الحكمة (45): «فاكهة للغربان» لأحمد زين

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (45): «فاكهة للغربان» لأحمد زين

أقف اليوم في محطتي الخامسة والأربعين: اليمن. يمن السبعينات والثمانينات. يمن الصراع بين أحادية الأيديولوجية وتعددات الواقع، متمثلاً في صلاح ونورا، بطلي رواية «فاكهة للغربان» لأحمد زين، التي نشرت طبعتها الأولى منشورات المتوسط في ميلانو في عام 2020.

في أجواء ملبدة برائحة السجائر الإمبريالية والعطور الفخمة، وكلمات الأغاني الثورية، تجمع الأقدار بين صلاح، المناضل اليساري، ونورا سلالة السلاطين ومعطوبة القدمين، عبر علاقتهما بجياب، رئيس صلاح في الدائرة الحزبية التي يعمل فيها، وخليل، نورا وعشيقها. إلا أن جياب قد اختفى، وما بقي منه سوى ما عاشته نورا من ذكريات برفقته. ذكريات طلبت من صلاح تشكيلها وكتابتها في مذكرات لهما.

تجمع مدينة عدن، عاصمة الشيوعيين العرب، بين صلاح ونورا، كما تجمع بين شخصيات كثيرة. شخصيات من مختلف أرجاء المعمورة، كروسيا والجزائر وفلسطين. شخصيات يمر عليها صلاح مرور الكرام، ولا يتعمق في توطيد علاقته معها كما هي الحال مع نورا.

يختلط السرد الروائي بين الراوي العليم ودواخل الشخصيات وحواراتها، صانعاً خلطة فريدة بين جميع الأصوات بدون حدود أو إشارات واضحة إلى قائل كل جملة. وبينما قد يشكل هذا الأسلوب تحدياً للقارئ، وخاصة للقارئ السريع، إلا أنه يخدم الرواية في تمثيل الامتزاج الملتبس بين جميع أجزاء المجتمع اليمني آنذاك، وهو ما تمثله شخصية نورا أيضاً. نورا التي كانت أكثر من شخصية واحدة، “أكثر من نورا، نورا التي عاشت في كنف أسرة إنجليزية، تركها والدها عندها، عندما كان يذهب، ويطيل الغياب إلى أفريقيا لإبرام صفقات المواشي لتوريها للجيش البريطاني، غيرها التي عرفت الأضواء في مسارح وطنية تمتد من الجزائر وبودابست إلى هافانا وموسكو وغيرها من البلدان.. وبالتأكيد، الاثنتان تختلفان عن نورا، التي تعيش اليوم عذاباً يقهرها بسبب قدميها المعطوبتين، واختفاء جياب.” (ص. 77)

وبذلك يكون لتعددية المجتمع اليمني وتنوعه نصيب الأسد في الرواية، فالشخصيات جميعها تقريباً متضاربة في تناقضها، ومنها شخصية صلاح، مهما حاول إذابة هذه الاختلافات والتناقضات في بوتقة اليسارية. فعلى الرغم من كل الخطوات التي قطعها ليترك مسافة هائلة بينه وبين ذلك الريفي الأول، ها هو ما زال يسحبه وراءه. “الريفي الذي يعود ويطل برأسه، فكلما سعى للتخلص منه يفشل، ثم يحاول ويفشل ثانية، ويبقى في محاولات بلا كلل، حتى أضحى من الممكن تكثيف وجوده كله في هذه المحاولات.” (ص. 19)

تشكل جميع هذه التناقضات واقع “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، التجربة الفريدة التي ما ستلبث إلا وتسقط في نهاية الرواية حين يغادرها جميع الرفاق وتفوح رائحة عطب قدمي نورا. فهل في هذا العطب رمزية إلى فساد النظام ونتانته؟ يبدو الأمر كذلك، وخاصة أن صلاح ما انتبه إلى هذه الرائحة النتنة إلا عندما اكتشف فساد النظام اليساري و”أن ثوار الأمس تحولوا إلى مجرد قتلة لرفاقهم.” (ص. 151) فإصابة نورا في الأساس ما كانت إلا نتيجة لتصفيات سياسية أقحمتها فيها علاقتها بجياب و”تهوره السياسي واستبداده.” (ص. 169) فحين كان يحارب الرفاق “الاستعمار، كانت لديهم مثل نبيلة وقدام أعينهم مثال أعلى. بعد الاستقلال، ظنوا أن المثل لم تعد تلزمهم، وأنهم أصبحوا المثال الأعلى.” (ص. 221)

ولعل فساد الرفقة ليس وحده مصدراً للنتانة، فالأيديولوجية الاشتراكية أيضاً نالت نصيبها من هذه العفونة، وفي تقديس الفقر والاتكالية كما وصفها والد نورا قائلاً: “في زمن الإنجليز [الاستعماري]، كان الفقير يجهل أنه فقير. بعد الاستقلال، لم يدرك الفقير مرارة أنه فقير فحسب، زاد على ذلك أن راح يتباهى بفقره. إنجاز الحزب الوحيد في رأيي، أنه أضفى على الفقر معنى جذاباً. فأصبح الفقر منتهى أماني الفقير، وكأنما هو يملك خياراً آخر.” (ص. 176)

وبنحر الرفاق تنتهي الرواية معلقًة على سؤال تهكمي يطرحه صلاح، قائلاً: “آلاف الرفاق ذهبوا قرابين.. وافترست جثامينهم الكلاب والغربان التي اعتادت التغذي على الزواحف، كيف سيكون طعم الرفاق في أفواه الغربان وبين مخالبها، مقارنة مع تلك الزواحف الصغيرة؟ مثل الفاكهة؟ ربما.” (ص. 237)

الحكمة من الكتاب:

تتجلى الحكمة في رواية “فاكهة للغربان” لأحمد زين في ضرورة الوعي بمسؤولياتنا تجاه التغيرات السياسية والاجتماعية التي نشهدها، وعدم الانزلاق في فخ الأيديولوجيات المُطلقة، فالحياة مليئة بالتناقضات والتحديات التي تتطلب منا التفكير الناقد والقدرة على التكيف. إن الواقع متعدد الأوجه، ومن المهم أن نتعلم من الأخطاء والتجارب، سواء كانت شخصية أو جماعية، حتى لا نصبح ضحية لماضي أو أفكار عتيقة.

