الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (40): «لا تقولي أنكِ خائفة» لجوزبه كاتوتسيلا
أقف اليوم في محطتي الأربعين: إيطاليا، بلد الكاتب جوزبه كاتوتسيلا الذي سرد سيرة العداءة الصومالية سامية يوسف عمر في رواية «لا تقولي أنكِ خائفة». نشرت منشورات المتوسط الطبعة الأولى من الرواية في عام 2016 في ميلانو، ونقلها إلى العربية معاوية عبد المجيد.
هرباً من الحروب القبلية وعنف التنظيمات الإرهابية، ركضت سامية يوسف في 262 صفحة بحثاً عن بلاد تسعها هي وأحلامها سوياً دون التضحية بأحدهما مقابل الآخر. ركضت منذ طفولتها بأحذية بالية بالكاد تستطيع دفع ثمنها. ركضت رغماً عن القيود الخانقة التي فرضتها جماعة الشباب على النساء. ركضت بحثاً عن الدعم والتدريب ونظام غذائي كافٍ وملعب حقيقي. ركضت، وركضت حتى وقعت في قعر الهاوية. هاوية الهجرة غير الشرعية، تلك التي ابتلعت 441 شخصاً إلى أعماق البحر المتوسط في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023. (كيربي وديفيز، 2023)
إنها رواية عن الهجرة غير النظامية إلى إيطاليا أو “الرحلة”، كما أوردها الكاتب على لسان سامية: “الرحلة هي إحدى الأشياء التي تراود أذهاننا جميعاً منذ ولادتنا. كل منا لديه أحد أصدقائه أو أقاربه، خاض تلك التجربة، أو يعرفون شخصاً قام بذلك. إنها تشبه المخلوق الأسطوري الذي يمكن أن يقودك إلى النجاة، أو إلى الموت، بالسهولة نفسها. لا أحد يعرف كم من الوقت من الممكن أن تدوم. إذا كنت محظوظاً، شهران. أما إذا كنت سيء الحظ، فربما عام، أو عامان. منذ نعومة أظفارنا، موضع السفر من أكثر الموضوعات التي نفضل الحديث عنها. الجميع لديهم قصص لأقربائهم ممن وصلوا إلى وجهاتهم المختلفة، سواء كانت إيطاليا، أو ألمانيا، أو السويد، أو إنجلترا. طوابير من الشاحنات، تضم أناساً أفنتهم حرارة الشمس، وقتلهم فرن الصحراء. تجار البشر والسجون الليبية الرهيبة. ثم أعداد المسافرين الذين يموتون في أصعب الطرق: عبور البحر المتوسط من ليبيا إلى إيطاليا. هناك من يقول إنهم بالآلاف، وهناك من يقول إنهم بمئات الآلاف. تعودنا منذ ولادتنا على سماع هذه القصص وهذه الأرقام التي لا أساس لها، لأن من يصل يقول دائماً الشيء نفسه عندما يتصل بعائلته في بلده: لا أستطيع أن أصف كيف كانت “الرحلة”. كانت أمراً فظيعاً، هذا مؤكد، ولكني لا أستطيع أن أصفها بالكلمات. هذا هو السبب الذي يجعل الأمر يكتنفه دائماً الغموض المطلق. لغز ضروري لبعض الناس لبلوغ النجاة.” (ص. 138)
أتقن الكاتب فن التلاعب بالقارئ، فأخّر ذكر موضوع الرواية الرئيسي حتى منتصفها، حتى يتأكد من أن القارئ قد استثمر ما يكفي من الجهد والمشقة كي ينهيها رغماً عن موضوعها الشائك والأليم الذي قد لا يجد فيه أغلب القراء الإيطاليين مرادهم، وخاصة بعد الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين غير الشرعيين في سنة 2022 نظراً لتدهور الظروف الاقتصادية على المستوى العالمي تبعاً لآثار جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا.
