لن أكتب اليوم شيئاً

لقد تعب قلمي وبح صوته فعجزت عن الكتابة بعدما تعبت بدوري من النداءات والشعارات والكلمات والمثاليات، تعبت من الدفاع عن قضية ما أو محاولة الوصول لحل مشكلة ما، فما أكثر القضايا وما أصعب الحلول وكما يقولون “اللي فيا مكفيني” فلماذا قد أهتم بما يحدث معك أو معها أو معهم أجمعين، ولماذا يجب أن يهتم قلمي هو الآخر ويتحمل عبء السنين ليبح صوته ويصيبه العجز؟
لماذا نكتب؟ لماذا نفكر؟ لماذا نحاول الوصول لحلول وننادي بالشعارات والنداءات المختلفة؟ وكل جيل جديد يبدأ من جديد بشعارات ونداءات جديدة أو ربما منقحة ويبدأ اللعبة مرة أخرى ولماذا؟ لماذا يتعب نفسه ويرهقها في النداء؟ أليست الحياة قاسية بما فيه الكفاية لنزيدها قسوة بالاحتراق بالمثاليات؟
لا لن أرهق نفسي محاولة أن أنقذ شعباً أو أن أحمي وطناً أو أن أحي لغة فكلنا مصيرنا الفناء إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد فلماذا قد نهتم بهذا أو ذاك ولماذا نحاول التعبير عن مشاعر تحوك في ذاتنا الفانية و قيم باتت موضة قديمة تدعو للسخرية والاشمئزاز؟ ثم من نكون كي نقوم بذلك؟ أنا مجرد امرأة. أمَة الله البسيطة الساذجة الصغيرة، فلماذا أحمل في جعبتي كل هذه القضايا وكل هذه الاعتراضات وكل هذا الغضب. أم أنها لعنتنا نحن العرب أن نولد غاضبين وثائرين ومعترضين؟ هل نولد نحن خلافاً لغيرنا بغليان في عروق القلب وشرايينه يفتك بقلوبنا في النهاية؟

يروي نزار قباني في كتابه والكلمات تعرف الغضب (2) متحدثاً عن الجرّاح الأمريكي الذي استبدل ثلاثة من شرايين نزار سنة 1982. وقبل أن يشرع الجرّاح في العملية، سأل معاونيه عن مهنة نزار. فقالو له شاعر عربي. فأجابهم: ” إنني لم أفاجأ .. I am not surprised” فيقول بعدها نزار قباني معقباً: “أنا قادم من الوطن العربي، إذاً فأنا معطوب القلب. هذه القاعدة أصبحت قاعدة عامة تعرفها كل مستشفيات العالم فما أن يدخل العربي إلى قسم الاستعلامات في أي مستشفى أوروبي أو أمريكي حتى يحولوه- بعد تقليب جواز سفره- إلى قسم أمراض القلب … فقد علمتهم خبرتهم أن من يحمل جوازاً عربياً لا بد أن يحمل علة في قلبه وهذا بالضبط ما جرى معي فجنسيتي العربية رشحتني للفور لتغيير نصف شرايين قلبي ودخول ( نادي أصحاب القلوب المذبوحة ).” ( ص. 86-87)
إذن سأتبرأ من أصلي وسأنكر شهادة ميلادي، ومكان ميلادي، وأبحث عن وطن آخر أقل ثورة وأقل غضباً حتى أضمن سلامة قلبي وطول عمري. ربما سأنتقل للعيش في القطب الجليدي حتى يثلج بردها ناري وأجرب العيش ولو لمرة في العمر دون حرقة عربية لا تقوى عليها الأدوية الغربية، لكن وإن وسع الجليد لناري فهل ستتسع القلوب لحبي؟ هل من مقدور قلب بارد مثلج أن يستوعب هوى شرقية وغرامها؟ وكيف سيعيش ذاك الغرام بلا كلمات فقلمي متعب ومرهق ولا حب عربي يخلد بلا كلمات ففي الحب نحن كريمون جداً وطيبون وطاهرون جداً فهل من رجل على أرض الجليد يفهم هذا؟ هل بمقدور رجل لا ينطق حرف الضاد إدراك هذا؟ أم أننا جميعا ضحايا الترجمة وتائهون فيها، وكيف عساها المشاعر تترجم وكيف عسانا للهيام نجد مرادفاً؟
أهو حبنا الوحيد الضائع في الترجمة أم أننا أيضاً ضحايا للترجمة والنقل من ذاك إلى هذا ومن هذا إلى ذاك و يا ليتنا نكتفي و يا ليتنا قلنا هذه حدودنا فقفوا عندها ولا تدخلوا بيوتنا بأحذيتكم، ولا تدخلوا مساجدنا بعريكم، ولا تدخلوا قلوبنا أبداً، أبداً ما حينا. آه يا ليتنا، لكننا لم نفعل فوقعنا جميعا ضحايا الترجمة، على الرغم من أن عواطفنا غير قابلة للترجمة ولا تتوافر إلا بنسخة واحدة وبلغة واحدة وهي العربية وكيف عسانا نحب ولا نقول “أحبك” وكيف عسانا نشتاق ولا نقول ” أشتاق إليك” وكيف عسانا نقول ما أطول الليالي في بعدك دون أن نقول “ما أقسى السهاد وعيني قد حرمت النوم شوقاً لك”؟
لكننا ساذجون وطيبون وقلوبنا أوسع من ديارنا لذا نترجم، ونترجم، ونترجم حتى ما عدنا نعلم من أين نحن ومن أين هم وما هي لغتهم وما هي لغتنا وأيهم بيتنا وأيهم بيتهم، ضعنا في المنتصف بينهم وبيننا فأي عروبة سأهرب منها ونحن أنصاف عرب من الأساس؟ وأي نيران سأطفئها ونحن مثلجون وباردون وغارقون في سبات شتوي وربيعي وخريفي وصيفي فسباتنا كريم كقلوبنا الكريمة!
كنت أتمنى في هذه اللحظة أن أكتب “إذن” و أصل لرأس المشكلة وأقترح حلاً لها لكن ما هي المشكلة من الأساس؟ وهل هنالك من حل؟ لكن، مهلاً ألم أقل أنني لن أكتب شيئاً اليوم؟ ولن أتحدث عن أي قضية أو أي مثاليات؟ لا أعلم كيف وصلت هنا وكيف عاد صوت قلمي وحبره فأخذ يخط الحروف والكلمات ربما لأنه قلم شرقية لا يهوى السكوت.

أحدث التعليقات