رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  مُختارات  /  رواية «العمى» لجوزيه ساراماغو

جوزيه ساراماغو هو كاتب برتغالي، ولد في نوفمبر سنة 1922. بدأ حياته صناعاً للأقفال قبل أن يصبح صانعاً للكلمات والمعاني في مهنتي الصحافة والترجمة، إلى أن حط قلمه أخيراً على الأدب بصورة كلية فكرس كل وقته له. ألّف روايته الأولى «أرض الخطيئة» في سنة 1947 ثم توقف عن الكتابة لعشرين عام، ثم أصدر ديوانه الشعري في سنة 1966. يبلغ مجموع مؤلفاته حوالي الثلاثين عملاً، غالباً ما أثارت الجدل. تحصل على العديد من الجوائز منها جائزة نادي القلم الدولي عام 1982 وعلى جائزة كأمويس البرتغالية سنة 1995، وفي سنة 1998 فاز بجائزة نوبل للآداب.

تعتبر رواية “العمى” من أبرز أعمال جوزيف في نسختها العربية التي ترجمها محمد حبيب ونشرتها دار المدى للثقافة والنشر سنة 2002 في سوريا. تتميز هذه الرواية بعكسها لسيكولوجية النظم الاجتماعية بصورة أدبية ورمزية سعى من خلالها الكاتب لتبين الكيفية التي تولد بها هذه النظم وتكبر وتتمركز، مستخدماً رمزية العمى ليعبر عن هذه النظم.

نجح جوزيف في إتقان فن الرمزية – إن صح التعبير – خلال صفحات الرواية الثلاثمائة وتسعة وسبعين فقام بكل سلاسة بإسقاط مفهوم “العمى” أو “العمى الأبيض” على التغير السياسي والاجتماعي واختار الرموز الموظفة خلال صفحات الرواية بدقة مما أكسبها معانٍ إضافية مع تطور القصة. (كريس، 2009، ص. 183) ثم إن اختيار “العمى الأبيض” دون العمى الاعتيادي (الأسود) لعب دوراً مهماً في إعداد مقومات الرمزية الواجبة لخلق المعنى المبطن للأحداث، فلو كان العمى عمى اعتيادياً لصعب على مخيلة القارئ أن يسقطه على معنى أكبر من العمى المادي للعينين، لعمى جماهيري يؤثر على المجتمع كلل.

وبما أن “التأويل الاستعاري يتولد من التفاعل بين المؤول ونص استعاري، لكن نتيجة هذا التأويل لا تنفصل عن طبيعة النص، كما أنها لا تخرج عن الإطار العام الذي تسمح به المعارف الموسوعية لثقافة ما،” (خنصالي،2015، ص.82) وتبعاً للأحداث الأخيرة التي شهدها عالمنا العربي، ينعكس لي هذا “العمى الأبيض” كرمز للنظام الاجتماعي الجديد. ويعرف وليام أجبرن النظام الاجتماعي “بأنه الطرق [المميزة والفريدة] التي ينشؤها وينظمها المجتمع لتحقيق حاجات إنسانية.” (مدخل إلى علم الاجتماع، ص.3)

شخص ما في مكان ما يصنع أمراً ما، تصيبه حمى الاعتراض، فيعترض، أين كان قبل كل هذا؟ ربما كان جالساً في سيارته منتظراً أن تأذن له الشارة الخضراء لينطلق وإذا به تصيبه هذه الحمى كما حدث مع الأعمى الأول في الرواية إذ أصابته حمى “العمى” وربما حمى الشيوعية، أو غيرها من الانتفاضات الكثيرة والعديدة. وهكذا يصبح لدينا “أعمى أول” أو “منتفض أول” ينقل حمّاه لغيره دون أن يدري أو يدرون كيف وقعوا في هذا العمى! ومع ارتفاع عدد المنتمين لهذه الحمى نجد أن هذه الفوضى العارمة التي تنتج عن التغير أو الحمى الجديدة أو “العمى الأبيض”، تتحول إلى نظام اجتماعي بعد أن تصل لمرحلة القبول، وخاصة بعدما تصل الحمى لأصحاب النفوذ والسلطة في أي مجتمع، وهم بدورهم قد يعتنقون هذا النظام الجديد وقد يتبنونه ويصبحون المدافعين عنه والناطقين باسمه، فتصبح هنالك حكومة من العميان كما عبر عنها الأعمى الأول في الرواية، “لا أعتقد [أن هنالك حكومة] وإن وجدت فسوف تكون حكومة من العميان تحاول أن تحكم العميان، أي بكلمة أخرى إنه يحاول تنظيم العدم.” (ص. 296) أليس هذا هو حال الحياة!

