الحكمة (42): «من منا» لماريو بنديتي

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (42): «من منا» لماريو بنديتي

أقف اليوم في محطتي الثانية والأربعين: الأوروجواي؛ دولةٌ سمعت عنها للمرة الأولى بفضل رواية «من منا» لماريو بنديتي، التي تشاركت في نشر طبعتها العربية الأولى دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر في عام 2023 في دمشق، ونقلها عن الإسبانية علي إبراهيم أشقر.

يتشارك كلٌّ من ميغيل وآليثيا ولوكاس قصّ أحداث الرواية بتسلسل زمني، ومن ثلاث منظورات متباينة.

يبدأ مثلث الحب في مرحلة المراهقة، حين جمع ميغيل بين آليثيا ولوكاس متوقعاً أنها بطبيعة الحال ستنجذب له وتحبه، مفسِّراً نقاشتهما الحادة على أنها عاطفة متأججة شغوفة. يقول ميغيل معبراً عن ذلك: “كانت [آليثيا] دائماً على وفاقٍ معي وعلى خلاف مع لوكاس. وكان صدامهما أحياناً عنيفاً جداً، إلا أنه لم يكن ينتهي بالسباب، لأسباب ثقافية وحسب. كنتُ تحديداً شاهداً على هذه المناقشات، كما إنني أخذتُ أتثبت مما كنتُ أخشاه. وكان واضحاً أنهما كليهما كانا يختبران اللذة ذاتها بمواجهة أحدٍ ما من مستواهما وله صفة ودوافع متشابهة… ما كان أحدهما يحب الآخر، إنما كان أحدهما يحتاج إلى الآخر. وكان الوضع ينتهي بالزراية بالحب والصداقة اللذين كانا يلهمانيهما. كنتُ أعلم أني كنت شاهداً عليهما، وهما كانا يعرفان ذلك. وكانا يقدرانني على هذا الأساس. والأسوأ من هذا، أني مع ذلك، لم أستطع أن أعزو إليهما أي ذنب، مذ أقررت بنفسي أنني ثانوي وأعيش في ظلهما خاملاً عن الوعي” (ص. 29)

يعود هذا الشعور بالخمول والتهميش إلى طفولة ميغيل، حينما كان طرفاً غير مرئي وسط خلافات والديه واختلافاتهما. يقول معبراً عن ذلك: “الثابت أن الحياة – وكم يبدو ذكرها هكذا مخجلاً وكأنها آلهة، وكأنها تنطوي على معنى خفي وليس ما نعرفه جميعاً: أنها تكرار مضجر وتكرار للمعضلات والجود والرغبات – الثابت أن الحياة انتزعت مني منذ البداية مميزات، فلم أستطع ولن أستطيع أبداً أن أسترد المجال المفقود. إنها وظيفة بغيضة، وظيفة الشاهد.” (ص. 22) وتبعاً لذلك، يتخذ ميغيل وظيفة الشاهد في مرحلة زواجه أيضاً، تلك التي عاشها في ضيق مستمر بسبب قناعته المتدرجة بأن “آليثيا كانت تفضل لوكاس دائماً” على الرغم من أنها هي من طلبت منه الزواج. (ص. 56)

خصص ماريو بنديتي الجزء الأكبر من الرواية إلى ميغيل، متعمقاً في وصف عجزه وبؤسه وسلبيته، ومعترفاً بها غالباً، وكاسياً اعترافاته بالكثير من الاستعارات والعبارات الفلسفية، وكأنه يحاول إقناع القارئ، وإقناع نفسه أولاً، أن سلبيته ما هي إلا حال من أحوال الحياة، وليست خياراً يقوم باتخاذه كل يوم، وكل ساعة، وكل لحظة من لحظات حياته. اختيار تسبب في دفع زوجته إلى أحضان لوكاس، لا رغبةً منها، وإنما انتقاماً منه ومن سلبيته، وهو ما تعبر عنه بصريح العبارة قائلة: “لا أستطيع أن أغفر لك أن جعلتني أفضّل لوكاس، في حين كان من الخير كثيراً أن أحبك.” (ص. 70)

يأتي الجزء الثاني بصيغة رسالة تكتبها آليثيا إلى زوجها. رسالة تفضح مدى عجز ميغيل عن استقبال الحب أو السعادة. وربما تجيب على السؤال الأبدي: هل تنبع السعادة من داخلنا أم نستمدها من الخارج؟

تؤكد آليثيا على أن السعادة مهمة داخلية، وأننا لا نسعد حقاً إلا إذا اتخذناها قراراً واستغللنا كل الفرص الممكنة لها، إذ تقول في وصف معبر عن زواجها بميغيل: “زواجنا لم يكن إخفاقاً، وإنما كان شيئاً أكثر من رهيب. كان نجاحاً مهدوراً.” (ص. 68)

ولكن إذا كانت السعادة خيار، فلماذا لا يختارها الجميع؟

ليس بوسع الجميع أن يكون سعيداً، لأن السعادة مكلفة ومرهقة، وفي أحيان كثيرة يكون من الأسهل الاستسلام للمخاوف والقلق والشك، وهو ما قام به ميغيل مراراً وتكراراً، وما أودى به إلى محاولة الانتحار أيضاً.

