كتاب: «عالم صوفي» لجوستاين غاردر

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  مُختارات  /  كتاب: «عالم صوفي» لجوستاين غاردر

جوستاين غاردر هو كاتب نرويجي ولد في سنة 1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر. هو متحصل على شهادة في اللغات الإسكندنافية وعلم اللاهوت ويقوم بالتدريس والكتابة الأدبية في الوقت ذاته وقد اشتهر بكتابته كتباً للأطفال. وعلى الرغم من رواياته التي سبقت “عالم صوفي”، إلا أنها كانت السبب في خروجه للعالمية إذ ترجمت الرواية إلى 60 لغة، وما زالت إلى الآن أعظم إنجاز أدبي في تاريخ النرويج فقد أصبحت في سنة 1995 الرواية العالمية الأكثر رواجاً في شتى أنحاء المعمورة.

رواية “عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة” هي من تأليف جوستاين غاردر إذ صدرت في سنة 1991. ترجمتها للغة العربية حياة الحويك عطية في طبعتها الجديدة والمنقحة والتي نشرتها دار المنى في السويد سنة 2015. “عالم صوفي” هي مدخل لعالم الفلسفة والفكر بصورة عامة، وفي الحقيقة هي مدخل مبسط  الغرض منه توفير مدخل للفلسفة للأطفال فالكاتب في الأساس كاتب قصص للأطفال لكن ذلك لا يقلل من قيمة الكتاب أو يجعله حكراً على فئة عمرية معينة، إذ يمكن اعتباره كمنجد أو قاموس لأهم المفكرين في مجال الإنسانيات الغربي. إنه نقطة البداية التي تمكن القارئ من الإبحار في تفاصيل الشخصية الفلسفية المذكورة في الرواية والتي تحوز على اهتمامه.

الخط الأساسي للأحداث الذي يتعرف القارئ من خلاله على الفلاسفة والشخصيات التاريخية المختلفة هي قصة صوفي والبرتو الذي يبعث لها بالمكاتيب والشرائط عن تاريخ الفلسفة وهيلدا وأبيها المايجور البرت كناغ الذي ينكشف لنا في نهاية الرواية أن الأحداث كلها من صنعه وتخطيطه وأن صوفي والبرتو ما هما إلا شخصيات ورقية في كتاب أرسله لابنته بمناسبة عيد ميلادها الخامس عشر. إن حقيقة كون المايجور هو المحرك الأساسي لكل أحداث القصة ترمز بأن الأحداث لا يمكن أن تكون نتيجة الصدفة وأن هنالك قوة محركة وعقل مدبر خلف كل هذه الأحداث، وعلى الرغم من أن هذا التشبيه لم يذكر بصريح العبارة إلا أنه واضح من خلال صفحات الرواية فكأنه تطبيق فعلي لحقيقة وجود قوة ما ورائية تتحكم في أقدار الناس وتسيرها.

وعلى خلاف ما يتوقعه القارئ من رواية في تاريخ الفلسفة، إلا أن رواية “عالم صوفي” بعيدة كل البعد عن الإلحاد أو نكران وجود الخالق بل هي مليئة بدروس عن الإيمان والعقيدة المبنية على أقوال وآراء الفلاسفة القدماء خاصةً، ولعلّ من أبرزها ما ورد في الفقرة المتعلقة  بالفيلسوف الإغريقي هيراقليطس (540 – 485 ق.م) فيقول البرتو متحدثاً بلسانه: “إلا أنه لا بد من وجود نوع من “العقل الكوني” أو “القانون الكوني” هو واحد مشترك، وعلى الإنسان أن يحتكم إليه، في حين أن كلا يتصرف بحسب عقله هو.” (ص. 43) وما ورد أيضاً في الفقرة التي تحدث فيها عن القرون الوسطى والقديس توما فيقول على لسان البرتو أيضاً: “العقل يقول لنا أنه لا بدل لكل ما حولنا من “علة أولى”. وقد تجلى الله للإنسان عبر العقل، وعبر الوحي. ولذلك، فإن العودة إلى “لاهوت موحى به” أفضل لنا من العودة إلى “لاهوت طبيعي”. وتنطبق القاعدة نفسها على صعيد الأخلاق، حيث حدد لنا الله كيف نعيش، لكنه منحنا أيضا ضميراً يستطيع التميز بين الخير والشر، بطريقة طبيعية.” (ص. 193) إن انفراد هذه الرواية الفلسفية بهذه المعاني الكبيرة للتوحيد يعود للعديد من الأسباب لعلّ من أبرزها أن الكاتب في الأساس دكتور في علم اللاهوت وأنه يستهدف فئة عمرية معينة وهي بداية فترة المراهقة بالتحديد لذا فقد فضّل الكاتب أن يتحدث عن الأخلاق والتوحيد والإيمان.

