يصبح الكثير ويمسي على الحزن والهم والغم وعلى أفكار ومبادئ سلبية كانتظار المرض أو الخوف منه أو الخوف من الآخرين أو انتظار الشر والجرح منهم وغيرها من المعاني التي نعرفها جميعا ونعرف كم نعاني إن نحن مررنا بها أو تعرّفنا على من يمر بها، ووسط هذا الجو من البؤس والشقاء والحزن والتعاسة أتساءل: لماذا؟
لماذا يقضي الكثير منا سنين عمره الثمينة في أمور من شأنها أن تجعل السنين القادمة أكثر تعاسة ونظرته لهذه السنين الماضية أكثر حزناً وعجزاً؟ لماذا قد يقوم أي شخص عاقل بأمر مماثل؟ أهي حاجة بشرية نولد بها تدفعنا للبحث عن الألم والاستمتاع به؟ أم هي ظروف حياتنا القاسية التي علمتنا أنه لا وجود لحقيقة أخرى غير الحزن؟ أم أنها الواقعية التي أصبحنا جميعاً ضحاياها في عصرنا هذا حيث أننا تخلينا عن ديننا لنكون واقعين وتخلينا عن مبادئنا لنكون واقعيين أيضاً وأخيراً تخلينا عن سعادتنا وسرورنا لنكون واقعيين أيضاً.
إذن ها أنا ذا أقول بعد سنين حاولت فيها أن أكون “واقعية”: سحقاً للواقعية! وأصدقكم القول إن قلت لكم أنني أكره هذه الكلمة للصميم على الرغم من أنني أعلم أنه من السليم والصحّي أن يكون المرء واقعياً ويرى الواقع كما هو لكن الذي كرهته ليس هذا المعنى للواقعية وإنما المعنى المتداول لها وهو العجز والسلبية وانتظار الأسوأ حتى يصبح حقيقة.
عندما درست الاقتصاد أدهشتني نظرية التوقعات والتي استخدمها جون مينارد كينز لشرح توقعات المتفاعلين في السوق وكيف أنه عندما يعتقدون أن حالة السوق ستتدهور يقومون باتخاذ مواقف سلبية كسحب أموالهم من البنوك وعدم المشاركة في تطوير السوق مما يجعل حالة السوق تتدهور بالفعل، وذلك ليس بالضرورة لأنها كانت ستتدهور بل لأن المتفاعلين فيه توقعوا ذلك حتى وقعوا فيه. في هذه الحالة تصبح الحياة دائرة مفرغة حيث أن ما تتوقعه تقع فيه، فتتوقع أنك كنت واقعياً فتتوقع الأسوأ فالأسوأ فتقع فيه دائماً وهذه هي الواقعية التي أمقتها جداً!
إذن، كيف يمكننا الخروج من هذه الدائرة المفرغة إن وقعنا فيها؟ وهل ذلك ممكن؟ شخصياً أعتقد أن توقعاتنا لا تعتمد على تجاربنا السابقة كما نعتقد أغلب الوقت وإنما تعتمد على خياراتنا الشخصية في رؤيتنا لهذا العالم فالذاكرة في حد ذاتها ما هي إلا اختيارنا في ما نريد أن نتذكر أو كيف نريد أن نتذكر ما نتذكره، والعديد من الدراسات أثبتت أن ذاكرتنا في أغلب الأحيان من صنعنا لا من صنع الماضي لهذا فما نتذكره هو ما نريد أن نتذكره وليس ما حدث فعلاً، ثم إن ماضي كل شخص يحمل الجيد والسيء فهذه هي حال الحياة ليست جحيماً مطلقاً وليست جنة لكن الأمر يعود إلينا في اختيار أي من الذكريات لنذكرها ونعيش بعطرها سواء كانت ذكرياتنا الجميلة أو السيئة.
