قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  مُختارات  /  قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل

ابن طفيل هو محمد بن طفيل المغربي، ولد في الأندلس سنة 1105 وتوفي في المغرب سنة 1185. أحد فلاسفة المسلمين وأطبائهم وعلمائهم وكان متحققاً بجميع أجزاء الفلسفة وكان حكيماً وورعاً. من مؤلفاته: «أسرار الحكمة» و «رسالة حي بن يقظان» و «رسال الطبيعيات» و «رسالة في النفس»، ولكن لم يصلنا من مؤلفاته سوى أثر وحيد وهو روايته «حي بن يقظان». (زيدان، 2013، ص. 71-76)

ظهرت قصة حي بن يقظان في مدرسة الإسكندرية الفلسفية القديمة على شكل نص قصصي رمزي، وكانت الفلسفة الإسكندرية نتيجة لحملات الدمج التي قام بها الإسكندر الأكبر” لإيجاد جنس بشري جديد ناتج عن مزج الجنس الإغريقي مع الأجناس الأخرى الآسيوية والإفريقية وتحقيق ثقافة جديدة أوراسية ( أوروبية – أسيوية).” وكان من نتائج هذه السياسة “تغلغل الآداب اليونانية والفلسفة اليونانية في أعمق أعماق الشرق القديم.” (ملحم، 2012، ص. 34-35)

وفي القرن العاشر الميلادي تقريباً استمرت المدرسة الإسكندرية الفلسفية في العصر الإسلامي لتنمو على يد الكندي والرازي و الفرابي وابن سينا والغزالي وابن باجة وابن طفيل.(ملحم، 2012، ص. 47)  “وبينما كان ابن سينا (980- 1037) في سجنه بقلعة همدان [في إيران] إذ تلتمع في ذهنه الوقاد قصة، فيكتب أول صياغة عربية لحي بن يقظان.” وبعده بقرنين، يعيد ابن طفيل كتابتها على نحو جديد فيحولها من قصة إلى رواية مع إبقائه للاسم ذاته. (زيدان، 2013 ، ص.1)

أكملت القصة رحلتها إلى أن انضمت لمؤلفات شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي ( 1154-1191) الذي أضاف لما كتب ابن سينا فصلاً ثانياً بعنوان “الغربة الغريبة” على أساس أن «حي بن يقظان» لابن سينا هو الفصل الأول ثم حطت بعدها على مؤلفات العلامة ابن نفيس (1213 – 1288) “فتراه يعاود الكتابة في الإطار الروائي لحي بن يقظان مخالفاً العنوان والمحتوى، في قصته فاضل بن ناطق … التي رواها عن الرجل المسمى كامل.” (زيدان، 2013، ص. 3)

وكما كتب ابن سينا قصة «حي بن يقظان» فقد كتب «قصة الطير» وقصة «أبسال وسلامان»، احتوت رواية ابن طفيل لحي بن يقظان على ثلاث شخصيات وهي “حي” و”أبسال” و “سلامان” ولكن هذه النظائر للشخصيات الواردة في قصص ابن سينا تقتصر على التسميات فقط فيقول في مقدمة الرواية: “فأنا واصف لك قصة حي بن يقظان وأبسال وسلامان اللذين سماهما الشيخ أبو علي [ابن سينا]”. (سعد، 1980، ص. 6)

وفي القرن الرابع عشر ترجمت رواية «حي بن يقظان» لابن طفيل إلى العبرية واللاتينية واللغات الأوربية الحديثة. وكان لهذه الترجمات المبكرة تأثير في الفكر الأوربي في ميادين مختلفة مثل الفلسفة والأدب والتصوف والنظريات العلمية والفكرية والتربوية، لكن المجالات الأدبية كانت الأكثر تأثراً بقصة حي بن يقظان وساعد على ذلك ظهور ترجمات أوروبية مختلفة للقصة وانتشارها متزامنة مع ميلاد الرواية الأوروبية في القرن الثامن عشر ميلادي. (بركة، 2014)

إن قصة حي بن يقظان هي قصة الإنسانية جمعاء فلقد مرت على مختلف الحضارات والبقاع محتفظة بالجوهر ذاته ألا وهو البحث عن الحقيقة وأن رحلة البحث ليست حكراً على المتعلمين وإنما هي في فطرة العباد التي خلقهم الله عليها، فعلى الرغم من الاختلافات الصغيرة بين نسخة وأخرى إلا أن جميع من ألّفها أو ترجمها اتفق على قدرة الفطرة البشرية الطاهرة التي لم يمسسها بشر على الوصول للحكمة وربما الحكمة المطلقة أيضاً.

