فراشة محلقة سأكون

يا ليتني كنت فراشة محلقة في هذا الكون أطير أينما أردت وأحط أينما شئت من دون أي حدود أو قيود يفرضها علي هذا العالم الكبير أو الصغير أو هذا المجتمع برغم تحضره أو تخلفه فمن قال أن المجتمعات الحضارية لا قيود فيها؟ وأنا شخصيا قد مللت القيود التي تفرض عليّ  أن أتصرف بلباقة وبأسلوب معين في الحديث أو الطعام وأن أفكر بصورة معينة منطقية وواقعية، أو تفرض علي كأنثى أن أتكلم بطريقة ناعمة وأن يصبح مقاس خصري أصغر من مقاس خصر أختي البالغة من العمر 7 سنين لا غير!

أيها العالم قد مللت قيودك وأشهدك أنني لا أستطيع تحملها بعد اليوم ولا حتى دقيقة أو ثانية أخرى فما الفائدة من حياتنا إن عشناها مثلّجون ومقيدون ومسيرون وفاقدون للخيار؟ وحياة كهذه لا تعاش بل تمات وأقصد أن من يرضى بحياة كهذه ليس حياً وإنما ميت وموهم نفسه أنه حي لأنه – على حد زعمه – له حرية خيار أي وجبة سيأكلها اليوم أو أي ملابس سيرتديها غداً متغافلاً عن الخيارات الحقيقة التي لا يستطيع اتخاذها.

من أبرز الخيارات التي لا نستطيع اتخاذها هي خيارنا في أن نحلم! خيارنا في أن نعيش في عالم من صنع أحلامنا وآمالنا فنحن جميعنا مقيدون بوهم وكابوس يسمى بالواقعية! فسحقا وتباً للواقعية ولتذهب للجحيم! ( جميع الذين يشاهدون الأفلام المترجمة سيفهمون قصدي بالضبط! ) فهل يجب علينا أن نكون واقعيين؟ لماذا؟ فهل ترانا وقعنا تعهداً على أن نكون واقعيين عندما ولدنا؟ أم وقّعه آباؤنا عنا وحملنا نحن وزرهم؟ وما هذه الواقعية بالضبط؟ وإلى أين ستقودنا؟ إلى الهاوية بلا شك! فاستناداً للواقعيين، فإن حرارة هذه الأرض التي نعيش على سطحها في ارتفاع مستمر وعاجلاً أو آجلاً سنعيش جميعنا في جحيم على سطح هذه الأرض. و يا له من خبر سعيد وواقعي.

السؤال هنا هو ماذا استفدنا؟ فحرارة الأرض ترتفع وعدد سكان الأرض في ارتفاع أيضاً بينما مصادر المياه ستجف قريباً وسنموت جميعاً من العطش إن لم نمت احتراقاً. لكن مهلاً لن نموت من العطش فقط فبعضنا سيموت من جراء الحرب العالمية الثالثة والأخيرة والتي سيكون السبب خلف اندلاعها هو قلة مصادر المياه! والآن بعدما عرفنا كل هذه المعلومات الجميلة والسعيدة والمثيرة للاهتمام أصبحنا واقعيين ومثقفين ومكتئبين أيضاً!

قبل الثورة الصناعية كان هنالك تخوف من أن يفوق عدد سكان هذه الأرض المحاصيل الزراعية التي تنتجها، وهذا سيعرض العالم لمجاعات تؤدي لموت الكثيرين، لكن الثورة الصناعية لعبت دوراً في الإنتاج الفلاحي وساهمت في تجاوز هذه المشكلة أو هذا الخوف. وقبل اكتشاف النفط، من كان يتصور إيجاد مصدر للطاقة كالنفط؟ إذن إلى أين تقود الواقعية بالضبط؟

صدقوني إن المكان الوحيد الذي تقود له هو الجحيم! فالحياة دائماً مليئة بالمفاجآت وكما يقولون “الطبيعة دائماً ما تجد مسارها” وطريقها نحو الاستمرار، ونحن كبشر سنجد طرقاً جديدة وأساليب جديدة للتقدم والتأقلم والتطور. إلا أن الالتزام المفرط بالواقعية قد يقف عائقاً في وجه هذا التطور، خاصة عندما يؤمن المفكرون والمبدعون بهذه الواقعية السخيفة فيتوقعون أن الدنيا هالكة لامحالة وأننا جميعا هالكون، حينها ستغرق السفينة بمن فيها.

سيقول البعض أن الواقعية مفيدة فهي رؤية صادقة للواقع من دون نظارات الإيجابية و التفاؤل، والحقيقة أن هذا ليس بالضرورة صحيحاً فعندما يرى المرء نفسه اليوم فاشلاً لأن محاولته لفعل أمر ما لم تنجح ولهذا فهو سيفشل غداً، فسيفشل غداً ليس لأنه فاشل بالفعل بل لأنه رأى نفسه على أنه فاشل. لقد كان واقعياً حيث أنه قد استنتج مستقبلاً مبنياً على تجاربه السابقة. لكن لو أنه لم يرَ الفشل على أنه فشل من الأساس بل على أنه محاولة لم تفلح وأن النجاح ينتظره غداً، فسينجح وسيصل لهدفه وإن لم يكن غداً فسيكون بعد الغد. ولنفترض أنه لم ينجح لا غداً ولا بعد الغد ولا حتى ألف سنة من الآن، فمن تعتقدون هو الخاسر؟ الإنسان المتفائل الذي حاول مراراً وتكراراً وكله أمل؟ أم الإنسان الواقعي/ المتشائم الذي عجز قبل أن يبدأ؟