كان ميغيل محملاً ببؤسه وشقائه ومرهقاً بهمومه لدرجة أعجزته عن عيش مشاعر الفرح والسعادة والحب، بل إنه كان يحاول التحرر من هذه المشاعر الدخيلة التي لم يكن يستطيع عيشها ومبادلتها، وهو ما قالته آليثيا للوكاس مجيبة على تساؤله عن السبب وراء إرسالها إليه: “كي… يتحرر مني.” (ص. 101)

تستمر آليثيا في دحض تحليل ميغيل وتصوريه للشغف الذي يجمعها بلوكاس، فتقول مُخاطبةً ميغيل: “لم يخطر ببالك أن التفسير الآخر الممكن، والحقيقي بلا ريب، كان يسمح بالظن أننا كنا أنت وأنا متماثلين بإفراط حتى لا ندخل في صراع مستمر. وكنتُ أسر بأن أجادل لوكاس، لكني كنتُ أقدر تقديراً أكبر كثيراً هدوء محادثاتنا.” (ص. 66)

أما لوكاس، فيكتب النهاية بإبداع أدبي يخلط بين الواقع والخيال. في “هذا الفصل تكتمل القصة. إذ حانت لحظة كانت الاحتمالات فيها تفترق. فمنذ لحظة اختياره احتمالاً واحداً، سوف تختتم، ولا يعود ذلك تحديداً إلى الاحتمال المختار، وإنما إلى الاحتمالات المنبوذة. لذلك كانت القصة هي الواقع الصالح شعرياً، لأن الواقع فيها هو محض احتمال منبوذ.” (ص. 98)

عند هذه الكلمات البديعة البليغة، يقف القارئ حائراً أمام الحقيقة، وإذا ما قامت آليثيا بخيانة ميغيل مع لوكاس كما توهمنا بلاغة لوكاس. ولكن هل يهم ذلك حقاً؟

زواج ميغيل وآليثيا منتهٍ لامحالة، وليس بوسع الخيانة سوى “زيادة الطين بلة” وإثبات لميغيل أن الحياة بائسة كما أرادها منذ البدء.

الحكمة من الكتاب:

استوقفتني عبارة “النجاح المهدور” التي استخدمتها آليثيا في وصف علاقتها بميغيل، وتساءلت عن كم النجاحات المهدورة التي يضيعها الإنسان بسبب مخاوفه وبؤسه. وهي في هذا السياق نجاحات محققة، وليست مجرد فرص ضائعة. نجاحات واقعة وصائرة وليست معاشة.

إذن، وكي نتجنب النجاحات والسعادة المهدورة، علينا عيشها في داخلنا أولاً بصرف النظر عن الواقع وبؤسه. فحينها فقط عندما يتطابق الواقع مع داخلنا الناجح السعيد، سنتفطن له بالتأكيد.

اقتباسات من الكتاب:

“العالم يقيناً يفيض بالمبتذلين؛ لكن، ليس بمبتذلين يُقرون أنهم كذلك.” (ص. 14)

“نحن نكذب على أنفسنا، ونتملق أنفسنا بشكل جد صريح حتى تثير فينا دائماً أيما حقيقة حكة رهيبة، وتخرجنا خارج الزمن والمناخ الذي نحياه بخمول من غير عناء ولا مجد.” (ص. 43)

“السعادة الوحيدة التي تبدو ممكنة ليست فقط تلك التي لا تبلغ، وإنما هي تلك التي لا يمكن لها أن تنال.” (ص. 45)

“المرء يحول التاريخ دائماً إلى أسطورة، والماضي هو في الأساس سلسلة من الملذات والهموم المبتذلة؛ إنها النفايات الجديدة والأباطيل الجديدة ما يضفي عليه في الأيام القادمات شهرةً بأثر رجعي.” (ص. 75)

الختام:

إذا ما اعتبرنا الحياة أنثى، وبالتالي فإن الأنثى هي الحياة، هل يمكن قراءة رواية «من منا» لماريو بنديتي على أنها خيانة الحياة للمبتذلين والهامشيين فيها؟ هل يمكن أن تكون آليثيا في جوهرها رمزاً لهذه الحياة التي لا تلين إلا للجريئين والشجعان، الذين يعتقدون أنهم يستحقون السعادة والنجاح والهناء؟

طبعاً. وطبعاً. وطبعاً. ذلك ممكن جداً!

أحدث التعليقات