الحكمة (43): «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  / الحكمة (43): «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد

أقف اليوم في محطتي الثالثة والأربعين: الجزائر، موطن بطلي الورقي المفضل، خالد بن طوبال.

رافقني طيف خالد بن طوبال في السراء والضراء منذ تعرفت عليه أول مرة في معرض الشارقة الدولي للكتاب في عام 2012 حينما نصحني أحد الناشرين بقراءة رائعة أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد». أذكر أنني آنذاك التهمت صفحاتها على عجل في أيام قليلة. كانت كلماتها تروي عطشاً في روحي، ونقصاً أبدياً في تمثيل الواقع الشمال أفريقي في الأدب العربي المعاصر. الأدب الشمال أفريقي كما عايشه ولا يزال يعايشه مثقفوه المذهلون أمام ركب الحداثة أو قطارها.

أخذني جوعي إلى الجزئين التاليين من ثلاثية مستغانمي، «فوضى الحواس» و «عابر سرير»، ولكن تأثيرهما لم يبلغ الأثر الذي تركته «ذاكرة الجسد» في روحي، فهي لم تحتو خالد بن طوبال بطلاً، وخالد كان ملجأي ومسكني ومهربي من واقع جنن منطقي وبعثره.

لماذا خالد بن طوبال؟ سألت نفسي هذا السؤال كثيراً، وكلما تقدم بي العمر وتعمقت أكثر في التجربة العربية من المحيط إلى الخليج، زاد إدراكي لأسباب غوصي في هذه الشخصية الفريدة، ابنة أفكار أحلام مستغانمي. خالد بن طوبال هو رسّام معطوب الذراع. خسر ذراعه في حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. وعند إصابته، نصحه الطبيب الروسي القائم على حالته بالرسم حتى يتصالح مع واقعه الجديد. اشتغل بالرسم إذن، وعمل في مجال الثقافة بعد الاستقلال، ليكتشف ألا متسع له هو وأحلامه واستقامة ضميره في الجزائر، فهرب إلى فرنسا، حيث تحول إلى رسام مشهور.

جيلين يفصلانني عن خالد بن طوبال، ولكنني لا زلت أعايش تجربته. أنا المغرمة باللغة العربية وأصدائها، والمهوسة بالكتابة والقلم، طرقت الكثير من الأبواب العربية كي أساهم في تعزيز هذا الحب الذي توجّه قلبي وما فارقه، ولكن ما من مجيب، فليس في هذا الرصيف من يجيب. وحدها شركات الاستشارات الإدارية والسياسية الدولية تلهفت على قلمي حتى تقدم أفضل الترجمات لعملائها المهمين منذ عام 2016.

هل نحن منفيون من سياقاتنا العربية؟ ربّما نحن منفيون بسبب وعينا أو إبداعنا أو ربّما، وبكل بساطة، بسبب اختلافنا، وما نحمله في أعيننا من حلم وحب وليس بسبب أي مقاومة قد نقوم بها، “فالمقاومة ميسورة المنال دائماً، وأن الحب أمر خارج عن القانون دائماً.” (ص. 38)

بعد أكثر من عشر سنوات من هوسي بخالد، اكتشفت أن أحلام مستغانمي تواطأت مع مالك حداد، واستلفت منه بطله، وأكسته لغةً عربية ما أتقنها في رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب»، التي نشرت طبعتها العربية الأولى الهيئة العامة لقصور الثقافة في عام 1999 في القاهرة، ونقلها إلى العربية ذوقان قرقوط.

خالد بن طوبال، كما صوره مالك حداد، كان منفياً في وطنه قبل أن يُنفى خارجه. فالمنفى هو بطل هذه الرواية أكثر مما هو إطارها. (ص. 12) كان خالد منفياً عن لغته وثقافته في وطنه أثناء الاستعمار الفرنسي، يدرس في أحد معاهد قسنطينة منهج فلسفة فرنسي عن “برغسون وديكارت” ويتنكر “للشيخ ابن باديس ولشعراء الجزائر، هؤلاء الذين لا اسم لهم ولا لغة.” (ص. 9) وصار منفياً عن وطنه بعد نظمه شعر المقاومة، فوجد نفسه في فرنسا، يطرق باب رصيف الأزهار الذي لا يجيب بعدما غاب صديق طفولته الفرنسي سيمون عن استقباله في محطة القطار.