أولاً، رفقة الإنسان المتفائل تبعث الأمل والتفاؤل في من حوله فلهذا له أصدقاء كثيرون يلتمسون بعضاً من إشعاعه الإيجابي مقارنة بالإنسان “الواقعي” الذي يجد دائماً سببا للتشاؤم ولتبرير شعوره بالتعاسة. ثانياً، محاولات الإنسان المثابر والمتفائل المتكررة والمتعددة ستخلف خلفها تاريخاً في المجال الذي حاول العمل فيه ولهذا هو قد خلّف للأجيال التي خلفه معلومات عن أبواب مسدودة كي يتجنبوها وحتى وإن لم يصل هو لما يريده فسيساعد غيره على الوصول لما فيه خير الناس، بينما الإنسان الواقعي المتعنت سيعجز من قبل أن يحاول ويقنع غيره أنه ما من داعٍ لأن يحاول أيضا لذا لن يكون تأثيره مدمراً على نفسه فقط بل على من حوله أيضاً. ثالثاً، حتى وإن لم يصل المتفائل لمبتغاه فمن المؤكد أنه سيصل لنهاية أخرى مرضية أيضا لأن الله لا يخيب العاملين والمثابرين وفي نهاية المطاف سينالون بعضاً مما حلموا به مقارنة بالواقعي الذي لن يصل لهدفه أو لأي هدف آخر فالباب المغلق مغلق بالنسبة له ولن يحاول حتى فتحه أو الطرق عليه.

ثم إن اتبعنا الواقعية والمنطقية فهل سنؤمن بأي دين من الأساس؟ فأساس الأديان كلها الإيمان ومركزها القلب الذي لا يعتمد بالضرورة على أفكار منطقية وملموسة يمكن إثباتها فلماذا تؤمن إذن؟ لنكن واقعيين ولنصبح ملحدين حتى نرضي .. من بالضبط؟ صدقاً لا أعلم لماذا نحاول جاهدين أن نكون منطقيين وواقعيين؟ لماذا؟ إنني فعلاً أبحث عن جواب!

قال لي مرة أستاذ الفلسفة أن أغلب الناس تؤمن بوجود رب لأن ذلك يساعدها على الشعور بشعور جيد اتجاه نفسها واتجاه الآخرين، وهذا ليس بالضرورة صحيحاً أو منطقياً. فقلت له: أليس ذلك كافياً لنؤمن؟ أقصد لماذا نختار أن نعيش الحياة ملحدين ومكتئبين وواقعيين وبائسين على أن نعيشها موحدين وسعيدين ومتفائلين لحسن اعتقادنا بالله عز وجل؟ وإن كان ذلك يعني أننا لن نجد دائماً إجابات منطقية لمن يسألنا فهل سيهمنا ذلك فعلاً؟ هم سيتساءلون فيشكون فتعذبهم شكوكهم لكننا نوقن وحتى وإن لمن نجد الجواب أو لم يُستجب دعاؤنا فيقيننا وإيماننا سيجعلنا نوقن أن الإجابة موجودة للدعاء أو السؤال لكننا لسنا بالضرورة على دراية بها لذا لن تؤثر فينا هذه الواقعية أو المنطقية الهوجاء!

إن القيود الذهنية أشد تأثيرا من القيود الفعلية فالحديد وغيره من المواد المستخدمة لصنع القيود الفعلية من شأنها أن تصدى وتتلف لكن القيود الذهنية تتكاثر بفعل أفكارنا إن لم نوقفها عند حدها فلها بداية وليس لها نهاية ولا تصدى ولا تتلف حتى نقرر نحن ذلك!

إن من قصص الأنبياء المثيرة للاهتمام قصة موت سيدنا سليمان عليه السلام حيث أنه كان متكئاً على عصاه عندما مات وكان الجن يعملون بإمرته واستمروا في العمل بإمرته حتى بعدما مات، فأكلت دودة الأرض عصاه فوقع. حينها علم الجن أنه قد مات فتوقفوا عن العمل تحت إمرته. الجن كان يخشى سيدنا سليمان ويستمع لحكمه وأمره لذا لم يجرؤ على التأكد من أنه لايزال حياً يرزق وتابع عمله استناداً للحقيقة في عقله أو “الواقع” كما اعتقد أنه يراه على الرغم من أن الواقع قد تغير وتوفي سيدنا سليمان لكن الجن لايزال يعيش في الحدود الذهنية التي رسمها لنفسه على الرغم من قوته ومقدرته، أما دودة الأرض فلم تكن تخشى سيدنا سليمان أو واقعة تحت تأثير تلك الحدود الذهنية لذا انتبهت أنه واقف بلا حراك  ولن يضرها إن أكلت عصاه.

حتى الواقعيين الذين يزعمون أنهم واقعيون ليسوا بالضرورة بالواقعية التي يعتقدونها فالحياة مليئة بالاحتمالات والإنسان القوي والفعال هو الذي يهتم بتلك الاحتمالات ويركز على الإيجابية منها ويتجاهل السلبية والمحبطة وهذا ما يسمى بالتفاؤل والحرية، فالحرية حالة ذهنية قبل أن تكون حرية تصرف وأفعال والإنسان المقيد ذهنياً لن تكون أفعاله أو أقواله حرة لأن مصدرها من الأساس – ذهنه – مقيد!

في الختام، الواقعية والمنطقية هي من أشد القيود ألماً وتدميراً وعندما نتحرر منها سنتمكن من التحليق عاليا كتلك الفراشة الخفيفة المحلقة بين نسمات الهواء. تذكروا أنه لا يوجد أي سبب يدعونا للالتزام بالواقعية والمنطقية لذا إن قال لك أحدهم أنك غير واقعي أو منطقي فلتقل: أعلم وأنا فخور بذلك! ثم أعرض عن الجاهلين!

 

أحدث التعليقات