الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (32): «في قبوي» لفيودور دوستويفسكي
أقف اليوم في محطتي الثانية والثلاثين: روسيا؛ وليس من أي مكان في روسيا، وإنما من قبو إنسان القرن التاسع عشر تحديداً. هذا القبو الداخلي، والسجن الفكري الذي يحتجز فيه المثقفون المعاصرين أنفسهم بعيداً عن الحياة والطبيعة كما وصفه فيودور دوستويفسكي في رواية «في قبوي» التي نشرت طبعتها الثانية دار التنوير للطباعة والنشر في سنة 2020 في بيروت، ونقلها إلى العربية سامي الدروبي.
لست أعلم لماذا أكتب عن هذه الفئة بصيغة الغائب، وكان من باب أولى أن أتحدث عنها بصيغة المتكلم وجمعه. فأنا لا أزكي نفسي من هذا الإثم الثقافي الرفيع. بل وربّما كنتُ رائدة في هذا الإثم المنمق. إثم العيش في القبو بعيداً عن الحياة الحقيقية والواقعية، بل ومحاربتها ومحاربة كل ما يأتينا منها ولكأنه رجس من صنع الشيطان.
“إننا اليوم لا نعرف حتى أين هي الحياة، وما هي، وما صفتها. فيكفي أن نُترك وشأننا، يكفي أن تُسحب الكتب من بين أيدينا، حتى نرتبك فوراً، وحتى تختلط علينا جميع الأمور، فإذا نحن لا ندري أين نسير، وكيف نتجه، وماذا يجب أن نحب وأن نكره، وماذا يجب أن نحترم وأن نحتقر. حتى إنه ليشق علينا أن نكون بشراً، بشراً يملكون أجساداً هي لهم حقاً، أجساداً تجري فيها دماء. إننا نخجل أن نكون كذلك، ونعد هذا عاراً، ونحلم في أن نصبح نوعاً من كائنات مجردة، عامة [في ترجمات أخرى: بشراً أسوياء من الناحية النظرية]. نحن مخلوقات “ولدت ميتة”، ثم إننا قد أصبحنا منذ زمن طويل لا نُولد من آباء أحياء، وهذا يرضينا ويعجبنا كثيراً. إنه يلقي في نفوسنا هوى. وقريباً سنجد السبيل إلى أن نُولد رأساً من فكرة.” (ص. 191)
هذا السعي المستميت إلى أن نتحول إلى “كائنات مجردة، عامة” و “بشراً أسوياء من الناحية النظرية” هو الوصف الأدق والأمثل للعيش في القبو. في أن يخلق الإنسان فكرة، ثم يعيش فيها كقبو مظلم بائس ويائس. أن يُسقط عن البشرية تفاوتاتها واختلافاتها الطبقية، والجنسية، والمادية، والثقافية، ويفرض عليها أن تعيش وفقاً لذلك عبر سن القوانين والتشريعات ومخاطبة العقل “الواعي والعاقل”، ثم إذا به ينصدم عندما لا تستكين البشرية لهذه المثالية المفرطة. غير أن الصدمة هي ليست كل ما سيصيبه، فسريعاً ما سيصيبه التشاؤم والاكتئاب وفقدان الأمل في هذه البشرية التعيسة التي كان أكبر ذنوبها عدم الانصياع لأحكامه وفكره متزمت المثالية.