ثم إن علماء النفس يعتقدون أن كل ما نلاحظه من حولنا وما نراه في هذه اللحظة هو نتيجة اختيار شخصي والقضية هنا هي أننا نرى ما نريد أن نراه فخياراتنا الشخصية تؤثر حتى في حاضرنا لا في ماضينا فقط ويسمى هذا المبدأ بالـ “التصور الانتقائي” أو (selective perception) وينص أننا نلمح ما نريد أن نراه من حولنا أو ننتبه له وليس بالضرورة كل شيء من حولنا نراه، وكم من مرة حصل مع أحدكم أن يقف أمام شيء ما أو شخص ما لكنه لا يراه ولا ينتبه له إلا إن ذُكّر بذلك أو قيل له ذلك، فيتفاجئ من نفسه بينما في الحقيقة هو لم ينتبه لوجود هذا الشخص أو الأمر الذي أمامه لأنه لم يكن يرغب في ذلك أو لم يكن ينوي ذلك.
أدهشني مرض الشيزوفرانيا أو بالأصح طريقة تعامل السينما معه وطريقة عرضه عندما يبدأ البطل بالحديث والتعامل مع أشخاص وهميين من حوله على أساس أنهم حقيقيون وجزء من الواقع. يدفعني هذا الاندهاش للإعجاب المطلق بقوة النفس البشرية والتي قد تصل لإقناع نفسها أن هنالك شخص أمامها وتتحدث معه على الرغم من عدم وجوده، وهذا طبعاً نتيجة لخلل في نفسية المريض لكن الشاهد من الأمر هو أننا لا نرى سوى ما نريد أن نراه وفي حالات كثيرة قد نوهم أنفسنا أننا نرى ما نريد أن نراه فقط لنثبت أمراً ما نوقن به في قلوبنا.
فهذا يعني أن السعادة والهناء قد تكون أمامنا تماماً لكن لأننا اخترنا أن لا نؤمن بوجودها لن نراها ولن نرى علامتها بينما قد تكون حياتنا خالية من الشقاء والتعاسة مقارنة بحياة الكثيرين لكننا لا نراها سوى سلسلة من الآلام والأحزان لأننا أيضاً أردنا ذلك واخترناه وإن كانت النفس البشرية بالقوة الكافية لخلق أشخاص ليسوا موجودين فهل ستعجز يا ترى عن خلق الأمل؟ والتفاؤل؟ والحب؟ والهناء؟ حتى في أصعب المواقف.
المشكلة أننا نعتقد أن سعادتنا وحزننا يعتمدان على الظروف من حولنا وأنه عندما نصل لما نريد فسنشعر بالسعادة، لكن الحقيقة هي أن السعادة الحقيقة تكمن في داخلنا وهي نتيجة خيارنا نحن وتخطيطنا فالظروف من حولنا هي من صنعتنا أولاً، ثم إن طريقة فهمنا لها ورؤيتنا لها هي من صنعنا أيضاً. إذن في النهاية نحن نختار الكيفية التي ستؤثر الظروف بها فينا وليست الظروف التي تفعل ذلك فكم من مريض ومعاق لم يتعلل بمرضه أو إعاقته ومضى في طريقه نحو النجاح والتفوق لأنه لم يتعلل بالظروف ليبرر سلبيته وإحباطه ويأسه بل اختار النجاح والتفوق والتفاؤل.
إذن، فالسعادة خيار يقوم باتخاذه كل منا إن أراد أن يكون سعيداً ويتجاهله كل من أراد أن يعيش تعيسا مبرراً ذلك بالواقعية وغيرها من الكلمات التي أنتجتها أنفسنا الكسولة والبائسة لذا على من يريد أن يكون سعيداً أو متفائلاً أن يختار أن يكون كذلك ولا أعني أن يكتفي بقول: ” أجل سأكون سعيداً” ثم يعود لحلقة التفكير السلبية المفرغة لكن أن يعني ذلك وأن يؤمن بذلك وحينها فقط سيرى الجوانب التي من شأنها أن تجعله سعيداً في حياته والتي لم يراها من قبل.
في الختام، نستطيع إلقاء اللوم على الظروف في كل أمر في حياتنا بسيطاً كان أو عظيما فخيارنا أن نواجه الحياة بتفاؤل وأمل أو نهرب منها ونعيشها على الهامش. إن السعادة خيارنا أولا وأخيراً وليست مجرد حظ يولد به بعضنا ويحرم منه الآخر فاختر أن تكون سعيداً لتكون كذلك.
أحدث التعليقات