فنجد أن حي بن يقظان تمكن من الوصول لحقائق مختلفة عن الطبيعة والكون وإلى توحيد الربوبية – الذي يعرف بأنه الاعتقاد بتفرد الله تعالى بالرزق والخلق والملك والتدبير – بمجرد التفكر في خلق الله والبحث فيها وحولها عن جوهر الحياة ومحركها ألا وهو: الروح. فنجد أن حي قد اكتشف وجود الروح بعد وفاة الظبية التي ربته وحضنته بعدما وجدته ملقى في صندوق في شاطئ الجزيرة يبكي من شدة الجوع.

وكان لرحلته في اكتشاف الروح نتائج عديدة من أبرزها اكتشاف البعد الروحاني لهذه الحياة، وتبعاً التمتع بالشعور بالقرب المرتبط بالجانب الروحاني لوجوده والشعور بالبعد بالانشغال بمتاعب الحياة ومادياتها كالصيد والطعام وغيرها من الغرائز الجسدية، وبقي في تردد بين البعدين المادي والروحاني حاله حال البشر جميعاً المتخبطين بين الروح والجسد.

وأخيراً وعندما التقى حي بأبسال وعلمه الكلام والنطق فروى حي لأبسال ما فتح الله عليه مما أثار اهتمام أبسال الذي قدم لهذه الجزيرة حتى ينفرد بنفسه ويتعبد الله ويتفكر في ملكوته، وعلى الرغم من أن أبسال هرب من الدنيا وزينتها لهذه الجزيرة البعيدة إلا أن حي أقنعه في العودة بغرض دعوة الناس لله الحق وطرق الوصول إليه بتزكية النفس والتفكر والبحث عنه.

ورحل الاثنان محاولان أن يوصلا ما فتحه الله عليهم لمجموعة من المريدين يترأسهم سلامان صديق أبسال في المدينة والذين من المفترض أن يكونوا أقرب الناس إلى محاولة الوصول لأعلى درجات الإيمان واليقين الحسي والروحاني بالله تعالى، غير أن محاولاتهما باءت بالفشل فيذكر ابن طفيل ذلك في قوله: “فرأى [حي] كل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا إلههم هواهم، ومعبودهم شهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجع فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصراراً. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليهما، ولاحظ لهم منها، قد غمرتهم الجهالة، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.”(زيدان، 2013 ، ص. 276-277 )

واكتشف أن هذا الفتح المبين الذي فتحه الله عليه إنما هو فتح خاص اختصه به الله عز وجل لنقاء فطرته وتفكره وصلاح حاله في عزلته، وقرر العودة إلى الجزيرة والتفرد في طاعة الله عز وجل، ويعبر ابن طفيل عن ذلك في قوله: “فلما فهم أحوال الناس، وأن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق، علم أن الحكمة كلها، والهداية والتوفيق، فيما نطقت به الرسل ووردت به الشريعة، لا يمكن غير ذلك، لا يحتمل المزيد عليه، فلكل عمل رجال، وكل ميسر لما خلق له: سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.” (زيدان،2013، ص 278 )

وهكذا تنتهي رواية «حي بن يقظان» لابن طفيل بعبرة ملخصها أن فتح الله على عباده قد لا يفهمه غير الذين فتح الله عليهم لذا فمن منّ الله عليه وهداه إلى الصراط المستقيم ووصل لمرحلة الكشف حبذا لو بقي في جزيرته بما يخص هذا الكشف والفتح لأنه مهما وصف فتحه هذا لغيره فلن يفهموا قصده وربما اتهموه بالجنون أو البدعة كما هي حال الكثير من المتصوفة في مختلف الأزمان كالحلاج.

وبينما يرى الكثيرون أن قصة حي بن يقظان قصة صوفية الجوهر والمصطلحات وهذا لا يمكن إنكاره طبعاً، إلا أنها أيضاً تتطرق للعديد من الجوانب النفسية والاجتماعية للمجتمعات البشرية ونجد في علم النفس وعلم الاجتماع المعاصرين ما يقابل جوانب مختلفة من هذه القصة المبدعة.