هنالك العديد من الدراسات والمعطيات التي تمهل الطريق للقارئ كي يفهم رموز الرواية ومعانيها، ومن أهمها تلك المتعلقة بسرعة انتشار الأفكار والأفعال بين البشر. غالباً ما نعتقد أن هذه المعطيات مرتبطة بعالمنا الحالي وبانتشار التكنولوجيا والإنترنت بل إن العديد من المفكرين والمثقفين يربطون انتشار الأحداث والتحولات السياسية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهذا التقدم التكنولوجي متناسين أو متجاهلين بتعليقاتهم هذه ترابط البشرية جمعاء وحقيقة أننا جميعاً على سطح هذا الكوكب نعيش في مجتمع واحد مترابط بصورة أو بأخرى ونؤثر على بعضنا البعض بالكيفية والعمق اللذين لا نتوقعهما في أغلب الأحيان.

على سبيل المثال، في سنة 1848، وفي شهر فبراير تحديداً انطلقت الثورة الفرنسية الثالثة مطلقة بذلك ظاهرة سياسية واجتماعية يعبر عنها بمصطلح “موجة الثورة”. وقع تحت تأثير هذه الموجة ما يزيد عن خمسين دولة. أبرز الدول التي تأثرت بهذه الثورة بصورة فعليه هي: ألمانيا وبولندا والدنمارك وإيطاليا والامبراطورية الأسترالية. أما بالنسبة لكل من روسيا وبريطانيا العظمى واسبانيا والسويد والبرتغال فقد تأثرت بصورة غير مباشرة بهذه الموجة فلم تختبر أي نوع من الاضطرابات السياسية التي شهدتها الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن كل هذه التحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية كانت تتشارك الخلفية الأيدولوجية ذاتها (لليبرالية والاشتراكية والوطنية)، إلا أنه لم يكن هنالك أي عمل منظم أو تنسيق مركزي بين هذه الاضطرابات السياسية في مختلف هذه البلدان. (Kurt، 2014، ص. 366-365)

يقودنا المثال السابق إلى حقيقة يصعب تجاهلها ألا وهي هشاشة أي نظام اجتماعي قائم وإمكانية استبداله بنقيضه في أي لحظة. إن من يتابع مجريات التاريخ المختلفة في بقاع الأرض العديدة يكتشف هشاشة الأفكار والأيدولوجيات وإمكانية تغيرها خلال لحظات عدة. وعلى الرغم من التفسيرات والتحليلات المختلفة للمنتمين لمختلف المدارس الفكرية والسياسية والفلسفية، تبقى الحقيقة المؤكدة أقرب للخيال فهي “تلبس على الأغلب قناعاً مزيفاً كي تبلغ غايتها.” (ص.152)

أحياناً لا يحتاج الشخص لمتابعة مجريات التاريخ لأنه شاهد عيان لما يحدث فيه، كما هو الحال مع الكاتب الذي شهد التحول السياسي للبرتغال من نظام دكتاتوري فاشي إلى نظام اشتراكي. أثناء بدايات هذا التحول السياسي، وفي سنة 1968، انضم جوزيه إلى الحزب الاشتراكي البرتغالي. وبالطبع فقد مارس الدكتاتور البرتغالي استادو نوفو سلطته عليه فاعتقل وعذب قادته وأرسل البعض منهم إلى معسكر تارافال (Tarrafal Camp) والمعروف بمعسكر الموت البطيء، وعلى الرغم من أن جوزيه لم يتم اعتقاله (Pappas، 2015)، إلا أن أحداث الرواية تصب في نفس المنهل إذ تم “اعتقال” العميان الأوائل وإرسالهم إلى محجر صحي تبعاً لفكرة الوزير الذي “من أي زاوية نظرنا إليهـ[ـا]، لا نقول إنها فكرة متكاملة، من وجهتي النظر الإنسانية الصرف لهذه الحالة والتعقيدات الاجتماعية والنتائج السياسية المترتبة عليها … يجب عزل كل من عمي، وكل أولئك الذين كانوا قريبين منهم جسدياً، في مكان ناءٍ لتفادي حالات عدوى لاحقة ما أن تحدث حتى تتكاثر إلى هذا الحد أو ذاك.” (ص. 55)

