الحكمة (48): «أورديسا» لمانويل بيلاس 

الصفحة الرئيسية  /  مراجعات  /  خمسون حكمة حول العالم  /  الحكمة (48): «أورديسا» لمانويل بيلاس

أقف اليوم في محطتي الثامنة والأربعين: إسبانيا.

تدور رواية «أورديسا» لمانويل بيلاس حول حياة إنسان مضطرب يسعى لفهم نفسه وعلاقاته الأسرية، نشرت طبعة الرواية الأولى دار الآداب للنشر والتوزيع في عام 2021 في بيروت، ونقلها إلى العربية مارك جمال.

يحمل عنوان الرواية دلالات رمزية عميقة، حيث ترمز “أورديسا” إلى عالم من الجمال والهدوء الذي يسعى الكاتب للعثور عليه في رحلته الذاتية، مستلهماً من ذكريات الطفولة والعائلة والمشاعر المكبوتة. يعبر عن ذلك قائلاً: “طار في خلدي أن حالتي ذكرى مبهمة، ذكرى شيء جرى في مكان يقع شمالي إسبانيا، ويُسمى أورديسا. مكان حافل بالجبال، وكانت ذكرى صفراء، فاللون الأصفر يغمر اسم أورديسا، وخلف أورديسا ترتسم هيئة أبي في صيف 1969. إنها حالة ذهنية تمثل مكاناً: أورديسا، وتُصبغ بلون الأرض. وإذا كل شيء يغدو أصفر. أن تتلون الأشياء ويتلون البشر بالأصفر يعني أنهم قد بلغوا عدم الاتساق، أو الضغينة. الألم أصفر! هذا ما أرمي إليه.” (ص. 12)

يتساءل البطل بشكل متكرر عن مدى واقع الكتابة وأصالتها، حيث يقول: “يُطرح عليّ هذا السؤال باستمرار: ‘إلى أي مدى يُعد [هذا الكتاب] سيرة ذاتية، وإلى أي مدى يُعد عملاً أدبياً؟'” (ص. 7)، مما يعكس رغبته في استكشاف حقيقة ما يكتب ومدى ارتباطه بحياته الشخصية. ولعل رحلته إلى أورديسا ليست مجرد رحلة مكانية، بل تمثل أيضاً رحلة بحث عن الهوية والعائلة والقبول.

تتداخل الذكريات المؤلمة في حياة البطل، خاصة فيما يتعلق بعائلته. تجمعه علاقة معقدة مع والديه دفعته إلى التساؤل صراحة عما إذا كانا قد أحبّاه من الأساس، فيقول: “يحتمل أنهما لم يحباني، ويحتمل أن يكون هذا الكتاب ثمرة خيال رجلٍ متألم، بل مذعور من كونه متألماً. ليس مؤلماً ألا يحبك أبواك، بل إنه مثير للذعر، أو الرعب! وهكذا، تنتهي بك الحال إلى التفكير بوجود سبب قهري يبرر عدم حبهما لك. ما داما لم يحباك، فانت الذي أخفقت.” (ص. 155) يبرز هذا الاقتباس مشاعر الفزع والخواء وعدم الأمان التي نشأت من غياب الحب الأبوي الصحي والمستقر.

تتأزم الأمور أكثر بسبب الصدمات والأحداث المؤلمة الناتجة عن اعتداءات تعرض لها في طفولته. إذ يشير إلى صعوبة البوح بألم تلك الصدمات، فيقول: “ما لم يسعني الإفضاء به إلى أبي، أفضيت به إلى رخما [عمه].” (ص. 338) وبهذا، يتضح كيف لعبت تلك الذكريات دوراً في تشكيل شخصيته وصراعه الداخلي، وربما كانت السبب وراء إدمانه للكحول في إحدى فترات حياته.