فمن المواضيع المهمة في علم النفس هو مبدأ: “الطبع أو التطبع” والتساؤل فيما إذا كانت الصفات التي يحملها الشخص هي نتيجة لطبع ولد به أو حمله في جيناته أو أنها نتيجة لتطبعه وانسجامه في المجتمع وفي عائلته وظروفه الخاصة، أما بالنسبة لعلم الاجتماع فمن المبادئ التي تعرض لها حي بن يقظان هي مبدأ “الضغط الاجتماعي” الذي يؤثر على المجتمعات البشرية ويجعل الفرد يتصرف بصورة تتماشى مع الحشد ومع المجتمع الذي يعيش فيه. وغير ذلك العديد من المبادئ والنظريات التي تصب في جوهر الرواية ومعانيها المختلفة.

ويجدر بالذكر هنا أن في سنة 1799 “نشرت مجلة المناقشة الفرنسية خطاباً من أحد الفرنسيين يصف فيه صبياً متوحشاً في نحو الحادية عشرة من عمره وجد في غابة بمقاطعة “افيون” وذكر الخطاب أن الصبي كان صورة من الإنسان البدائي وقد وجد هائماً على وجهه في أطراف الغابة التي كان يعيش فيها”، وأطلق عليه اسم فيكتور ويعتقد أنه قد نقل إلى الغابة عندما كان في الرابعة أو الخامسة من عمره وبقي فيها ما يقارب السبعة سنوات، وحاول الأطباء والباحثون المهتمون بحالته تعليمه النطق والكلام ولكنهم لم يستطيعوا ذلك إذ كان هنالك خلل في وظائف النطق لديه. وقد ذكرت البروفيسورة أوتا فريث أن فيكتور مصاب بالتوحد وهذا هو سبب الاضطراب الذي كان يعاني منه وصعوبة النطق التي كان يعاني منها أيضاً”. (دعوة الحق، العدد 32)

ويبقى السؤال في نهاية المطاف: ما هي الصفات التي نحملها كنتيجة لمخالطتنا للمجتمع الذي نعيش فيه، وما هي الصفات التي فُطرنا عليها أو بقيت من الفطرة التي ولدنا عليها أو وجدنا فيها؟ وهل تختلف هذه الصفات من شخص لآخر أم أن الفطرة واحدة للناس جميعا وكل مجتمع يصنع أفراده بالصفات السائدة فيه؟

إن رواية «حي بن يقظان» لابن طفيل ليست بأي رواية وإنما هي رحلة في النفس وفي الشعور وفي الطبيعة وفي خالقها ومسويها لذا فأنا شخصياً أنصح كل من لم يقرأ الرواية بأن يقرأها ويتساءل إلى أي شخصيات الرواية هو أقرب. لقد قرأت الأربع نسخ للفلاسفة الأربع ويمكنني القول بكل أريحية أن رواية ابن طفيل هي الأفضل بينهم ولعل هذا سبب انتشارها.

وأنصح أيضا بقراءة كتاب «حي بن يقظان» للدكتور يوسف زيدان والذي نشرته في طبعته الأولى دار مدارك للنشر سنة 2013. يقدم زيدان مقدمة متكاملة عن أصل الرواية ورحلة انتقالها من مؤلف لآخر كما يعرض السير الذاتية لكل من المؤلفين الأربع: ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وابن نفيس مع ذكر باب الاختلاف بين كل قصة وأخرى وذكر النص الكامل لكل مؤلف في حوالي 300 صفحة. كما يقدم الكاتب أيضاً تاريخاً مبسطاً وموجزاً للفلسفة الإسلامية مروراً بابن باجة وابن رشد.

المراجع:

محمد سيد بركة، «حي بن يقظان».. رائعة ابن طفيل ولؤلؤة التراث، 2012.

دعوة الحق، القصة والفلسفة الإسلامية -1، العدد 95.

عدنان ملحم، مدرسة الإسكندرية وتاريخ التعليم الفلسفي، 2012.

تقديم وتحقيق فاروق سعد، منشورات دار فيل، حي بن يقظان الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 3000هـ/ 3920م.

 

أحدث التعليقات