إن كلمة الفلسفة تعني حب الحكمة، وتبعاً لهذا المعنى نجد أن الكاتب قد تمكن بصورة أدبية من التعمق في العديد من الحكم والنقاط الإيجابية والفعّالة التي يجب على الراشدين قبل المراهقين أو الأطفال اتباعها، ولعل من أهمها: “إن الأكثر ذكاءً هي التي تعرف أنها لا تعرف.” (ص. 69) وفي هذه الحكمة درس عميق لشغف الحياة والبحث والمعرفة فهذا الشغف لا يمكن أن يوجد في حياة الشخص الذي يدعي أنه يعرف كل شيء أو أنه قد اكتفى من المعرفة، فالإنسان يتعلم كل يوم أمراً جديداً ويشهد عصراً جديداً مختلفاً عن الذي مضى. ويقول أيضاً في سياق حديثه عن سقراط: “إن الرؤية الصحيحة للأشياء تقود للأفعال الصحيحة.. ]إ[ن قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر تكمن في عقل الإنسان، لا في المجتمع.” (ص. 79) وهذا درس في غاية الأهمية لكل من أراد أن يعيش حياة صحية وسليمة وهو أن يكون واقعياً وأن يرى الأشياء على ما هي عليه، فهذه الرؤية الواقعية للحياة هي الأساس في التصرفات والأفعال الصائبة، وهذه الحكمة صحيحة في شتى المجالات العلمية والعملية والفنية والأدبية والإنسانية والاقتصادية فأي خلل في دراسة الأرض قبل بنائها يتعقب عليه خلل في البناء وأي خلل في تحليل متطلبات السوق سيتطلب عليه خلل في الإنتاج…إلخ.

وبما أن الرواية الأصلية قد كتبت باللغة النرويجية فهي تستهدف القارئ النرويجي أو لنقل الغربي لذا نجد أن تاريخ الفلسفة أو موجزه الذي حاول الكاتب إيجازه وإيصاله للقارئ هو تاريخ الفلسفة الغربية أو الحضارة الغربية فعلى الرغم من أن الرواية في نسختها العربية قد أشارت إلى بعض الفلاسفة العرب والمسلمين إلا أن هذه الإشارة لم تكن سوى اجتهاد من المترجمة حياة الحويك عطية. ويؤكد الكاتب منظوره ذا الجانب الأحادي في بعض العبارات التي ذكرها في آخر الرواية والتي تتحدث أولها عن التلوث فيقول على لسان البرتو: “يدق عدة فلاسفة ناقوس الخطر، ويظهرون أن الحضارة الغربية تسير في طريق سيء خطر، وتتعدى ما يمكن لكوكبنا أن يتحمله، ويحاولون أن يقدموا مقترحات عملية ملموسة لتطويق التلوث والكوارث البيئية، ويؤكدون أن نمطنا الغربي في التفكير بات مريضاً.” (ص. 489) و يقول أيضا في موضع آخر متحدثاً عن المنظور المسيحي للتاريخ: “رؤية المسيحية للتاريخ هي رؤية خطية. ولذلك فإن من المنطقي، من وجهة النظر المسيحية، أن الكون يستمر في التمدد.” (ص. 537) وهذا يمثل أيضاً الأساس في نظريات التطور وغيرها من النظريات السياسية والاجتماعية التي تتمتع برؤية تاريخية تفترض أن الماضي هو نقطة البداية “الأكثر سوءاً” من الحاضر الذي يجب أن يكون بالضرورة أفضل من الماضي لذا كان الرجوع للماضي “تخلف” و “رجعية” و “عودة للظلامية” بينما تختلف الديانات الأخرى في رؤيتها للتاريخ فنجد أن ابن خلدون في كتابه “المقدمة” يقترح نظرة مختلفة تماماً لتاريخ الأمم ألا وهي أن للأمم فترة زمنية محددة توجد فيها فتسود وتبرز ثم تموت وترحل وتندثر حالها في ذلك حال البشر وأن الحضارة تنتقل من أمة لأخرى وأنها ليست حكراً على أمة دون غيرها.

ينهي غاردر الرواية على رغبة صوفي والبرتو في الهرب والتحرر وفي أن يصبحا من الأحياء وليس مجرد شخصيات خيالية ورقية في كتاب ما وفي هذا الشأن يقول البرتو عبارة جميلة: “لكن من يربح يناصيب الحياة الكبيرة، يربح يناصيب الموت الكبير أيضاً، ذلك الموت هو حظ الحياة.” (ص. 531) يمكن تفسير هذه العبارة على عدة مستويات فبالرغم من أن المعنى الظاهر لها هو الحياة الحقيقة التي يسعى لها كل من صوفي والبرتو إلا أن العبارة تنطبق أيضاً على الأشخاص الذين يسعون لعيش حياة عظيمة أو بالفعل عاشوا حياة عظيمة وكبيرة فغالباً ما نجد أن هؤلاء الأشخاص يموتون موتاً كبيراً استثنائياً.

رواية رائعة ومرجع فلسفي يخط الخطوط الأساسية لتاريخ الفلسفة الغربية، أعتقد أن كل مكتبة يجب أن تحتوي على نسخة من هذه الرواية.

أحدث التعليقات