أما الجزء الأول منها، فكان هوليوودياً بامتياز، كتللك البدايات التي، رغم فقرها المدقع وكل المآسي والحروب التي تشهدها، يبقى فيها بصيص حب وكثيرٌ من الأمل في أن القادم سيكون أجمل، فلا عجب من تكرار عبارة “لا تخافي” في أكثر من موضع. في الأولى سألت سامية والدها: “ألا تخاف من الحرب، يا أبتِ؟” فأجابها: “لا تقولي أنكِ خائفة، أبداً يا صغيرتي سامية، أبداً. وإلا تعاظم ما تخافينه حتى هزمك.” (ص. 37) وفي الثانية كتبت سامية لأختها هودن: “لا تقولي أبداً أنك خائفة، يا أختاه. إن لم تفعلي ذلك فإن الأشياء التي تتمنينها لن تتحقق.” (ص. 140)
بينما يصف الجزء الثاني “الرحلة” بالتفاصيل الحزينة والمؤلمة، بالأمل والألم وهما ممتزجان سوياً في صحراء العجز وعلى شواطئ اليأس. تتعمق سامية في وصف عجز الصحراء في قولها: “لم أكن قد كرهت شيئاً في حياتي أكثر من الصحراء. لو أمضيت شهوراً في الصحراء، فإنها تدخل في دمائك، وتخلط بلعابك، ولا تعود قادراً على التخلص منها، تحمل معك الغبار، في كل مكان، حتى وإن اغتسلت بالمياه الجارية، تبقى ملازمة لك دائماً. ولكن الشيء الأسوأ هو أن الصحراء تمحو روحك، وتزيل أفكارك. يجب أن تغمض عينيك، وتتخيل أشياء غير موجودة. شهور وشهور وسط مساحات شاسعة من الرمال. في كل مكان تلتفت إليه، وفي أي ساعة من النهار، أو الليل. لا شيء سوى الرمال. وهذا ما يصيبك بالجنون.” (ص. 239)
وبين الأحلام الشاهقة والمأساة المريرة، وقفتُ بعد الانتهاء من قراءة الرواية أمام مفترق طرق بين الامتنان والامتعاض. امتنان للكاتب على إيصاله قصة سامية يوسف عمر وتعاطفه مع ضحايا الهجرة غير الشرعية، وامتعاض من حديثه بالنيابة عنها وكأنه بذلك يؤكد على ممارسات المستشرقين ممن يتحدثون بالنيابة عن “الشرق” الذي يدرسونه، ولسان حالهم يقول: “نحن نعرفكم أكثر من معرفتكم لأنفسكم.” هل كانت الكتابة بلسان سامية هي الحل الوحيد أمام الكاتب حتى يعبر عن المأساة أم كانت أمامه فرص أخرى دون ادعاء معرفته بالتفاصيل اليومية للألم؟
أستوقفني هذا السؤال لأسابيع انقطعت فيها عن الكتابة والحيرة تتملكني، والآن قررت أن أمتن. أن أمتن للكاتب على إيصاله لقصة سامية، بالرغم من استعارته لسانها وصوتها، فهي استعارة مبررة وإنسانية. استعارة ساهمت في رفع الوعي عن هذا الموضوع المؤلم والشائك.
الحكمة من الكتاب:
تركض دائماً نحو حلمها ولا تيأس أبداً، هكذا كتب جوزبه كاتوتسيلا سيرة العداءة الصومالية سامية يوسف عمر مشجعاً القارئ أينما كان على الركض نحو حلمه مهما صعبت وتعقدت الظروف المحيطة. لنركض نحو الأمل إذن، متمردين على المأساة مهما تعمقت وصعبت.
اقتباسات من الكتاب:
“تظاهرنا بأننا أطفال عاديّون، أطفال لا يفكرون في شيء، ولا يرغبون سوى في اللعب.” (ص. 14)
“لم تكن الحرب تخيفنا، بل كانت بمثابة شقيقتنا الكبرى.” (ص. 23)
“الشكوى تزيدنا تعاسة في القيام بما لا نحب.” (ص. 37)
“أهديك كل ما أملك من تفاؤل.” (ص. 40)
“الحرب ثمرة كراهية، وإنها تضع غشاوة على أعين الناس، وتجعلهم متعطشين للدماء فقط.” (ص. 45)
“كانت السنوات أيضاً تختلف في طولها، فالعنف يزيد الوقت طولاً.” (ص. 48)
“افسح المجال للموسيقى، كي تصل، فوجود الموسيقى كاف.” (ص. 70)
“إن القلب هو المحرك، والأنفاس هي الوقود، والعضلات هي المكابس، لذا ينبغي أن تكون العضلات قوية ومرنة ونشطة.” (ص. 76)
“تسافر القرارات الأكثر صعوبة فوق خيط رفيع على نفحة بسيطة من الرياح.” (ص. 96)
“لا يناسب البشر أن يحصلوا على حرية مطلقة بشكل مفاجئ.” (ص. 108)
“المدينة تبدو مختلفة ونحن ننظر إليها عبر نوافذ السيارة، تبدو أكثر صغراً وأكثر فقراً، في الوقت ذاته.” (ص, 124)
“كنتُ حزينة جداً، حتى ما عادتُ أخشى شيئاً. فما الخوف إلا أحد جوانب ترف السعادة.” (ص. 182)
“كلما كانت الحرب تتقدم، كانت تقل الأموال في أيدي الناس.” (ص. 136)
الختام:
في هذه الحياة، نقف جميعاً أمام مفترق طرق: البهجة أو الشقاء.
اختارت سامية يوسف عمر البهجة مراراً وتكراراً على الرغم من رداءة الظروف وصعوبتها. اختارت مقاومة القهر والفقر والصراع والحرب، بالطريقة الوحيدة التي أجادتها، وهي الركض، صانعةً من قصتها أسطورة ومعنى خالداً للنساء في كل مكان وزمان.
المصادر:
أحدث التعليقات