكتاب يطلب “وضع مخطط سريع بتحويل المخزون النفطي في باطن الأرض إلى مخزون عقلي في رأس الإنسان” (ص. 208)  العربي مشدداً على أهمية بناء الإنسان وتكوين فكره وعقله حتى لا يتحول إلى حبة فاصولياء.

اقتباسات من الكتاب:

“الفرق بين رأس الإنسان وحبة الفاصولياء .. أن حبة الفاصولياء محكومة بقوانين فصيلتها النباتية لا تستطيع أن تتمرد عليها أو تتجاوزها. في حين أن رأس الانسان صندوق سحري مليء بالاحتمالات والمفاجئات… لأن رأس الانسان، بحكم حرية اختياره، هو مجموعة من المجاهيل، فإن الحياة تنتظر منه أن يبدع، ويحدد، ويخرج عن سلسلة العادات والقوانين التي تتحكم بنمو الشجر وسقوط المطر، وهبوب الريح. بكلمة واحدة. على الكاتب الذي يحترم نفسه، ويحترم الآخرين أن لا يكون حبة فاصولياء.” (ص. 9-10)

“إن الحرية هي محصول حضاري لا يعرفه إلا المتحضرون. فالثعبان لا يعطى الحرية لأنه لا يحسن التصرف بها. والذئب لا يمكن أن يدعي الحرية لأن تكوينه الأساسي تكوين عدواني. والقرصان لا يمكن أن يتكلم عن الحرية، لأن غايته الأساسية هي أن يغتال البحر والمسافرين. والرجل الذي يذبح شقيقته، أو زوجته، أو ابنته، بتفويض من مجتمع الثأر والعقد الجنسية لا يمكنه أن يصرخ أمام المحكمة: (أنا حر). لأن الحرية لا تعطينا تفويضاً بالقتل. وكذلك الكاتب، والشاعر، والروائي، والصحافي، لا يمكنهم أن يقامروا بالكلمة، ويبيعوها جارية في سوق النخاسة، بدعوى أنهم أحرار. لأن الكتابة ميثاق شرف ثلاثي بين الكاتب، وبين ضميره، وبين من يقرؤونه. وكل خيانة لهذا الميثاق تسقط شرف الكاتب والكتابة معاً.” (ص. 34)

“موعد الحب الأول بين العرب والإسبان كان في سنة 710 ميلادية. لاحظوا أنني أستعمل هنا تعبير (موعد حب) ولا أستعمل كلمة غزو أو فتح أو احتلال، إذ أن كل هذه التسميات والأوصاف لا تنطبق على حقيقة الوجود العربي في أسبانيا. الفاتحون – كل الفاتحين – زرعوا الموت والرعب والدمار حيث مرّوا باستثناء الفتح العربي الذي حمل معه شتول الخيل وأشجار النارنج وقصائد الشعر. الفتح العربي هو أول فتح في الدنيا كان لديه متّسع من الوقت لكتابة الشعر. لا الرومان، ولا الإغريق، ولا الفرس، ولا البرابرة، ولا التتار، والا العثمانيون، ولا الانكليز كتبوا بيتاً واحداً من الشعر في البلاد التي حكموها. فالموشح الأندلسي الذي أفرزه الوجود العربي في أسبانيا هو حادثة لا شبيه لها في تاريخ الآداب العالمية. وهو شهادة لامعة وقاطعة على أن العرب والاسبان عاشوا معاً مناخاً إنسانياً سمح بولادة أشكال شعرية جديدة.” (ص. 50)

“إن مهنتي هي الانفعال، والكتابة عن هذا الانفعال.”(ص. 77)

“قد تكون المرأة أقدر على الصراخ من الرجل، ولكن الرجل أقدر على الحزن منها. وقد تكون الغدد في عيني المرأة أكثر قدرة على إفراز الدموع، في حين أن الرجل يكون في ذروة الفجيعة حين يكون عاجزاً عن البكاء. المرأة عندما تعشق تستريح إذا تكلمت، أما الرجل فينتحر بصمته.” (ص. 83)

“إن أسوأ ما في (ألف ليلة وليلة) هو أنها أصبحت صورتنا (الرسمية)الوحيدة التي يتداولها العالم. وكل نشرة سياحية تصدر في أوروبا عن الشرق لابد أن يظهر فيها شهريار، وهو منبطح كالخنزير البري على عشرين مخدة ومن حوله جيش من المحظيات يحملن المراوح، ويرقصن حتى الصباح لأكبر بلطجي عرفه التاريخ.” (ص. 187)

“أما نحن (أولاد العرب) فإن سكنانا على هذا البساط الرملي الممتد من الخليج إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط جعلت جهازنا العصبي قادراً على الحب في كل لحظة.” (ص. 229)

الختام:

بعد كل ما سبق من اقتباسات ومعانٍ وعاطفة جياشة، كيف يُعقل أن أغلق هذا الكتاب وأعيده إلى الرف؟ وخاصة بعد أن اكتشفت أخيراً أن هنالك نوعاً رفيعاً من الحزن يصيب المرء عندما يُكمل كتاباً رائعاً، وأعتقد أنني سأصاب به بالتأكيد لذا عندما اقتربت من نهاية الكتاب، أخذت أتروى في قراءته علّه يبقى معي مدة أطول. إن قلم نزار قباني من أجمل الأقلام المعاصرة وخاصة إذا تكلم في موضوع يثير القارئ ويهمه. وأنا لا أنصح بقراءة هذا الكتاب وحسب، وإنما بدراسته ومطالعته أكثر من مرة لأنه مدرٌّ للكلمات والمعاني الفريدة وعلى الكتّاب الاستفادة منه واستغلال المعاني والمصطلحات الواردة فيه.

أحدث التعليقات