كثيراً ما نسمع العبارة “صفحة جديدة” في المسلسلات والأفلام وخاصة بعدما يخطئ الرجل أو المرأة في حق الآخر ويحاول أن يبدأ من جديد ويضع خطأه ورائهما ويتجاوزاه لبداية جديدة، والسؤال هو هل نقبل دائماً الانتقال لصفحة جديدة أم أن أغلبنا يعلق في الصفحة الأولى ما عاش من حياته دون التفكير في الانتقال لصفحاتٍ أخرى ربما تكون أكثر جمالاً وأكثر إشراقاً.
حياتنا عبارة عن كتاب نكتبه ونخطه بأيدينا فنختار نوع الخط الذي يكتب به، ولون القلم، وحجم الصفحات، فهذه حياتنا نحن، ونحن قادرون على تحديد كل هذا، وطبعاً نحن المسؤولون عن اختيار عدد الصفحات التي تملأ كتاب حياتنا فمنّا من يحمل كتابه العديد من الصفحات والكثير منها وآخرون لا تحتوي كتبهم سوى على صفحات قليلة وأناس قليلة أيضاً لأن من يريد أن يعاشر الناس ويعيش في تناغم ووئام معهم عليه أن يفهمهم أولاً ويفهم قابليتهم للوقوع في الخطأ فتلك هي طبيعتنا البشرية دون استثناء.
المشكلة هي عندما نكون في علاقة ما مع شخص نحب أو صديق قريب و نضع ذلك الشخص في مرتبة الملائكة فنصدم عاجلاً أو آجلاً لأن ذلك الشخص ليس ملاكاً ولن يكون لا اليوم ولا الغد ولا بعد الغد فلو كان ذلك صحيحاً لولد بأجنحة ولم يولد بشراً. إن فهم هذا المبدأ قبل الشروع في أي علاقة من أي نوع كانت، وتذكير أنفسنا به مراراً وتكراراً سيجنبنا الكثير من الصدمات ومخلفاتها من الألم والجراح والحزن.
إذن ما معنى أن نكون بشراً؟ نحن بشر نخطئ ونبدأ من جديد، فنحاول أن لا نخطئ مرة أخرى. لكننا قد نعيد الخطأ ذاته مرات ومرات لا لأننا مهملين أو لا مبالين – في أغلب الأحيان- ولكن لأن التغير صعب والالتزام أيضاً صعب ويحتاج للمثابرة ولمجهود صادق وللعون أيضاً ممن حولنا ولمساندتهم وخاصة عندما تكبر الأخطاء، فحينها نحتاج للمزيد من العون بيننا وللأسف ما يحدث في مجتمعاتنا هو العكس تماماً.
نحن نرفض الخطأ والمخطئ وعائلة المخطئ وأصل المخطئ وجنسية المخطئ وبيت المخطئ وشارع المخطئ وحتى قطة المخطئ نرفضها أيضاً، نرفض الجميع دون أن نفكر في عاقبة رفضنا وفي تأثيره على المخطئ وفي من حوله وفي المجتمع بصورة عامة فتقبل المخطئ ورفض خطأه هو أول خطوة نحو الشفاء من الخطأ فكيف عسى أن يكون رفضه وتجنبه سيساهم في الحد من هذا الخطأ؟
للأسف في أغلب الأحيان نحن أنانيون ولا نسعى لأن نأخذ بيد المخطئ بقدر ما نسعى للخلاص بأنفسنا على الرغم من أن خلاصنا يكمن في خلاص غيرنا أيضاً فنحن لا نعيش على كوكب وحدنا منعزلين عن من حولنا وإنما نعيش في مجتمعات بشرية ونساهم فيها وتساهم فينا وإن لم نساعد المخطئ اليوم فلن يجد أبناؤنا من يساعدهم في المستقبل إن هم أخطأوا وإن حاربنا سياسة التسامح والصفحة الجديدة ورفض الخطأ لا المخطئ فقد تدور الدائرة علينا ونكون نحن المخطئين في المستقبل أو أبنائنا أو من نحب ولن نجد من يتقبلنا ويتفهمنا.
لذا علينا البدء من اليوم في تعزيز مبدأ التسامح وقبول البدايات الجديدة ومحاولات البدايات الجديدة وأن لا نتّهم من يحاول الإقلاع عن الخطأ ويفشل في ذلك بالوقوع في الخطأ من جديد أو التكاسل ففي أحيان كثيرة يكون الوقوع في الخطأ أسهل من الإقلاع عنه ثم إنه يجب علينا أن لا نتكبر بمواقفنا الصحيحة وخياراتنا الصائبة على من لم يتمكن من صنعها وفعلها فهذا النوع من التكبر مثله مثل التكبر بالمال أو الجمال. الكثير من الناس يولدون في ظروف تجعل اختيار الطريق الصحيح صعباً وعبارة عن تحدٍ كبير فاحمد الله لأن ظروفك قد سهلت لك الخيار الصحيح في حين أن ظروف الكثيرين لم تسمح.