تظهر أهمية العائلة بشكل واضح في حياة البطل، إذ يعتقد بوجود نوع من الخواء العاطفي الذي جعله إنساناً مشوشاً. وبالرغم من كل ذلك، يسعى إلى استكشاف الحب الذي قد يكون مضمراً من قبل والديه، طامحاً إلى “انتشال ذلك الحب من وسط الظلال” (ص. 179) ليساعده على فهم ذاته.

تجسد «أورديسا» رحلة الغوص في أعماق النفس البشرية، حيث يمزج الكاتب بين الخيال والواقع، ويجعل من تجاربه ومعاناته خيوطاً تنسج حكاية متألقة عن البحث عن الذات، والأمل، والحب المفقود.

الحكمة من الكتاب:

تتجلى عبر صفحات كتاب «أورديسا» حاجة الكاتب الملحة للحب والقبول. ذلك الحب الذي وصل به الحد إلى توهمه أو اختلاقه في ذكرياته عن والديه. وعليه، فإن الحكمة من الكتاب هي في أهمية هاتين العاطفتين، وأهمية تلقّيها من الوالدين، أو أحدهما على أقل تقدير. كما يثير الكتاب تساؤلاً عن حياة الكاتب الشخصية، ولماذا لم يسع إلى إيجاد أو تعويض هذا الحب في كبره كما فعل كثيرون غيره ممن عاشوا طفولة مضطربة وغير مشبعة عاطفياً. وربّما يدفع ذلك القارئ إلى محاولة الخوض في هذا الخيار. فطالما لا زلنا أحياء نرزق، هنالك دائماً متسع لحب جديد!

اقتباسات من الكتاب:

“ليت المرء قادرٌ على قياس الألم البشري بأرقام جلية، لا بكلمات مبهمة. ليتنا نملك طريقة نعرف بها مقدار الشقاء الذي تكبدناه. ليت الألم كان مؤلفاً من مادة ملموسة، وقابلاً للقياس!” (ص. 9)

“التاريخ أيضاً جسد يحس بوخزات الندم.” (ص. 12)

“مهما ساءت أحوالك في الحياة، هناك من يحسدك دوماً. إنه ضرب من السخرية الكونية.” (ص. 15)

“لا أحد يدري إن كان العيش خارج الإطار المجتمعي ممكناً.” (ص. 17)

“لطالما كانت أخلاقية الأحداث بنية وليدة الثقافة. الأحداث في حد ذاتها آمنة. الأحداث طبيعية، أما تأويلها فسياسة.” (ص. 20)

“سيل الحياة، مياه تجري دوماً، بينما يدركنا الجنون.” (ص. 22)

“الماضي هو الحياة وقد رضخت لمحاكم تفتيش العتمة. الماضي لا يمضي أبداً، ومن الممكن أن يعود في أي وقت. الماضي يعود، أبداً، يعود. الماضي ينطوي على بهجة. الماضي إعصار. الماضي كل ما في حياة الناس. بل إن الماضي حب أيضاً. أن تعيش مهووساً بالماضي لا يتيح لك أن تنعم بالحاضر، ولكن التنعم بالحاضر من دون أن يثقله الماضي بوحشته لا يعد لذة، وإنما اغتراباً. أما الماضي، فلا اغتراب فيه.” (ص. 31)

“إن سبب وجودك في هذا العالم، ذلك السبب الوحيد، الأكيد، الثابت، يكمن في إرادة أبيك وأمك. وأنت تمثل تلك الإرادة. الإرادة التي انتقلت إلى اللحم.” (ص. 33)

“الطبيعة شكل وحشي من أشكال الحقيقة.” (ص. 33)

“لطالما كانت الرغبة في العيش محيرة: ذلك أنها تبدأ بتفجر البهجة وتنتهي باستعراض الابتذال. مبتذلون نحن، ومن لا يقر بذلك أشد ابتذالاً. إن الاعتراف بالابتذال أول خطوة في تحقيق التحرر والانطلاق نحو الاستثنائية.” (ص. 36)

“الأدب عديم الأهمية ما دام خالياً من الحب.” (ص. 46)

