الصفحة الرئيسية / مراجعات / خمسون حكمة حول العالم / الحكمة (47): «عندما يقول الجسد لا» لجابور ماتيه
أقف اليوم في محطتي السابعة والأربعين: كندا، حيث قضى الكاتب الدكتور جابور ماتيه عمراً في العناية بمرضى الأمراض المزمنة وملاحظة ورصد الرابط العجيب بين أمراضهم المستعصية ومشاعرهم وعواطفهم في كتابه «عندما يقول الجسد لا»، الذي نشر طبعته العربية الأولى دار عصير الكتب للنشر والتوزيع في عام 2023 في القاهرة، ونقلته إلى العربية إيمان سعودي.
في هذا العمل العميق، يستكشف الكاتب الروابط الجوهرية بين النفس والجسد، مسلطاً الضوء على كيفية تأثير العواطف والضغوط النفسية على الصحة الجسدية. ويرى أن الجسد، كتجسيد حي للتجارب الإنسانية، غالباً ما يحمل عبء المشاعر المكبوتة ليعبر عن رفضه بأسلوبٍ يتجاوز الكلمات.
يأخذنا جابور ماتيه في رحلة تأملية، يُبرز فيها أهمية الوعي الذاتي والعناية بالعواطف كسبيل للشفاء. يتجلى فيها الجسد كمرايا تعكس صراعاتنا العميقة، وكأنه ينادي: توقف! وانتبه لما بداخلك! ينسج بين السطور قصة إنسانية تتجاوز الحدود الفردية، لتبث في روح القارئ وعياً جديداً تجاه جسده وعواطفه.
إن الكاتب لا يعرض مجرد نظريات علمية، بل يوفر أداة لفهم الذات، مشدداً على أن الاستجابة لنداء الجسد ليست سوى خطوة في طريق التحول والنمو. من خلال سرد قصص واقعية وتحليل علمي، يستفز التفكير ويحفز على إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع الألم والمرض، موضحاً أن قبول الذات ومواجهة مشاعرنا قد يكونان مفتاحاً للشفاء الحقيقي.
الحكمة من الكتاب:
الحكمة من كتاب «عندما يقول الجسد لا» وموضوعه الأهم والأبرز هو شمولية التجربة الإنسانية، بين الجسد من جهة والعقل والنفس من جهة أخرى. فالكتاب يثبت بالأدلة والبراهين تأثير كل منهما على الآخر.
يعتمد الدكتور جابور ماتيه على مبدأ “علم المناعة العصبية النفسية” الذي يثبت تفاعل العواطف مع الجهاز العصبي وكيف تلعب هذه العلاقة دوراً هاماً في الدفاعات المناعية للجسم. إذ يظهر أن العواطف ليست مستقلة عن الوظائف الفسيولوجية، بل بالعكس، تتداخل بطريقة تجعل من المستحيل اعتبار الجسد والعقل منفصلين.
اقتباسات من الكتاب:
“(علم المناعة العصبية النفسية) هو علم التفاعلات بين العقل والجسد، الوحدة التي لا تنفصم بين العواطف ووظائف الأعضاء في التطور البشري وطيلة حياة الإنسان في صحته ومرضه. هذا المصطلح المعقد إلى حد مخيف يعني ببساطة المجال الذي يبحث في الطرق التي تتفاعل فيها النفس، والعقل ومحتواه من العواطف، مع الجهاز العصبي وكيف يشكل كلاهما بدوره رابطاً أساسياً مع دفاعاتنا المناعية. أطلق البعض على هذا المجال الجديد اسم علم المناعة العصبية الهرمونية، وذلك للإشارة إلى أن جهاز الغدد الصماء أو الهرمونات هو أيضاً جزء من نظام استجابة الجسد كله. تظهر البحوث الجديدة كيفية عمل هذه الروابط بالضبط وصولاً إلى المستوى الخلوي. إننا نكتشف اليوم الأساس العلمي لشيء طالما عرفناه في الماضي، ثم نسيناه، وكم كانت خسارتنا فادحة. أدرك الكثير من الأطباء على مر السنين أن العواطف تلعب دوراً قوياً في التسبب في المرض أو استعادة الصحة. أجروا بحوثاً وألفوا كتباً وتحدوا الأيدولوجيا الطبية السائدة، لكن أفكارهم واستكشافاتهم وتجلياتهم اختفت مرة تلو الأخرى في شيء أشبه بمثلث برمودا طبي. لقد غاب مفهوم وحدة العقل والجسد الذي خلصت إليه أجيال سابقة من الأطباء والعلماء من دون أثر، كأنه لم يشهد ضوء النهار قط.” (ص. 19)
