الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (37): «التأهب للرحيل: الطريقة السويدية في تحرير الأقرباء في فوضى حياتك بعد الموت» لمارغريتا ماغنوسون
أقف اليوم في محطتي السابعة والثلاثين: السويد، حيث تسود الثقافة العملية والبساطة في جميع أوجه الحياة حتى حين الحديث عن الموت. بقدر ما قد تبدو لك هذه العبارة صادمة، سيصدمك كتاب «التأهب للرحيل: الطريقة السويدية في تحرير الأقرباء في فوضى حياتك بعد الموت» لمارغريتا ماغنوسون، الذي نشرت طبعته الأولى دار روايات في عام 2022 في الشارقة، ونقلتها عن الإنجليزية نداء فاروق غانم.
من عمق الثقافة السويدية، تستهل الكاتبة بتعريف مصطلح (dostadning)، والذي يمكن ترجمته حرفياً إلى “التنظيف للموت”. أمّا اصطلاحاً، فيعني “التأهب للرحيل” و”التخلص من الأشياء غير الضرورية، وجعل منزلك جميلاً ومنظماً، حين تشعر أنك على وشك الرحيل من كوكبنا.” (ص. 17)
بحكم بلوغ الكاتبة المرحلة العمرية بين الثمانين والمئة وتجاربها العديدة في التنقل بين منازل عدة داخل وطنها وخارجه، وانطلاقها من إيمانها العميق بضرورة التأهب للرحيل، قررت أن تنقل خبرتها لقرائها.
تقول في هذا السياق: “إني أؤمن أن فلسفة التأهب للرحيل ضرورية لنا ويجب نشرها بين الجميع. لا يهم ما إذا كان والداك أو أصدقاؤك أو عائلتك من يتقدمون بالسن، أو إذا كان الوقت قد حان لتبدأ بنفسك في التأهب للرحيل.” (ص. 23)
بنبرة مباشرة وبسيطة، خطّت مارغريتا ماغنوسون خطوات عملية وفعالة لمساعدة القراء على التنظيف قبل موتهم، وترك “مقامهم نظيفاً” كما نقول بالدارجة التونسية. ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، هو انتشار ثقافة التأهب للرحيل في العادات والتقاليد المختلفة. ففي تونس، على سبيل المثال، كان من السائد الاستعداد للموت. فوالدة جدتي اشترت كفنها وجهزته قبل وفاتها، والحال كذلك في الثقافة الإماراتية أيضاً. فالحقيقة الوحيدة الثابتة دائماً هي “أننا سنموت يوماً ما.” (ص. 15)
ولكن أغلبنا اليوم يرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، فعقول “بعض الأشخاص لا تستطيع تقبل كل ما يحيط بالموت. هؤلاء الأشخاص هم من يخلقون وراءهم الفوضى، فهل يحسب هؤلاء أنهم خالدون؟” (ص. 18)
تتساءل الكاتبة عن الخلود دون الخوض في الماورائيات، فهي لا تؤمن بما بعد الموت، وتصرح بذلك قائلة: “أنا لا أؤمن حقاً بالحياة الأخرى.” (ص. 120) ينعكس إيمانها، أو عدمه إن صح التعبير، على محتوى الكتاب الذي يتخذ منهجية مادية بحتة في التعامل مع الموت بدون التطرق إلى أي جوانب روحانية.
غير أن التفكير في الآخرين قبل الموت يعتبر عملاً بطولياً وشريفاً، فالتحضير التفصيلي والعملي قبل الرحيل يحمل في جوهره مواساةً للأحباء والأقرباء، وهو ما شهدته الكاتبة في أثناء تأهب حماتها للموت، وتعبر عن ذلك في قولها: “في السنوات الأخيرة من حياتها، وفي كل مرة زرناها، أو عند مجيئها عندنا، كانت تهدينا أطباقاً صينية جميلة، أو قطعة قماش مائدة جميلة، أو مناديل ذات ألوان جميلة لاصطحابها إلى المنزل، وتحملنا إياها في أيدينا قسراً كلما غادرنا. استمر ذلك لسنوات عديدة قبل انتقالها الأخير إلى الشقة الصغيرة التي ستكون منزلها الأخير. تلك كانت طريقتها في التأهب للرحيل: بمرور الوقت كانت قد وهبت الكثير بتمهل وبلا إلحاح وبطريقة هادئة ولطيفة، وفي الوقت نفسه أضافت أشياء جميلة ومفيدة لمنازل أصدقائها وأحبائها.” (ص. 46)
إن ما يبدو كأغراض وممتلكات مادية، يحمل في جوهره معاني أعمق وأكبر. فالأدوات المنزلية قد شهدت العديد من اللحظات العائلية، والمقتنيات الشخصية قد يمتد معناها إلى ما وراء وظيفتها الفعلية، لذا فإن منح هذه الأدوات والمقتنيات إلى الأجيال التالية ما هو إلى تمرير لهذه اللحظات والتجارب، حتى يخفف عنهم ذلك وحشة الرحيل. فعلى سبيل المثال، تقترح مارغريتا ماغنوسون ألا يكتفي المتأهب للرحيل بإهداء مكتب قديم إلى شخص شاب، وتنصحه بإخباره بقصة المكتب، و”نوع الرسائل التي كتبت عليه، وعن الوثائق التي تم توقيعها عليه، وعن أنواع الأفكار التي استمع إليها حول هذا المكتب. ستكب القصة وتحيا مع انتقالها من شخص شاب إلى آخر أصغر، ويصبح المكتب العادي غير عادي عبر الزمن.” (ص. 143)
الحكمة من الكتاب:
تمنح مارغريتا ماغنوسون القارئ أفضل هدية، ألا وهي النظرة الموضوعية للموت.