“اليوم تخطر على بالي كلمة شمسية هي: “رأفة”. يجب علينا جميعاً أن نتحلى بقدر أكبر من الرأفة.” (ص. 54)

“شعرت بالخوف… الخوف، الخوف دوماً، وكأنه طاعون يلازمني. الخوف الذي يبحث في عقلك عن رفيقة، وإن لم يجدها صنعها بنفسه. وأخيراً، الخوف الذي يرافق اليأس، ذلك الكيان الأنثوي الذي يقوم على التدهور والجنون.” (ص. 61)

“أنت لا تشهد ميلادك، ولكنك تشهد أموراً أخرى، مثل: زفافك، وإن تزوجت؛ كما تشهد ميلاد أبنائك. وعلى الرغم من ذلك، فأنت لا تشهد موتك. لا تشهد ميلادك ولا موتك.” (ص. 66)

“ما العمل بشيء كالموت، يخلو من المحتوى، ويمثل نهاية كل شيء.” (ص. 68)

“ينطوي الشر على إشكالية مؤداها أنه لو طالك جعل منك أنت الملوم. وذلك هو السر الأعظم للشر: إن الضحية تصبح هي الملومة دوماً، على شيء يدعى الشر، مرةً أخرى. وهكذا، تتمرغ الضحية في الخراء دوماً. فالناس يتصنعون الرفق بالضحية، ولكنهم لا يضمرون لها في سرائرهم إلا الاحتقار. لطالما كانت الضحية عصية على الخلاص. أي محتقرة. يحب الناس الأبطال، لا الضحايا.” (ص. 71)

“الحقيقة أجدر ما في الأدب بالاهتمام. أن نقول كل ما يجري لنا ونحن على قيد الحياة، لا أن نحكي الحياة، وإنما الحقيقة. وإنما الحقيقة. الحقيقة منظور لا يلبث أن يتألق من تلقاء نفسه. يموت ويعيش أكثر الناس من دون أن يشهدوا الحقيقة. والشيء الهزلي في البشرية أنها لا تحتاج إلى الحقيقة. فالحقيقة زينة، زينة معنوية. يمكن العيش من دون الحقيقة، شكل من أشكال البهتان الأكثر وجاهة.” (ص. 80)

“الفقر تخل عن المشاركة في نهب العالم، هكذا أراه. وقد لا يكون بدافع الصلاح ولا الأخلاق ولا أي مثل عليا، وإنما بسبب العجز عن النهب.” (ص. 92)

“كانوا يحتقرون التلاميذ ويوجهون لهم الإهانة. تجرع أولئك الفتيان المذلة والمهانة على أيدي المعلمين الغارقين في الضحالة، الحاقدين على الحياة. لم يكن هذا حالهم جميعاً. فمن المعلمين من عشق الحياة، وحاول أن يمرر ذلك الحب إلى تلاميذه. إنه واجب المعلم الوحيد: أن يلقن طلابه حب الحياة وفهمها، فهم الحياة بذكاء، بذكاء احتفالي.” (ص. 114)

“ما دام عليك سؤال أحدهم عن شيء، فاسأله.” (ص. 126)

“يستهويني كثيراً أن يحكي الأصدقاء عن حياة آبائهم. فأصير كلي آذاناً صاغية، وأستطيع رؤيتهم. أستطيع رؤية أولئك الآباء، وهم يكافحون من أجل أبنائهم. وأجمل ما في العالم ذلك الكفاح، ربّاه، ما أجمله!” (ص. 131)

“لا أؤمن بالأطباء، وإنما بالكلمات. لا أؤمن بأن الأطباء يعرفون ما نحن حق المعرفة، لأنهم يجهلون عالم الكلمات. ولكنني أؤمن بالمخدرات. أوكل العلم الحديث إلى الأطباء سلطة تصنيف المخدرات ووصفها. والطب ذو قيمة ما دام يزودنا بالمخدرات، أي بما يقتل. المخدرات هي الطبيعة، ذلك أنها كانت هناك منذ الأزل.” (ص. 132)