“كيف يتحول الضغط النفسي إلى مرض؟ الضغط النفسي هو سلسلة معقدة من الاستجابات الجسدية والبيوكيميائية للمنبهات العاطفية القوية. من الناحية الفسيولوجية، فإن العواطف في حد ذاتها عبارة عن إفرازات كهربائية وكيميائية وهرمونية للجهاز العصبي. تؤثر العواطف وتتأثر بنشاط أعضائنا الرئيسية، وسلامة دفاعاتنا المناعية، وتأثير العديد من المواد البيولوجية المتدفقة التي تساعد في ضبط الحالة الجسدية. عندما تقمع العواطف، يُعطل هذا الكبح دفاعات الجسد ضد المرض، ذلك لأن القمع، أي فصل العواطف عن الوعي ونفيها إلى عالم اللاوعي، يربك دفاعاتنا الفسيولوجية ويشوشها بحيث تنحرف عن مسارها الصحيح عند بعض الناس وتصبح مدمرة للصحة لا حامية لها.” (ص. 20)
“تتطلب الكفاءة العاطفية: 1) القدرة على الإحساس بعواطفنا، بحيث نكون مدركين إذا ما أصابنا الضغط النفسي. 2) القدرة على التعبير عن عواطفنا بفعالية ومن ثم المطالبة باحتياجاتنا والحفاظ على سلامة حدودنا العاطفية. 3) مهارة التمييز بين ردود الفعل النفسية ذات الصلة بالوضع الحالي وتلك التي تمثل بقايا الماضي. لا بد أن يتوافق ما نريده ونطالب العالم به مع احتياجاتنا الحالية، وليس مع احتياجات لا واعية غير مشبعة منذ الطفولة. إذا طمست الفروق بين الماضي والحاضر، سنستشعر الفقدان والخطر من الفقدان دون وجود لأي منهما. 4) وأخيراً، الوعي بالاحتياجات الحقيقية التي تتطلب بالفعل إشباعاً، بدلاً من قمعها من أجل نيل استحسان الآخرين وقبولهم… الكفاءة العاطفية هي القدرة التي تمكننا من البقاء في علاقة مسؤولة، بلا تضحية أو أذى للذات، مع بيئتنا. إنها اللبنة الداخلية اللازمة لمواجهة ضغوط الحياة الحتمية، ولتلافي خلق ضغوط غير ضرورية، وللمضي قدماً في عملية الشفاء. قلة منا هم من يصلون إلى سن الرشد مع أي شيء قريب من الكفاءة العاطفية الكاملة. وعلمنا بافتقارنا لها ليس سبباً للحكمة على الذات، وإنما هو دعوة لمزيد من التطور والتحول.” (ص. 61 و329)
“إن الفصل بين الهرمونات والعواطف أمر مناف للطبيعة. صحيح أن الهرمونات هي محفزات أو كوابح نشطة للأورام الخبيثة، ولكن ليس صحيحاً أن نشاطها غير مرتبط بالضغط النفسي. في الواقع، إحدى الطرق الرئيسية التي تساهم بها العواطف في الإصابة بالسرطان هي من خلال تأثير الهرمونات. بعض الهرمونات، مثل الاستروجين، تحفز نمو الورم. وبعضها الآخر يعزز نمو السرطان من خلال إضعاف قدرة الجهاز المناعي على تدمير الخلايا الخبيثة. إن إنتاج الهرمونات يتأثر بشدة بالضغط النفسي. لطالما عرفت النساء أن الضغط النفسي يؤثر في وظائف المبيض وفي دورتهن الشهرية، بل إن الضغط النفسي الشديد قد يمنع نزول الحيض. يرتبط النظام الهرموني في الجسد ارتباطاً وثيقاً بمراكز الدماغ التي تختبر العواطف وتترجمها. ويرتبط النظام الهرموني ومراكز العاطفة بدورهما بالمناعة والجهاز العصبي. هذه ليست أربعة أنظمة منفصلة، بل نظام فائق جيد يعمل كوحدة لحماية الجسد من الغزو الخارجي ومن اضطراب الحالة الفسيولوجية الداخلية. من المستحيل لأي مسبب من مسببات الضغط النفسي، حاداً كان أو مزمناً، أن يؤثر في جزء واحد فقط من النظام الفائق. فما يحدث للجزء لا بد أن يؤثر في الكل.” (ص. 90-91)