أنا لا أؤمن أن الظروف هي التي تحدد جوهر الإنسان وحياته وخياراته ولكن لها دوراً كبيراً في ذلك وخاصة أن بعضنا يولد بقابلية أكبر للخطأ وذلك ربما يحدث لأنه قد رأى الخطأ يمارس من قبل والديه عندما كان طفلاً ثم وقع في ظروف حفزته لممارسة هذا الخطأ من جديد عندما كبر وفي حال كهذه سيكون من العسير عليه أن يتخيل أنه يستطيع العيش دون الوقوع في هذا الخطأ لأنه يعتقد أنه واقع فيه لا محالة طالما أنه قد شهد والديه وهما أو أحدها يقع فيه مراراً وتكراراً، كالتدخين مثلاً، فمن المعروف أنه يصعب على المدخن أن يقلع عن التدخين إن كان يعيش مع مدخن آخر وذلك لأن الظروف تلعب دوراً هاماً وكبيراً في مواقفنا وفي أخطائنا أيضاً.
من المهم جداً أن نقبل سياسة الصفحة الجديدة مع غيرنا ونأخذ بأيديهم ونساندهم ونقف معهم ضد الخطأ الذي يرتكبونه بدل توجيه إصبع الاتهام إلى كل مخطئ حتى يجد نفسه في النهاية حبيس خطأه لا حباً فيه وإنما لأن المجتمع ومن حوله قد حكم عليه بذلك ولم يفكر حتى في إعطائه فرصة أخرى أو صفحة جديدة، وبقدر ما هو مدمر أن لا نقبل هذه السياسة مع غيرنا بقدر ما تزيد تراجيدية الموقف وسلبيته عندما لا نقبل هذه السياسة مع أنفسنا أولاً!
من الأولى أن نسامح أنفسنا أولاً قبل أن نسامح الآخرين وأن نتعلم كيف نمارس سياسة الصفحة الجديدة مع أنفسنا أولاً قبل أن نمارسها مع غيرنا، فعدم مسامحتنا لأنفسنا يعني أن نغرق في بحر من اللوم وتأنيب الضمير اللانهائي والذي لن يحمسنا أو يحفزنا لتجنب الخطأ بقدر ما سيدفعنا للوقوع فيه من جديد لأننا لم نبدأ من جديد ولم نفتح صفحة جديدة لذلك هنالك مبدأ التوبة في ديننا الحنيف الذي يمكننا من فتح صفحة جديدة مع ربنا عز وجل، رب العباد ولإن كان خالقنا قد أعطانا الفرصة لنبدأ من جديد ونسامح أنفسنا، وهو خالقنا والذي يعلم حالنا وضعفنا البشري، فكيف عسانا أن لا نسامح أنفسنا؟ أو نسامح غيرنا؟
إن لم نقبل سياسة التسامح والغفران مع غيرنا فلن نقبلها مع أنفسنا وإن لم نقبلها مع أنفسنا فلن نقبلها مع غيرنا لأنها منهجية تفكير قبل أن تكون موقفاً نأخذه اليوم وننساه غداً، ولأن التسامح ليس بهذه البساطة وقبول الخطأ ليس برنامجاً نقوم بتحميله على حاسوبنا الشخصي في عدة دقائق لأن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.
عندما نفهم أنفسنا ونفهم قابليتنا نحن للوقوع في الخطأ ومغريات الخطأ أيضاً سنتمكن حينها من فهم المخطئين وعندما نخطئ نحن ونسامح أنفسنا ونؤمن أننا قادرون على البدء من جديد ونجرب حلاوة ذلك الشعور سنفهم أيضاً حلاوة ذلك الشعور لدى غيرنا إن سامحناهم وتغاضينا عن أخطائهم وبدأنا من جديد فمبدأ التسامح وسياسة الصفحة الجديدة مبدأ معدٍ وإن بدأته سرعان ما سينتشر في تفكيرك ومنهجيتك حتى تصبح أكثر تقبلاً وتسامحاً.
وفي الختام، إن التسامح والعفو عن ما مضى ومحاولة التغاضي عن الخطأ وعدم الإجهار به سواء كنّا نحن من قمنا به أو غيرنا قد فعله، وبالطبع فإن سياسة الصفحة الجديدة التي تشمل كل هذا هي الرقي بحد عينيه فليست الثياب الفاخرة والماركات العالمية التي تجعل منك راقياً وإنما تصرفاتك الراقية هي التي تجعلك راقياً أمام نفسك وأمام الآخرين.
أحدث التعليقات