اقتباسات من الكتاب:

كل مرة أنجو فيها من موت فعلي، كأن تخطئني رصاصة قناص، أو أصل متأخرة قليلاً على تفجير حدث للتو، أو لا أكون موجودة.. كنت أحب الحياة، كما لو أنني اكتشفتها في تلك اللحظة، وأقول لنفسي بعدها، سأقص شعري، وأجعله قصيراً، وسألبس ألواناً زاهية، وسأمارس هوايات بعينها، وسأذهب إلى الأماكن الفلانية، لأمتع نفسي. وبمجرد اعتياد العيش ثانية، تتلاشى الحياة التي اكتشفتها وأحببتها، وبالتالي تتباعد رغباتي تلك بسبب انهماكي في أشياء أخرى، تتوالى بصورة يومية، حتى أخال حياتي اليوم حياة معطلة إلى حين، وأحياناً ينتابني شعور بالذعر، أنني لم أعش حياتي بعد.” (ص. 17)

“الصور تطارد أصحابها، إذا ما غيروا من أنفسهم أو تنكروا للحظة من حيواتهم.” (ص. 59)

“يملؤني الزهو في أحايين كثيرة بما كنا نتبناه، وما زلنا متمسكين به، إلا أن الحياة تثبت لنا أن الانسلاخ من الجلد، مما نحن عليه، أمر ممكن، مما يجعلنا في مهب الشك.” (ص. 68)

“أخذت تقص عليهم حكاية جدتها التي، بين آن وآخر، تتخيل أنها أضاعت المفتاح، فتروح تفتش عنه في كل زوايا البيت وفي الأدراج الصغيرة والأرفف والحقائب الكبيرة المركونة فوق خزانة الملابس. قالت إن جدتها تنفعل، ويعلو تذمرها حين ترى أنها واقفة تتفرج عليها، من دون أن تبادر في مساعدتها بالبحث عن المفتاح. تظن جدتها أنها لن تقدر العودة من دون المفتاح إلى ديارها ثانية. وأكدت… أن جدتها لا يمكن أن تضيع هذه القطعة من الحديد، وأنها قد تعثر عليه ضمن طيات ثياب جديدة، تتفقدها بين يوم وآخر حين تشعر بدنو الرحيل. وأرادت القول إنه لو استمرت جدتها في حالها هذه، فقد لا تعرف النوم لليال مقبلة… من دون أن يعني أننا فعلاً نملك بيوتاً، ولنا أهل هناك. ووضحت أن جدتها في لحظات كثيرة تعرف أنها لن تستطيع العودة، وتبقى مع ذلك، تتشبث بالمفتاح.” (ص. 68 – 69)

“أبدى خشيته من أولئك الذين يأتون وكأنهم يملكون وصفة سحرية، لتحويل البلد إلى جنة للجميع، في استغلال للنوايا الحسنة لدى اليمنيين. “هؤلاء لا يبذلون جهوداً حقيقية، وفي أوقات الأزمات إما ينحازون إلى طرف من دون دراية بالمسألة، أو يكتفون بطرح المقترحات، وأحياناً الفرجة من بعيد، إذا تعقدت الأمور.” (ص. 123)

“إن الحقوق الكثيرة التي أعطاها الحزب للمرأة رائعة وثورية، لكنها لم تغادر كونها قوانين وعبارات، يرددها رفاقه في يوم المرأة العالمي.” (ص. 135)

“القسوة ضرورة أحياناً. تحريك سكين حامية في جرح، أو بتر عضو من الجسد، من المؤكد أنها وسيلة ليبرأ الجرح، ويتعافى المريض.” (ص. 170)

الختام:

في ختام هذه الرحلة الأدبية عبر صفحات رواية “فاكهة للغربان” لأحمد زين، يتجلى لنا عمق التناقضات الإنسانية والاجتماعية التي عاشها المجتمع اليمني في السبعينات والثمانينات. تقدم الرواية صورة مأساوية لكن واقعية للاختلافات بين الأيديولوجيات والتجارب الفردية، مشددة على ضرورة الوعي بمسؤولياتنا تجاه التغيرات من حولنا. بينما تشاهد شخصيات الرواية، مثل صلاح ونورا، تتخبط بين آمال الماضي وأزمات الحاضر، يظهر لنا أن تخليد الذكرى ليس كافياً، بل يتطلب منا النظر بعمق إلى الأخطاء التي ارتكبت، وعدم الوقوع ضحية للأفكار العتيقة. تجسد الرواية دعوة للتفكير النقدي والتكيف مع واقع غارق في التناقضات، مما يجعلنا نتساءل: هل فعلاً تعلمنا من دروس الماضي، أم نبقى أسيرين لمآسيه وفساد الأيديولوجيات المحيطة بنا؟

أحدث التعليقات