يزور خالد منزل سيمون في رصيف الأزهار، ويتعرف على زوجته مونيك، التي تتأثر بخالد منذ اللقاء الأول، وربّما تقع في حبه منذ النظرة الأولى. وهكذا تتطور العلاقة بين الطرفين، وتصل إلى الخيانة. خيانة قد تبدو مبررة، فلا مقاومة للمرأة الفرنسية المتعطشة أمام جبروت الرجل العربي وفحولته. إلا أن الخيانة ليست فعل خالد وحده، فهي أيضاً فعل زوجته، وريدة، التي تركها مع أطفالهما الأربعة في الجزائر. بل إنها خانته مع ضابط فرنسي مستعمر.

حاولت قراءة رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» بالرمز، كأن تكون مونيك رمزاً للشعب الفرنسي ووريدة رمزاً للشعب الجزائري وكلاهما في هذه الحالة خائن سواءً كان ذلك تعاطفاً مع الآخر المختلف أو انجذاباً للقوة والهيمنة، ولكن لستُ أعتقد أنها تتحمل مثل هذه القراءة. فهي رواية عبثية عن هشاشة الحياة والمبادئ على حد سواء، بما في ذلك مبادئ الوطنية والانتماء. فبالنسبة لمالك حداد، يروى عن خالد بن طوبال بأنه “كان وطنياً. ربما كان هذا صحيحاً وربما كان كذباً. فالسياسة تبعث في نفسه السأم كدروس الحساب في المدرسة الابتدائية. فقد كان جزائرياً لأنه عرف نفسه جزائرياً. وكان جزائرياً لأنه كان جزائرياً. وهذا إذ يمجده مبدأ الهوية وهذا التأكيد البديهي الأبله… كان جزائرياً لأن اثنين واثنين يساويان أربعة وأنه ليس هنالك مع ذلك ما يثبت حقيقة هذه العملية.” (ص. 35) ومثل هذا الاقتباس يناقض في فحواه ما نُقل عن المناضلين والثوريين العرب الآخرين في ارتباطهم الوثيق بالوطن والأرض، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الزعيم السياسي والكاتب المصري مصطفى كامل، والذي اشتهرت مقولته: “لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً” علماً بأنه سبق مالك حداد بأجيال.

كما أنها رواية ما بعد حداثية بامتياز، تسخر أولاً من الأفكار الحداثية وتنقدها (كفكرة الانتماء الجغرافي السابق ذكرها)، ثم تنتهي بالمقاطعة الكاملة مع الحداثة وركبها متمثلة في نهايتها حين يرمي خالد بن طوبال نفسه من عربة القطار “ذاهباً إلى لغز قديم ليطلب منه الحساب.” (ص. 161)

رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» ليست رواية عن الاستعمار ونقده، وإنما هي رواية عن الهشاشة الإنسانية في مجتمعات ما بعد الحداثة. تلك الهشاشة التي تمكن الجميع من خيانة الجميع، ويغيب فيها “الاعتقاد بالرحمان.” (ص. 143)

الحكمة من الكتاب:

ليس من المستغرب أن تكون رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» هي الرواية الأخيرة التي كتبها مالك حداد قبل صمته الأدبي. فهي رواية تتساءل عن بقايا الإنسانية في المقاوم وربّما في الإنسان عموماً. وهذا ما يمكن استخلاصه من هذه الرواية. إنها محاولات عديدة يحاول فيها خالد بن طوبال استجماع الإنسان فيه. إذ كانت به حاجةً “لتحويل كل شيء إلى نزعة إنسانية ولإرجاع كل شيء إلى مقاييس إنسانية أكثر مما يصدر عن أنانية. إلا أن هذا الإنسان، هذا الكاتب السياسي في صميمه، لم يكن سياسياً حقاً.” (ص. 60)

اقتباسات من الكتاب:

إن الإنسان ليخامره شعور باليتم عندما يهبط في مكان ما فلا يجد أحداً بانتظاره.” (ص. 5 – 6)

“للبراءة أوجه نبالتها فهي موجودة، تؤكد ذاتها قبل صيرورتها. فالمحاريث ليست جميلة إلا وهي تتقدم الثيران.” (ص. 11)