منذ الخامس والعشرين من أبريل سنة 1974، تاريخ بداية الثورة البرتغالية، شرع المواطنون في السكن في البيوت الفارغة دون أن ينتظروا موقف الحكومة من الأحداث. ولم تتمكن الحكومة بعدها من اتخاذ أي موقف تجاه هذه الفوضى خوفاً من ردود فعل المواطنين للدرجة التي تراجع فيها الجيش عن أمر الرحيل الذي أصدره ووجهه لـ260 عائلة من حي فقير في لشبونة انتقلت للسكن في مبنى سكني فارغ بالقرب من المدينة ( Ed، 2006) وكذلك بعدما انتشر العمى بنجاح في جميع أنحاء البلاد في الرواية، نجد أن العميان وصلوا للمرحلة ذاتها، فإذا ما خرج شخص ما من بيته فعلى الأغلب أن “تحتله مجموعة أخرى.” (ص. 257)

وفي وسط حالة العمى العارمة، نجد أن هنالك دائماً من يبقى من دون أن يصيبه العمى حتى بعد أن يعمى الجميع، “قد عمي الجميع، المدينة كلها، البلد كلها. وإن تبقى بعض المبصرين فإنهم يحتفظون بسر ذلك لأنفسهم.” (ص. 258) كانت زوجة الطبيب هي المبصرة التي قامت بقيادة مجموعة من العميان طيلة الرواية، بل إنها المبصرة الوحيدة للحقيقة، تقول زوجة الطبيب لمن معها معبرة عن حكمتها وقيادتها في الجزء الأخير من الرواية: “دعونا لا ننسى ما كانت عليه حياتنا هناك في المحجر، فقد انحدرنا إلى الدرك الأسفل من المهانة، كل أنواع المهانة، حتى وصلنا درجة الانحطاط الكامل، يمكن أن يحدث الأمر ذاته هنا، وإن يكن بطريقة مختلفة، هنالك كنا نزعم أن الانحطاط هو نتيجة أفعال الآخرين، لكن الآن جميعنا نميز وعلى التساوي بين الصالح والطالح، أرجوكم لا تسألوني ما هو الصالح والطالح فلطالما كنا نعرف ما هما عندما كنا ننظر للقيام بفعل ما حينما كان العمى استثناء.” في هذا المقطع توجد إشارة واضحة لما يحدث للشعوب خلال هذه الاضطرابات السياسية وما هي الأفعال التي قد يقومون بها خلالها ولا يقومون بها أثناء غيرها من الأيام وكأن البوصلة الأخلاقية تفقد فجأة اتجاهها، أو يصيبهم العمى! تتابع الزوجة كلامها قائلة: “إن الخطأ والصواب ببساطة طريقتان مختلفتان في فهم علاقتنا بالآخرين، لا تلك العلاقات التي نقيمها مع أنفسنا، فهذه يجب ألا نثق بها، اعذروني على هذا الوعظ الأخلاقي، فأنتم لا تعرفون، لا يسعكم أن تعرفوا، ماذا يعني أن نكون مبصرين في عالم كل من فيه عميان، أنا لست ملكة، بل أنا ببساطة تلك الإنسانة التي ولدت لترى هذا الرعب، بوسعكم أن تشعروا به، غير أني أشعر به وأراه.” (ص. 319-320) وهذا هو حال القادة والمثقفين الحقيقيين الذين يبصرون ما لا يبصره غيرهم ويعي ضميرهم هذا الرعب!

الرواية جميلة بصورة خاصة إذ تعكس جوهر المجتمعات البشرية وأنظمتها بصورة رمزية شيقة. نجح الكاتب استخدام أداة الرمزية طيلة صفحات الرواية، وربما كان ذلك أجمل ما في الرواية، إذ يستمر القارئ في إسقاط هذه المعطيات على واقعه وما يعرفه عن المجتمعات البشرية. تستحق القراءة وأعتقد أنها ستكون إحدى الروايات الخالدة التي دائماً ما ستجد طريقها للقراء.

المراجع:

نانسي كريس (2009) تقنيات كتابة الرواية(ترجمة، زينة جابر إدريس) بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون

سعيدة خنصالي (2015) أمبرتو إيكو: في نقد التأويل المضاعف، بيروت: منشورات الاختلاف

Kurt, S. (2014). The Revolutions of 1848 and Its Reflections to Modern Political Mentality. Journal of History School (JOHS), 359-376.

Pappas, S. (2015, 11 16). The Politics of José Saramago . Books Tell You Why.

(2006, 9 3). 1974-1975: The Portuguese Revolution. libcom.org.

 

أحدث التعليقات