رواية «كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونيدرا

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  مُختارات  /  رواية «كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونيدرا

ميلان كونيدرا  هو كاتب تشيكي، ولد في الأول من أبريل سنة 1929. تخرج من جامعة براغ حيث درس علم الموسيقا والسينما والأدب وعلم الأخلاق، ثم عمل في تدريس مادة الأدب العالمي في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية. لعب دوراً في العديد من المجالات الثقافية ككاتب ومترجم للمقالات ومؤلف للمسرحيات. حظت مجموعته القصصية الأولى «غراميات ضاحكة» التي نشرت سنة 1963 باللغة التشيكية بالاهتمام مقارنة بغيرها من أعماله السابقة. وبعد الغزو السوفيتي لتشكوسلوفاكيا في 21 أغسطس 1968، وبسبب نشاطه السياسي ضمن الحركة الراديكالية (ربيع براغ) المطالبة بتغيير النظام الاشتراكي، فقد ميلان وظيفته ومنعت كتبه من التداول في المكتبات في كافة أنحاء البلاد، فانتقل لفرنسا وعمل بالتدريس في جامعة رين في برتاني في سنة 1975. إلا أن روايته “كتاب الضحك والنسيان” المنشورة سنة 1978 تسببت في إسقاط جنسيته التشيكية ليحصل على الجنسية الفرنسية في عام 1918. لديه العديد من المؤلفات باللغة الفرنسية منها رواية «الخلود» التي نشرت في سنة 1988 (وفقاً لما نشر عنه في موقع الجود ريدز (goodreads)).

تعتبر رواية «كائن لا تحتمل خفته» من أبرز أعمال ميلان كونديرا التي كتبها بالتشيكية سنة 1982، إلا أنها لم تنشر حينها ونشرت باللغة الفرنسية بعد سنتين، لتنشر أخيراً بالتشيكية بعد سنة من نشرها بالفرنسية. أما بالنسبة للنسخة العربية المتداولة حالياً في الأسواق فهي الطبعة الثالثة التي ترجمتها ماري الطوق ونشرها المركز الثقافي العربي في سنة 2013 في لبنان. تغوص هذه الرواية العجيبة بالقارئ في معنى المعنى، ليشعر بوهلة أنه لا يقرأ رواية عن شخصيات مقيمة في خيال الكاتب، وإنما يقرأ رواية عن ذاته في بعد زمني ومكاني آخر. إنها رواية عن الخفة التي يشعر بها الإنسان كلما تحرر من ثقل المثاليات والضرورة.

ينجلي جلياً من الصفحات الأولى من الرواية المعنى الفلسفي العميق منها، فبالإضافة إلى الإشارة الواضحة لـ”الخفّة والثقل” في عنوان الفصل الأول (وهو أيضاً عنوان الفصل الخامس)، نجد أن الصفحات الأربع الأولى تناقش هذه الفكرة وجذورها في الفكر اليوناني بصريح العبارة وكأن لسان حالها يخبر القارئ أن هذه رواية تجمع بين المعنيين النفسي والفلسفي للوجود. إن الحكم الأخلاقي على عمل ما بأنه جيد أو سيء، ضار أو نافع ليس منطقياً في نطاق خط زمني يسير دائماً إلى الأمام بدون إمكانية الرجوع إلى الوراء أو “العود الأبدي”، فإذا كان للشخص فرصة واحدة لعيش هذه الحياة، فكيف بإمكانه أن يقارنها بغيرها كي يعلم ما هو الصالح والطالح فيها؟

ما بين “الخفة” و “الثقل” يطرح ميلان منظورين مختلفين عن فناء الحياة أو استمراريتها، فوفقاً لنظرية نيتشة عن “العود الأبدي” فإن “كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأن هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية!” (ص. 5) وهذا “العود الأبدي [هو] الحمل الأكثر ثقلاً” كما قال نيتشة (ص. 7). أما في حال الخفة، فإن “الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقاً بعيداً عن الأرض وعن الكائن الأرضي. يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرّة بقدر ما هي تافهة.” (ص. 7) إذن، فناء الحياة يحرر الإنسان من ثقلها ويجعله أكثر واقعية وإدراكاً لتفاهتها.

إن معنى الخفة لدى ميلان لا يقتصر على الحياة أو على الإنسان فقط، وإنما يصف التاريخ أيضاً. إن هذه الخفة هي ذاتها العبثية التي تصف الحياة والتاريخ لأن كلاهما لا يحدث عدة مرات، وإنما يحدث مرة واحدة يعيشها الإنسان كما تعيشها الأمم دون خبرة سابقة، “فلو كان بإمكان التاريخ التشيكي أن يعيد نفسه، لكانت تجربة الاحتمال الآخر أمراً مهماً بالطبع، لأنه إذ ذاك يمكن المقارنة بين النتيجتين. ولكن، بانعدام وجود هذه التجربة، فان هذه البراهين كلها تبقى لعبة افتراضات مرة واحدة لا تحتسب، مرة واحدة هي أبداً. تاريخ بوهيميا لن يتاح له أن يتكرر مرة ثانية ولا تاريخ أوروبا أيضا. فتاريخ بوهيميا وتاريخ أوروبا هما محاولتان خطهما انعدام الخبرة المحتم للبشرية. فالتاريخ خفيف بقدر ما هي الحياة الإنسانية خفيفة، خفيفة بشكل لا يطاق، خفيفة مثل الوبر، مثل غبار متطاير، مثل شيء سيختفي غداً.” (ص. 225)

إن هذه الخفة تعكس في طيّاتها التحرر من كل الأطر الاجتماعية والسياسة التي تجعل الإنسان مجرد طوبة في جدار يقيم مبنى يمثل أمراً لا يعني هذا الإنسان الأول بصورة شخصية. إن التجربة الشخصية للمرء هي التي تعطي وجوده معنى و واقعية، وهي متجذرة في حقيقة أن للإنسان حياة واحدة على ظهر هذا الكوكب، لذا كان من الأجدر أن يعيشها لذاته هو، لكن في حال تعددت الحيوات، لأفنى المرء حياة منها لأهداف سياسة وأخرى لأهداف اجتماعية، غير أن الواقع ليس كذلك إطلاقاً.