“إن طبيعة الضغط النفسي لا تكون دائماً كما يظنها الناس في العادة. إنه ليس الضغط الخارجي الذي تسببه الحرب أو خسارة المال أو وفاة شخص مقرب، إنما هو الضغط الداخلي الناتج عن الاضطرار إلى التكيف مع شخص آخر. يبدو لي أن السرطان والتصلب الجانبي الضموري والتصلب المتعدد والتهاب المفاصل الروماتويدي وكل تلك الأمراض الأخرى إنما تحدث لأناس يعانون ضعف الإحساس بذواتهم كأشخاص مستقلين. وذلك يعني أنهم على المستوى العاطفي، على الرغم من أنهم قد يكونون ناجحين إلى حد كبير فنياً أو فكرياً، يعانون إحساساً ضبابياً بالذات. إنهم يعيشون كرد فعل لأفعال الآخرين دون أن يشعروا أبداً بهويتهم الحقيقية.” (ص. 114)
“مرضى السرطان يميلون إلى إنكار الرغبات والعواطف المتضاربة وقمعها بدرجة أعلى من الآخرين.” (ص. 169)
“مشاعر البطن (أو مشاعر الحدس) هي جزء مهم من الجهاز الحسي للجسم، تساعدنا في تقييم البيئة وتقييم ما إذا كان الوضع آمناً أم لا. تضخم مشاعر البطن المدركات التي تعتبرها مراكز المخ العاطفية مهمة، ثم تحملها إلى منطقة الوطاء. وهكذا يصبح ألم البطن إحدى الإشارات التي يبعث بها الجسد رسائل لا ينبغي لنا تجاهلها. يمكننا القول إذن إن الألم هو أيضاً وسيلة إدراك. فمن الناحية الفسيولوجية، لا تعدو مسارات الألم كونها مجرد رسل تنقل المعلومات التي نمنعها من الوصول إلينا بطرق أكثر مباشرة. إن الألم وسيلة احتياطية قوية للإدراك، ينبهنا عندما تتوقف وسائلنا الأساسية عن العمل، إنه يزودنا بالبيانات التي نتجاهلها على حساب سلامتنا.” (ص. 200)
“في أمراض المناعة الذاتية، تنقلب دفاعات الجسد ضد نفسه. من شأن سلوك كهذا في الحياة المجتمعية، أو الكيان السياسي، أن يدان باعتباره خيانة. ينتج التمرد الجسدي داخل جسم الفرد عن تشوش المناعة الذي يحاكي بالضبط التشوش النفسي اللاوعي بين الذات والغير. في فوضى الحدود تلك، تهاجم الخلايا المناعية الجسد كما لو أنه مادة غريبة، تماماً مثلما تتعرض الذات النفسية للهجوم من قبل اللوم والغضب الموجهين إلى الداخل.” (ص. 224)
“إن العواطف، مثل الخوف والغضب والحب، ضرورية لنجاة الكائن الحي، شأنها في ذلك شأن النبضات العصبية أو الخلايا المناعية أو النشاط الهرموني. في مرحلة مبكرة من عملية التطور، صارت الاستجابات البدائية للانجذاب أو النفور ضرورية لحياة الكائنات الحية وتكاثرها. تطورت العواطف، إلى جانب خلايا الجسد وأنسجته التي تجعل العواطف ممكنة، كجزء لا يتجزأ من آليات النجاة. لا غرو إذن أن تشارك الجزئيات الأساسية، التي تربط بين جميع أجهزة الجسد، سواء الخاصة بالدفاع عنه أو تلك الخاصة بتوازنه، في ردود الفعل العاطفية. يمكننا العثور على المواد النقالة بما فيها الإندورفينات، في أكثر المخلوقات بدائية، مخلوقات لا تملك حتى جهازًا عصبياً أوليًا. إن أعضاء العواطف لا تتفاعل مع نظام (PNI)، إنها جزء لا يتجزأ من هذا النظام.” (ص. 224)