ويرى الناشر، وفقاً لما ورد في مقدمة الرواية، أن النزعة الفردية الجامحة للشخصية الرئيسية والراوي “تذكرنا بكيركجارد ونيتشه، فنحن هنا نتصل بتيار بأسره من الفكر الأوروبي التشاؤمي الذي عرفه القرن التاسع عشر. على أن البطل حين ينبري بحماسة وحرارة لمهاجمة نظريات المنفعة والوضعية والنظريات المادية التي راجت في زمانه رواجاً كبيراً، إنما ينطق بلسان دوستويفسكي نفسه.” (ص. 7)
وتبعاً، فإن أعظم ميزات هذا العمل الأدبي العظيم تكمن في توظيف الأساليب الأدبية والنموذج الأدبي (الرواية) في عرض مسائل فلسفية ووجودية، فعوضاً عن كتابة مقال يهجي المثقفين وانعزالهم وانفصامهم عن العالم الواقعي، آثر دوستويفسكي أن يخلق شخصية روائية ومتخيلة، وأن يلبسها كل صفات وأفكار المثقف الأوربي في القرن التاسع عشر، وهو ما يصرح به في أول صفحات الرواية عندما يعرّفها على أنها مذكرات أو ذكريات “وصاحبها والذكريات نفسها من صنع الخيال. على أن بشراً كخالق هذه الصفات يمكن أن يوجدوا بيننا، بسبب الظروف التي تحكم تكون مجتمعنا. لقد أردت أن أظهر الناس، بقوة تفوق ما ألفنا من القوة، على طبع من الطباع التي تعيش في زمننا هذا. هو واحد من ممثلي الجيل الذي يبقى بعد زواله هو نفسه. فأما الجزء الذي عنوانه «القبو» ففيه يقدم الشخص نفسه، ويفصح عن اقتناعاته، ويبدو أنه يوضح أسباب مجيئه، أسباب ولادته الإجبارية في مجتمعنا. وأما الجزء الثاني فهو «الذكريات» الحقيقية لبعض أحداث حياة هذا الرجل.” (ص. 15)
سواء في «القبو» أو «الذكريات»، نجح دوستويفسكي في تضمين نقده بمهارة أدبية راقية تدفع القارئ المثقف إلى التساؤل عن صحة هذا النقد بدون أن تثير حفيظته، أو تجرح غروره. فإذا ما كان النقد فضيعاً وسيئاً، يمكن للقارئ وببساطة أن ينكره على نفسه، وينسبه لرجل العالم السفلي، وبطل الرواية اللابطل.
تتبنى الرواية صيغة المخاطب المباشرة ولكأن رجل العالم السفلي يخطب بالناس (من قبيل “أيها السادة” و “إليكم الموضوع”) مما قد يوهم القارئ بعظمة شأنه، إلا أنه سرعان ما يعود إلى سردية اللابطل عبر السخرية واستحقار الذات والآخرين (من قبيل: “أنا كثير الشك، سريع التأذي، كأحدب، أو كقزم” و “عجوز تبلغ من الرداءة حد الخبث والشر، وهي فوق ذلك كريهة الرائحة دائماً”).
الحكمة من الكتاب:
قضى رجل العالم السفلي طفولته “يتيماً يشعر بالألم والعذاب منذ ذلك الحين، طفلاً حالماً صموتاً يلقي على كل ما حوله نظرات متوحشة.” (ص. 103) هذا الألم المتراكم والمكبوت وغير المعالج، أدى إلى انفصاله عما حوله واسترساله في “الأحلام والغرق في التهاويل، بينما كانوا، هم [من حوله]، يملكون الإحساس بالواقع.” (ص. 104)
وبينما فاده هذا الانفصال، والذي دعمه ذكائه ومنطقه، في تحصيل أفضل العلامات والتفوق عليهم لكسب احترامهم وتقديرهم، لم يفده كثيراً في شفاء جروح قلبه وتطهيره، وهو ما يظهر جلياً في علاقته بليزا. المرأة التي أحبّها، وتمنى لو تهرب إليه حتى يتزوجها ويحميها من حياة الليل، ولكن ما أن تأتيه حتى يعاملها أسوأ معاملة، على الرغم من حبها له، وتفهمها لوجعه وألمه.
