جميعنا بات يتحدث عن الحب وينصح أو يطلب النصيحة بشأنه وفي النهاية يتفق الأغلبية أن الحب مجرد وهم نقرأه في الروايات ونشاهده على شاشات التلفاز، لكن على الرغم من ذلك يبقى الحب والوقوع فيه أمنيتنا ورغبتنا الخفية التي نتمناها ونبحث عنها، إذن لماذا نعيش في هذا التناقض؟
قبل عدة أسابيع انتهيت من قراءة كتاب ابن حزم «طوق الحمامة ». يتحدث الكتاب بصورة مكثفة عن الحب والعشق وحالاتهما وأنواعهما المختلفة. في الحقيقة أدهشتني عدة أجزاء من الكتاب وأعجبتني أجزاء أخرى، لكن الدرس الكبير الذي تعلمته منه هو أن الحب ليس بضاعة نشاهد إعلانها على قنوات التلفاز فنذهب لشرائها.
إن أغلبنا يتوقع أن الحب هو السعادة الغامرة والنهاية المنتظرة والتي تمثلها أفلام هوليود في قبلة تحت أنغام المطر يعيش بعدها المتحابون في ألفة ووئام ما تبقى من العمر. للأسف نتوقع أن الحب كلوح من الحلوى التي تعدك إعلانها بالشعور بسعادة غامرة بعد تناولها، وطبعاً ليس بالضرورة أن يغمرك هذا الشعور. كذلك هو الحب ليس بقبلة رومانسية على أنغام المطر وليس بالنهاية بل هو أجمل البدايات. إذن لماذا نعاني منه؟ ونطلب الصيام عنه؟
المشكلة أننا نعتقد أن الحب هو الحل لكل مشاكلنا وهو نقطة الختام بينما العكس صحيح. فالحب كأي أمر في هذه الحياة له جيده وسيئة وحلوه ومره ووجهه الضحوك ووجهه العابس ويوم غائم وآخر صحو وعندما نعتقد أنه مختلف عن ذلك نقع في مشكلة التوقعات العالية وأننا نتوقع الكثير الكثير وفي الغالب تكون توقعاتنا مجرد وهم أو حلم بينما الواقع مختلف تماماً عن ذلك، فنحن بشر والمرأة والرجل يبقيان بشراً معرضين للخطأ والنسيان. إن توقع أنك عندما تحب ستحب ملاكاً قادماً من السماء لا يخطئ أو يفقد توازنه اعتقاد خاطئ من الأساس ومن الطبيعي أن ينعكس عليك بخيبة الأمل التي ليس مصدرها الحب بقدر ما هي توقعاتك التي في غير محلها.
ثم إن الظروف تلعب دوراً أيضاً فمن الممكن أن تضعنا في مواقف لا نحسد عليها وبسببها نحتاج لتغير خططنا وخياراتنا الشخصية، فالحب لا يحصل في الفراغ وإنما يحصل في هذه الحياة بكل ما يتخللها من مشاكل وهموم وظروف قد تجعلنا غرباء عن أنفسنا وعن الذين نحب مما يجعلنا نتخذ قرارات خاطئة، لكن ذلك لا يعني أننا أناس سيئون ولا نستحق الحب. وأحيانا قد نضحي بحبنا الكبير من أجل أمور نعتقد أنها أكثر أهمية وربما قد نندم على ذلك بعدها، لكن المهم هو أن الحب بريء من كل اتهاماتنا وشكوانا. وإن صحت، فهي صحيحة في حق الحياة لا بحق الحب.
لذا وقبل الوقوع في الحب أو بينما نحن في أحضانه يجب أن نكون واقعيين ونتصور أن النهايات جميعها ممكنة وأن نكون منفتحين لما قد سيحصل أو لما لن يحصل والواقعية هنا ليست بتوقع الأسوأ وتسمية ذلك بالواقعية وإنما بالإيمان بأنه من مقدور الحب أن يجعلنا الأسعد على سطح هذا الكوكب وأن يحسّننا ويجعلنا أفضل مما نحن عليه، وأن الذوبان في أحضان الحبيب أجمل شعور على الإطلاق والسعي لتحقيق كل هذا والاستمتاع به في الحلال طبعاً! لكن مع هذا يجب أن يتوقع كل منّا أن النهاية لن تكون بالضرورة ما تمنينا، لذا ومع الوقوع في الحب الجميل علينا أن لا نفقد ذاتنا كلياً لنجد من نلجأ له إن لم تسر خطتنا الغرامية كما نريد.