“أدهشتني القدرة الخارقة للطبيعة على تعليم البالغين دروساً من المرض، الدروس التي كان ينبغي تعلمها، في عالم أفضل، في الطفولة وفي الصحة.” (ص. 239)
“طور هانز سيلي، مؤسس بحوث الضغط النفسي، مفهوم طاقة التأقلم. يبدو الأمر كما لو أن لدينا مخزوناً خفياً من القدرة على التأقلم أو طاقة التأقلم في جميع أنحاء الجسد.. فقط عندما نستهلك كل طاقتنا على التأقلم، سيتبع ذلك استنزاف عام لا رجعة فيه وموت.” الشيخوخة، بالطبع، هي العملية الطبيعية التي يستنفد من خلالها مخزون طاقة التأقلم. لكن الضغط الفسيولوجي يسبب الشيخوخة أيضاً، يسلم الناس بهذا لغوياً عندما يتكلمون عن حدوث “الشيخوخة بين عشية وضحاها.” (ص. 279)
“إن انطباعاتنا عن البيئة تتخزن في الذاكرة الخلوية. عندما تكون التأثيرات البيئية المبركة ضاغطة بشكل مزمن، يتلقى الجهاز العصبي النامي وبقية أعضاء نظام (PNI) الفائق رسائل كهربائية هرمونية كيميائية متكررة مفادها أن العالم غير آمن أو حتى معادٍ. هذه التصورات تبرمج في خلايانا على المستوى الجزيئي. وهكذا تحدد التجارب المبكرة موقف الجسد تجاه العالم وتحدد معتقدات المرء اللاواعية عن نفسه في علاقاته بالعالم. يسمى د. ليبتون هذه العملية “بيولوجيا المعتقد”. ولحسن الحظ، تؤكد التجربة البشرية وإمكانات البشر التي لا تنفك تتكشف أن بيولوجيا المعتقد، على الرغم من أنها متأصلة بعمق من الناحية الفسيولوجية، فإنها قابلة للزوال.” (ص. 289)
“لا نذكر أنفسنا كفاية بأن كلمة شفاء إنما هي مشتقة من أصل قديم بمعنى “مكتمل”، ومن هنا جاءت معادلتنا للكمال والصحة. الشفاء هو أن تصبح مكتملاً. ولكن كيف نكون أكثر اكتمالاً مما نحن عليه بالفعل؟ أو كيف يمكننا بأي شكل أن نكون أقل اكتمالاً؟ يمكن للكامل أن يصبح تناغمه الداخلي مضطرباً لدرجة أن الأجزاء التي كانت تعمل معاً لم تعد تفعل. كما رأينا، فإن الضغط النفسي هو اضطراب في التوازن الداخلي للجسم استجابة للتهديد المتصور، بما في ذلك تهديد أن يحرم المرء من بعض الاحتياجات الأساسية. قد يكون الجوع أحد أشكال هذا الحرمان، ولكن في مجتمعنا غالباً ما يكون التهديد نفسياً، مثل انقطاع التغذية العاطفية أو اختلال التناغم النفسي.” (ص. 304)
الختام:
يمكن القول إن كتاب «عندما يقول الجسد لا» للدكتور جابور ماتيه يقدم رؤية شاملة وعميقة لماهية العلاقة بين الجسد والعقل، ويتحدى النظرة التقليدية التي تفصل بين الجانبين. من خلال توضيحه للعلاقة الديناميكية بين العواطف والصحة الجسدية، يدعو الكتاب إلى إعادة تقييم طرق عيشنا والتواصل مع ذواتنا. إن الرسالة الأساسية المتضمنة في هذه الصفحات ليست فقط فهم الأمراض، بل أيضاً استكشاف الطريق نحو الشفاء الحقيقي الذي يبدأ من الداخل. لذا، يعد هذا العمل دعوة لاستعادة التواصل مع مشاعرنا واحتياجاتنا، والعيش بوعي أكبر يمكننا من تحقيق التوازن النفسي والجسدي. إن قراءة هذا الكتاب هي بمثابة رحلة نحو اكتشاف الذات، وهي دعوة للتفكير بعمق في كيفية تأثير تجاربنا العاطفية على صحتنا والعيش بوعي في مواجهة تحديات الحياة.
أحدث التعليقات