نظرة تتجاوز العاطفة المفرطة والخوف من المجهول إلى تنظيم الشؤون الشخصية والتصالح مع الواقع كما هو، وقبول الحياة كما هي، والتحضير للموت تبعاً على أنه مرحلة من مراحل هذه الحياة، ومعطى ليس بوسعنا تغييره أو التمرد عليه.
اقتباسات من الكتاب:
“يبدو أن معظم من يأخذ على عاتقه مسألة الترتيب للموت هن النساء، لأنهم يملن إلى العيش فترة أطول من أزواجهن وشركائهن.” (ص. 23)
“في حالة الترتيب للموت، لا يعد عدم التنظيم استغلالاً جيداً لوقت أحبائك. لن يكونوا أشخاصاً سعداء عندما يتعين عليهم القيام بالتنظيم من أجلك، لذا، اعمل على الحفاظ على الأشياء منظمة طيلة حياتك وعندها سيكون الترتيب للموت أسهل للجميل.” (ص. 50)
“عندما كنت صغيرة، لم يكن من حسن الخلق التحدث عما يجول في بالك مع شخص متقدم في السن بمن فيهم والديك. كان مستهجناً أن يقوم الشباب بمناقشة كبار السن في موضوعات لم يطلبوا رأيهم فيها. أن تكون صريحاً وصادقاً كان يعد فعلاً خالياً من التهذيب. هذا هو السبب في أن الكبار في ذلك الوقت – أي جيل أبوي وآبائهم من قبلهم – لم يكن لديهم أدنى فكرة عن رأي الشباب في أي شيء. الآباء والأبناء لم يفهموا بعضهم بعضاً كما يجب. وكان من الحماقة والمحزن حقاً، تفويت الفرصة للأجيال المختلفة لمعرفة بعضهم بعضاً بشكل أفضل.” (ص. 57)
“من المهم تسخير الوقت لصنع اللحظات السعيدة التي ستصبح فيما بعد ذكريات جيدة.” (ص. 61)
“إنه لأمر مدهش، وغريب قليلاً، كم الأشياء التي نكدسها طوال حياتنا.” (ص. 77)
“تحلق طيور النورس في رحلة تدرك فيها كيف تبحث عن أماكن للراحة؛ لكن القلب الإنساني المرتبط بالحياة على الأرض، لا يمكن أبداً أن يختبر سلاماً حقيقياً بينما نحن على قيد الحياة.” (ص.93- 94)
“إن تدريب نفسك على الاستمتاع بالنظر إلى الأشياء وحدها بدلاً من شرائها، يُعد أمراً مرضياً للغاية كما أنه عادة جيدة. لا يمكنك أن تأخذ كل شيء معك، لذا ربما يكون من الأفضل عدم امتلاك كل شيء.” (ص. 95)
“هل لاحظت أن الكثير من الناس يجدون متعة أكبر في تنظيم أشيائهم أكثر من استخدامها فعلياً؟” (ص. 101)
“إذا كنت لا تحب شيئاً، فببساطة تخلص منه.” (ص. 104)
“في بعض العائلات والعلاقات الحميمة يمكن أن يصبح التكديس مشكلة خطيرة.” (ص. 107)
“كان يتوجب علي أن أتعلم درساً صعباً للغاية، وهو أن الحياة كلما مضت قدماً، تعلمت منها أكثر وأكثر.” (ص. 117)
“من الجيد أن الإنترنت سهل التواصل، لكني أعتقد أنه من المحزن أن الكثير من الكلمات والأفكار المكتوبة من الممكن أن تتبخر في الهواء فجأة.” (ص. 138)
“كوكبنا صغير جداً، يسبح في كون لا ينتهي أبداً. قد يهلك تحت وطأة النزعة الاستهلاكية التي لدينا وأخشى في نهاية المطاف أن يتحقق ذلك فعلاً.” (ص. 142)
“إذا كنت تريد أن ترى الصورة الكاملة لقصتك وحياتك، فيجب أن تُظهر حتى أقل الأشياء المسلية.” (ص. 145)
“لا يمكنني أن أفهم لماذا يجد معظم الناس الحديث عن الموت صعباً. إنه الأمر الوحيد الذي لا مفر منه على الإطلاق، الأمر الذي سنمر به جميعاً في أيامنا القادمة.” (ص. 146)
الختام:
كانت رحلتي مع كتاب «التأهب للرحيل: الطريقة السويدية في تحرير الأقرباء في فوضى حياتك بعد الموت» رحلة منعشة بالتأكيد، على الرغم من أن موضوعه هو الموت.
لطالما كان الموت من المواضيع السائدة في السياق الديني، ومرتبطاً بعذاب القبر، والسراط والجنة والنار، ومحاطاً بهالة مهولة من الخوف والتهويل. أما السياق الآخر، الذي ينكر وجود الروح والحياة الأخرى، فغالباً ما يتفادى الحديث في مثل هذه المواضيع، ولكأن المتحدثين فيه يحسبون أنهم خالدون، كما استنكرت عليهم الكاتبة.
وبين السياقين، يأتي هذا الكتاب لا منتمي إلى هذا، أو إلى ذاك. ومنطلقاً من صلب الواقع وجوهر الحقيقة، والطرق المثلى للتعامل مع الموت بعملية وفعالية، أو بالأصح، للتعامل معه على الطريقة السويدية!
أحدث التعليقات