والحب – كأي أمر آخر من أمور الحياة – بقدر ما نبذل فيه بقدر ما نجد منه، ولا يأتي مجاناً من دون أي جهد منّا أو تعب. يُحكى أن امرأة ذهبت لساحر حكيم وطلبت منه أن يصنع لها عملاً من شأنه إيقاع زوجها في حبها فقال لها: “أحتاج إلى شعرة قرد لفعل ذلك”. فذهبت المرأة لحديقة الحيوانات وحاولت اقتلاع شعرة من رأس القرد فلم يقترب منها كلياً، فحاولت التقرب منه كل يوم باستخدام حيلة جديدة فمرة بإطعامه وأخرى باللعب معه وفي النهاية اقترب منها، فأخذت شعرة من رأسه. وعندما ذهبت بها للساحر الحكيم سألها كيف تمكنت من اقتلاعها من رأس القرد فشرحت له خطتها الناجحة فقال لها: “وهذا هو السحر!” وهذه هي الحياة، وهذا هو الحب، يجب البذل فيه لإيجاد المقابل.
أما بالنسبة لروعة الحب فالحب هو ذلك الشعور العميق بأننا مميزون بما فيه الكفاية لنصبح السبب في خفقان قلب آخر واهتمام شخص آخر وهو شعورنا بأننا أجمل وأصغر وأكثر تألقاً وأكثر تسامحاً وعطاءً. هو ذلك الشعور الذي يدفعنا لنكون أفضل مما نحن عليه، ونرقى نحو الأفضل، وطبعاً هذا لا يعني أنه في غياب الحب سنفقد كل ذلك فالحب الكبير يعلمنا كيف نعيش الحياة والحب الصغير يعلمنا كيف نعيشه فقط. وأرجوكم لا تجعلوا حبكم صغيراً تافهاً.
إن الحب الكبير هو ذلك الذي يجتمع فيه شخصان لخدمة هدف أكبر منهما سوياً، فحتى وإن غاب الحب لسبب أو لآخر بقي الهدف وبقيت أيام الحب التي كانت أيام بذل وعطاء وروحانية قبل أن تكون أياماً بشرية مادية. فلنحاول الرقي بدوافعنا وأهدافنا فلا نقع في الحب بسبب جمال الوجه أو الجسد ولا حتى لجمال الشخصية وإنما لجمال الروح وعمقها فالباقي كله فان إلا جمال الروح باقٍ لا محالة ولا نفاق فيه ولا تزييف.
الحب هو ذلك الشعور الذي يدفعنا أن نهتم بأنفسنا وندافع عنها وكما قال نزار قباني “هو أن نثور لأي شيء تافه” في قصيدته “إلى تلميذة”. فالحب يدفعنا للثورة على الظلم والاستبداد والتفاهة فالحب الكبير يجعلنا كباراً بأهداف كبيرة ورؤى كبيرة، ويجعلنا نؤمن بالماورائيات وما لا نراه ولا نشمه ولا نسمعه أو نلمسه، يجعلنا نؤمن بأن هنالك قوة تسيرنا وتديرنا وتخطط مصائرنا.
كن عظيماً يكن حبك عظيماً ولا تسرف وقتك في حب لا يستحق أن يطلق عليه اسم “حب”، وإن وجدت شخصاُ يستحق أن تحبه حباً كبيراً عظيماً فلتتمسك به بيدك وقدميك ولا تدع كلام الناس وإحباطهم يؤثر فيك فالحب علاقة روحية بين شخصين قبل أن تكون علاقة جسدية وروحك هي الوحيدة العالمة بما يناسبها وما لا يناسبها فلا تتخذ غيرها قائداً ودليلاً.
في الختام لن يغير الحب حياتنا ويلونها إلا إن سمحنا له بذلك وفتحنا له النوافذ والأبواب على مصراعيها وابتسمنا له مرحبين وتذكروا أن الحب لا يصيب القلوب القاسية فإن أردت أن يصيبك فعود قلبك على اللين والرحمة والعطاء والبخيل بخيل في كل شيء حتى في عواطفه فلا تكن بخيلا!
أحدث التعليقات