أشاهد منظر الغروب من نافذة غرفتي والعديد من العصافير المحلقة والعائدة لأعشاشها بعد مضي يوم كامل. فأتساءل ما هي أهداف هذه العصافير؟ وما هي رسالتهم؟ وهل يعلمون أو يفقهون أن لهم رسالة وهدفاً في هذه الحياة؟ أم أنهم مجرد حيوانات لا تعقل ولا تفكر، لكن كيف عسانا نعرف ونحن لا نفقه قولهم ولا نفهم زقزقتهم وأصواتهم بل ربما تزعجنا وتقلق هدوء يومنا.
أعتقد أنها لو لم تكن تحمل هدفاً ورسالة لما كانت تفيق كل صباح بكل حيوية ونشاط لتطير وتملء الدنيا بزقزقتها الفرحة وروحها الخفيفة، ولو لم تكن واثقة من رسالتها ومن الطريق الذي تسير عليه، لما كانت ثابتة ومثابرة عليه. فكيف يثبت الضائع على ما يجهل أو يستقر المتردد على ما لا يعلم؟ ولو كانت هذه الحيوانات الجميلة تعيش بلا وعي وبكل عدائية غرائزية – كما يزعمون – ما كانت ثابتة على حياتها ومنهجها كل يوم ولكانت الحمامة يوما تطير وأخرى تسبح وثالثة تزحف لكنها تسير على طريق مستقيم فكأنها تدرك أن هذه هي رسالتها في الحياة وأن هذا ما يحتاجه العالم منها.
لم أجد أروع أو أجمل من الطبيعة معلماً ودليلاً فلقد كان الغراب هو معلم قابيل عندما عجز عن دفن أخيه هابيل فلماذا لا نتعلم نحن من الطبيعة في يومنا هذا؟ أم أننا تكبرنا عليها كما تكبرنا على أمم أخرى وتناسينا قوله تعالى في سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) (الآية 38) فهذه أمم مثلنا فلماذا لا نتخذها قدوة؟ لماذا لا نستيقظ كل يوم بحيوية الطيور والعصافير ونغرد ابتسامة فرح على وجوهنا شاكرين الله تعالى على نعمة الحياة وأننا في هذا اليوم أصبحنا من السائرين على سطح الأرض لا النائمين في بطنها؟
لماذا لا نحلق بكل ثقة في اليوم محاولين بشتى الطرق الوصول لأهدافنا ومبتغانا من هذه الحياة كتلك العصافير التي تثابر وتثبت وهي تبحث عن طعام وبذور لنفسها وصغارها. فهل شاهدنا يوما من الأيام عصفورا شاكياً أو باكياً لأنه لم يجد ما يطعم صغاره؟ هل شاهدناه وهو باسط جناحه طالبا للعون؟ لا ولن تفعل أبدا فهذه العصافير لا تعرف العجز ولا تستسلم له فهي مدركة أن لها رسالة في هذه الحياة وهي مثابرة عليها كل يوم. لكن ما هي هذه الرسالة؟
طبعا إصلاح الأرض والثبات على الحق وتحقيق العدل في الأرض ليست برسالة العصافير ولا الطيور فهذه رسالتنا نحن، لكن الطيور تلعب دوراً كبيراً في دورة الحياة، وعلى الرغم من أنها ليست بالضرورة واعية لدورها الذي تلعبه إلا أنها ثابتة عليه ولهذا فهي تلعبه بكل مهارة.
أما نحن فننفق جل وقتنا في التساؤل عن دورنا وعن أهميته وعن فعاليته وهل سيصل فعلاً لمن نريد أن يصل، وإن وصل فهل سيستفيدون منه؟ أم أنه مجرد تضييع للوقت؟ ولماذا نقوم بهذا وليس ذاك؟ ولماذا نحن؟ ليقم شخص آخر بهذا العمل. لو تساءلت هذه العصافير نصف هذه الأسئلة أو ربما ربعها لما شاهدنا عصفوراً واحداً محلقا في السماء ولا بذل أي عصفور منها جهداً ليستيقظ صباحا ويبدأ رحلته نحو المجهول والجديد.
لقد قال الغزالي في نهاية عمره أن يا ليت إيمانه كان كإيمان العجائز بثباته ويقينه وأقول أنا أن يا ليت إيماني كان كإيمان العصافير ويقينها وبذلها اللانهائي فهي لا تكل ولا تمل ولا تشك في لحظة واحدة أنها لن تجد رزقها أو أن رزقها لن يكون كافياً أو ربما كان مسموماً ، لماذا؟ لماذا كل هذه الثقة وكل هذا اليقين؟
إن الثقة واليقين لا يبدأ إلا مع الله سبحانه وتعالى فالثقة الكبرى فيه واليقين الثابت فيه عز وجل وهذه الحيوانات الصغيرة والضعيفة أقوى منا بيقينها وثقتها وثباتها لهذا فهي لا تكل ولا تمل، لكننا وللأسف لا نفقه ذلك يقول تعالى في سورة الإسراء (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) (الآية 44) بل إننا نمر عليهم في تسبيحهم ونراهم ثابتين مثابرين ولا نلاحظ ذلك وكل ما نلاحظه قوتنا وغلبتنا المادية عليهم ولا نرى قوتهم وغلبتهم في الاعتقاد واليقين علينا نحن المشوشون والشاكون والمذبذبون.
فلنبني يقيننا وثقتنا بالله عز وجل ولنجعل ذلك نقطة الانطلاق لنا، لنحقق مستقبلاً أفضل لنا جميعا فكم من الأمور والمواضيع والقضايا التي تحتاجنا وتحتاج طاقاتنا وبذلنا وعطاءنا وكم من محتاج ومسكين ويتيم يحتاج على الأقل إلى ابتسامة صادقة منا تشعره أنه ليس وحيداً في هذه الحياة وأن الخير لا يزال موجوداً فينا وفي من حولنا ولنتعلم من هذه العصافير الثبات والمثابرة ولنتذكر ذلك كلما رأيناها محلقة عالياً في السماء.
في النهاية، كل ما يمر أمامنا قد يحمل معه درساً كبيراً لنا نستطيع تعلم الكثير الكثير منه هذا إن أردنا ذلك وسجلنا أسماءنا كتلاميذ في مدرسة الحياة، وإلا فسيكون الواقع عبارة عن أحداث مكررة وغير مفسرة وربما سخيفة نعيشها ملزمين لا راغبين ومكرهين لا عاشقين للحياة وأيامها المختلفة بألوانها اللانهائية.
أحدث التعليقات