“الخوف يكون عندما يندر الرجال.” (ص. 12)

“ذلك أن للماضي جميع الحقوق، فهو يرجع دائماً، تارة بخطى وئيدة وتارة أخرى بشراسة، فيفرض نفسه ويفرض قانونه.” (ص. 21)

“فالتاريخ، التاريخ نفسه، لا يكتب إلا في الماضي.” (ص. 22)

“إن أسوأ ما قد يحيق بالإنسان هو اشباع رغباته.” (ص. 26)

“ما من نقطة ماء تستطيع وحدها أن تجعل الوعاء يطفح. لكي يطفح الوعاء فإنه يحتاج إلى عدة نقاط من الماء. هذا كل ما في الأمر.” (ص. 32)

“ليس شيئاً ليكون رجلاً. لا شيء، مطلقاً. لا شيء. أما، أن يكون المرء إنسانياً، فهذا هو الصعب وهذا هو الجوهري.” (ص. 36)

“الكاتب هو من يتخطى الأسوار وينتصب واقفاً في الحديقة.” (ص. 36)

“هذه الجزائر التي يشتمونها في جميع تصرفاتها اليومية، سوف تذكرهم بأن الشقاق لا ينشأ أبداً من سوء التفاهم بل ينشأ من عدم الاعتراف وعدم الاحترام.” (ص. 37)

“عندما ينطق الحب بالعربية يمكن القول بأنه يتجاوز نفسه.” (ص. 39)

“عندما يؤدي بالأمر بالشاعر إلى إحراق أشعاره يكون الإنسان عندها في خطر، وقد أصبح جلاداً بقدر ما هو ضحية.” (ص. 40)

“- ولكن لماذا تكتب إذاً؟

– لأمر في غاية البساطة وهو أنني لا أعرف أن أتكلم.” (ص. 47)

“جميع الرجال هم مجانين إلى حد ما. لكن التعساء في هذا الميدان، يصلون المطلق.” (ص. 47)

“من النادر وجود كاتب، ذي شأن، يعرف الابتكار والتخيل وبالتالي الإبداع، إذا تجاوزنا حدود الصنعة، ما دام أن المعيار الوحيد لأي إنتاج محترم هو في ضرورة صدقه. ومهما فعل الروائي ليقدم بديلاً عن حياته فإنه في الحقيقة لا يقص غيرها، كعالم الفيزياء الذي يتابع نفسه ويطيل تجاربه المخبرة. وهو يشبه قليلاً الفقيه الذي يسهر على القانون وهو يحلم بتحسينه مدفوعاً بالحاجة التي لا غنى له عنها لكي يصبح هو نفسه مشرعاً.” (ص. 65)

“القوة لا تفهم إلا بالقوة.” (ص. 72)

“الكتابة هي رواية الواقع. والشيء الأساسي ليس في اعتقادنا بأننا على حق. إذ أن الاقتناع حالة من الصحو المقلق. فمن يكونوا على حق دائماً لا يكونوا عقلاء دائماً. وأولئك الذين لا يشكون يتمتعون بجرأة عمياء في حين أن واقعة المشي نفسها شكل من التردد.” (ص. 72 -73)

“الخريف سعيد والشتاء سعيد والموت سعيد، ولكن ليس في متناول كائن من كان أن يعرف كيف ينبغي أن يموت.” (ص. 73)

“إن قلبي عربي، كثير الألغاز، رقيق.” (ص. 76)

“لنكف عن أن نحمل الكلمات محمل الجد.” (ص. 78)

“الأفكار، هذه الأشياء المخبولة!” (ص. 79)

“ما الحياة في نظري إلا حدث أدبي.” (ص. 96)

“الانتظار وحده هو السفر الحقيقي.” (ص. 145)

“لا يخدع الإنسان إلا من نفسه.” (ص. 155)

الختام:

مالك حداد ليس كاتباً جزائرياً فقط، وإنما هو بالأساس كاتب إنساني، وروايته «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» تعكس تناقضات الواقع الإنساني بين ما يعيشه ويختبره من مشاعر وشهوات ورغبات، بما في ذلك رغبة القوة والسيطرة والهيمنة، وما يعيش فيه من قيم ومبادئ وأفكار مثالية.

أحدث التعليقات