يتجسد هذا المعنى في موقف الدكتور توماس – أحد أبطال الرواية الرئيسيين – من الصحافي المعارض الذي قابله برفقة ابنه، الذي لم يقابله منذ مدة طويلة بعد طلاقه من والدته، من أجل أن يوقع على عريضة سياسية. كان توماس قبلها قد تعرض لموقف مضايقة من أحد رجال الوزارة بشأن مقال سياسي بعنوان “أوديب” في إحدى المجلات الأسبوعية، فبعد أن  سلمه الشرطي إفادة تتضمن جملاً عن حبه للاتحاد السوفياتي ووفائه للحزب الشيوعي وتشهيراً بمحرري المجلة الأسبوعية التي ظهر فيها المقال قال له، “دكتور، هذه مجرد مسودة. ستفكر ملياً في الأمر وإذا ارتأيت أن تغير عبارة أو أخرى فسيكون بإمكاننا التفاهم بشأن ذلك، بكل تأكيد. فالنص نصك في النهاية.” (ص. 188)، أجابه توماس بعد دقائق من التردد والتوتر، “أنا لست أمياً. لماذا ينبغي عليّ أن أوقع على شيء لم أكتبه؟” (ص.189) ثم بعدما أقنع الشرطي أنه سيفكر في الأمر، ترك مهنة الطب، وانتقل لتنظيف الزجاج، ليتفاجأ في يومٍ من الأيام بأن من طلبه للتنظيف هو صحافي معارض وابنه معه يطلبان منه توقيع عريضة من أجل المساجين السياسيين، ليتوصل لنتيجة مفادها أن الجميع “يريدون إجباره على توقيع نصوص لم يكتبها بنفسه.” (ص. 216) فالشرطي والصحافي كلاهما يتشاركان الرغبة ذاتها في تحويل توماس إلى مجرد طوبة في جدار يدعم نظاماً أو فكراً معيناً.

سابينا – إحدى بطلات الرواية الرئيسية –  أحست بالأمر ذاته عندما قارنت تظاهرات الاحتجاج على اجتياح بوهيميا من قبل الاتحاد الروسي، بما تفعله سلطة الاتحاد في شعب بوهيميا، فكان لسان حالها يقول، أن “الشيوعية والفاشية وكل أنواع الاحتلالات تخفي في طياتها سراً أكثر خطورة وشمولاً. وصورة هذا السر تتجلى في مواكب الناس الذين يسيرون في صفوف وهم يرفعون قبضاتهم هاتفين بالمقاطع اللفظية نفسها على نسق واحد.” (ص. 98) فعندما تَتَملك الشعوب أو مجموعة بشرية فكرة ما على أساس أنها الطريق الوحيد المؤدي إلى الجنة، تسقط عن الإنسان إنسانيته ويتحول إلى آلة تخدم هذه الفكرة، فـ”هؤلاء الذين يعتقدون أن الانظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية هي فقط من صنع مجرمين، فإنهم يغفلون حقيقة أساسية: الأنظمة المجرمة لم ينشئها أناس مجرمون وإنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة. فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق، ومن أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين. ثم، فيما بعد، أصبح جلياً وواضحاً وضوح النهار، أن الجنة ليست موجودة وأن المتحمسين كانوا إذاً مجرد سفّاحين.” (ص. 172)

لعل هذا المنظور الفردي الذي يتراءى للقارئ بين صفحات الكتاب يرجع الأصل فيه نقد ميلان للأنظمة الشيوعية التي تمحق الفردية وتشجع بل وتفرض الجماعية. فنجد أن أبطال الرواية يتحررون من القيود الاجتماعية فيزدادون خفة، ويقعون فيها، فيزدادون ثقلاً. فتوماس، على سبيل المثال، كان يزداد ثقلاً عندما يذكر تريزا التي تركته في زوريخ وعادت لبوهيميا، ويزداد خفة في الأيام التي لا يذكرها فيها، فـ”كان قد أحس يومي السبت والأحد [التي قضاها وحيداً مستمتعاً بحريته في زوريخ] بعذوبة خفة كائن تأتيه من عمق المستقبل. أما يوم الإثنين [يوم تذكر تريزا] فأحس نفسه تحت ثقل حمل لا عهد له به من قبل. فالأطنان الحديدية للدبابات الروسية مجتمعة لم تكن شيئاً مقارنة بهذا الحمل. إن ألمنا الشخصي ليس أثقل من الألم الذي نعانيه مع الآخر ومن أجل الآخر وفي مكان الآخر؛ ألم يضاعفه الخيال وترجّعه مئات الأصداء.” (ص. 34)

إن هذا القراءة لرواية ميلان لا تغطي الواحد بالمائة من عمق وتشعب الأفكار والملاحظات النفسية والاجتماعية والتاريخية التي يتطرق لها الكاتب، فرواية «كائن لا تحتمل خفته» هي رواية جامعة يمكن تحليلها بطرق عديدة مختلفة. أنصح بقراءتها بتمهل وتفكر، مع العودة للمراجع اللازمة، وخاصة المتعلقة بأدب ما بعد الحداثة، وبذل مجهود لفهم المبادئ والمصطلحات الجديدة التي يتطرق لها الكاتب.

 

أحدث التعليقات