مع كل ألم غير محترم وغير معالج شعر به منذ طفولته، كان يبتعد خطوة عن الواقع، ويتماهى في أفكاره وتهاويله. فعوضاً من أن يعطي قلبه حقه في الوجع، وفي البكاء والانهيار، كان رجل العالم السفلي يخير عقله على قلبه كاتماً وجعه وألمه ومتكبراً عليه إلى أن وصل لمرحلة لم يعد فيها قلبه صالحاً، ولم يعد قادراً على الحب، وهو ما يعبر عنه صراحة في صفحات الرواية الأخيرة حين يقول: “إنه ليستحيل علي أن أحب.” (ص. 185)
وتبعاً، وحتى نتمكن من عيش الحياة الطبيعية والحقيقية كأناس أسوياء، علينا أن نحترم آلمنا ونعيشها لمنتهاها، وأن نبتعد عن محاولة حل “جميع مسائل الحياة بإشكالات منطقية”، والسعي لأن تكون قلوبنا صافية وطاهرة حتى يصبح وعينا بصيراً وكاملاً. (ص. 64)
اقتباسات من الكتاب:
“هل في وسع إنسان يعرف نفسه، أن يعتبر نفسه ولو قليلاً؟” (ص. 33)
“هل في وسع إنسان تعلق باكتشاف نوع من اللذة في الشعور بمذلة نفسه، هل في وسع هذا الإنسان حقاً أن يظل يحس باحترام نفسه؟” (ص. 34)
“عصرنا هذا … جوهره السلبية إلى أقصى حد.” (ًص. 39)
“إذا لم تكن المدنية قد جعلت الإنسان أشد تعطشاً إلى الدم، فمما لا شك فيه أنها جعلت تعطشه إلى الدم أخبث وأجبن.” (ص. 44)
“من أين استمد حكماؤنا هذا الرأي القائل بأن الإنسان في حاجة إلى تلك الإرادة السوية الفاضلة التي لا أدري ما هي؟ لماذا تخيلوا أن الإنسان يصبو إلى إرادة عاقلة نافعة. وإن الإنسان لا يتوق إلا إلى إرادة (مستقلة)، مهما يكن ثمنها ومهما تكن عواقبها. ولكن لا يدري إلا الشيطان ما قيمة تلك الإرادة.” (ص. 47)
“إن الطبيعة، في هذه اللحظة، وفي هذا الظرف بعينه، لا تهتم بنا أي اهتمام، ولا تكترث بنا البتة، وأن علينا إذن أن نقبلها كما هي لا كما يزينها لنا خيالنا.” (ص. 50)
“الناس في الواقع لا يزيدون على أن يقتتلوا. اقتتلوا أمس، ويقتتلون اليوم، وسيقتتلون غداً. حقاً إن في هذا إسرافاً في التشابه والرتابة، اعترفوا ذلك.” (ص. 52)
“أليس جائزاً أن يكون الألم مفيداً للإنسان كفائدة الدعة سواء بسواء؟ إن الإنسان يأخذ في التوله بالألم أحياناً. ذلك واقع. ولا حاجة بنا البتة إلى أن نستشير التاريخ العام في هذا الأمر، وأن نستفته فيه.” (ص. 58)
“ما لم يكن القلب صافياً طاهراً فلا يمكن أن يكون الوعي بصيراً ولا كاملاً!” (ص. 64)
“إذا أحب الإنسان فإنه يستطيع أن يستغني حتى عن السعادة. الحياة جميلة حتى في الشقاء والعناء.” (ص. 140)
“حيثما يغيب الحب يغيب العقل أيضاً.” (ص. 144-145)
“الإنسان لا ينتبه إلا إلى ألمه، أما سعادته فلا يتوقف عندها ولا يلتفت إليها. ولو فكر الإنسان في سعادته، لوجد أن لكل مرحلة من مراحل حياته حظاً منها.” (ص. 145)
“الحب سر إلهي يجب أن يظل مخبأ عن أعين جميع الناس، مهما يحدث من أمر، ومهما يقع من خلاف.” (ص. 146)
“على المرء، قبل أن يتهم الآخرين، أن يتعلم هو نفسه الحياة!” (ص. 147)
“أي الأمرين أفضل: أسعادة مبتذلة أم آلام رفيعة؟” (ص. 189)
الختام:
تعلمت الكثير من رجل العالم السفلي، ولعلّ أهم ما تعلمته هو ألا أتحول إلى امرأة العالم السفلي. ولا أنكر أنني كدت أن أتحول إلى هذه المرأة، بل إنني ربما فعلت، إلا أن الحياة نجحت في جذبي إليها مجدداً. الحياة متمثلة في الولادة والتربية. الحياة متمثلة في ابني العزيز. في بساطته وعفويته. في طفولته واندفاعه إلى اكتشاف الحياة والتساؤل عنها.
شكراً دوستويفسكي. شكراً على هذا العمل العظيم العاكف على تذكيرنا بأننا “بشرٌ يملكون أجساداً هي لهم حق، أجساد تجري فيها دماء.” (ص. 191) أجسادٌ مادية تعيش هذه الحياة الواقعية بعيداً عن سجوننا الفكرية، وخارج “القبو” بالتأكيد!
أحدث التعليقات