“تكمن مشكلة الفقر في تحوله إلى بؤس، والبؤس حالة معنوية.” (ص. 146)

“الموت هو التعبير الأسمى لسر الحياة.” (ص. 148)

“يتطور البشر. وما كان بالأمس مهما، يفقد اليوم أهميته.” (ص. 165)

“قلبه كان مفعماً بالخير، ذلك الخير الغريب الذي يتسم به البسطاء، أولئك الذين سقطوا في العالم وفعلوا كل ما في وسعهم.” (ص. 169)

“يسعني التفكير في موتي أنا الآخر. كم من الوقت قد يتبقى أمامي؟ لا يفكر الناس في هذا السؤال، لأنه عصي عن التفكير، خالٍ من المحتوى، خالٍ من كل شيء، ولا سيما الآداب الاجتماعية. وعلى الرغم من ذلك، فثمة رقم واحدٌ يترقب: خمسة أعوام، ثلاثة أيام، ستة أشهر، ثلاثون عاماً، ثلاث ساعات.” (ص. 185)

“لا يقين سوى الأبوة والأمومة. أما البقية فتكاد لا تكون على قيد الوجود.” (ص. 198)

“لا أدري إن كانت الحشرات آكلة الجيف تدرك الفارق بين الخير والشر. من المرعب التفكير بأنها لا تدرك الفارق، ومن المرعب التفكير بأن ذلك الزبد الضارب إلى الصفرة والدهن الذي يشبه الصابون في جثمان الصالح هو نفسه في جثمان الخبيث! من المرعب التفكير بأن الخير لا يتميز عن الشر من حيث طريقة التعفن، وبأن الخير والشر ينتهي بهما المطاف إلى عفونة واحدة، وصنف واحد من الديدان والفطريات!” (ص. 202)

“فالموت في قرارة الامر يكاد يكون مكسباً اقتصادياً، لأن الطبيعة تطلق سراحك أخيراً، ولا يعود هناك نشاط ولا عمل ولا جهد ولا راتب ولا نجاح ولا إخفاق. ولا يعود من الضروري تقديم الإقرار بالضريبة على الدخل، ولا مطالعة كشوف الحسابات البنكية، ولا التحقق من فواتير الكهرباء. فالموت بهذا المعنى يمثل يوتوبيا الفوضوية.” (ص. 209)

“وكأني أود لو كرست ذاتي لذاتي، وكأني أشعر بحاجة ملحة، حاجة ملحة إلى ذاتي، إلى أحبائي. من هم أحبائي؟ لا وجود للتعقيد في الحياة، فتلك خدعة، مجرد كبرياء. لا وجود لغير الأحباء. لا وجود لغير الحب.” (ص. 224)

“لا مغزى لهذه الحياة، ولا نجاح فيها، سوى أن يكون لك من ينتظرك، في مكان ما.” (ص. 232)

“لو سمعت صوت أمي مرة أخرى، فلربما آمنت بجمال العالم.” (ص. 255)

“بدت لي تجربة خارقة للطبيعة، تجربة الكائنات التي تمر بهذا العالم من دون أن يحبها أحد، كائناً من كان. في تلك التجربة شكل قاس ومسمم من أشكال الحرية، واستحضار لقوة المادة الفوضوية، السابقة على الترتيب البشري، لأن المادة وحيدة. ليس ضرباً من الإخفاق أن يعيش المرء من دون أن يحبه أحد. بل إنها هبة. هبة دامية.” (ص. 274)

“لا نفضي بالحقيقة كاملة أبداً، فلو فعلنا لحطمنا الكون، ذلك الكون الذي يعمل من خلال المعقول، والمحتمل.” (ص. 277)

“عند أمي، لم تكن الكلمات مهمة في حد ذاتها، بل إن ما يهم هو الشيء المتنكر في ثياب الكلمات. اهتمت أمي بالواقعي من الأشياء. أما الثياب اللفظية التي بها تتنكر الأشياء الواقعية فهشة ومفرطة التعقيد.” (ص. 290)

“لا آبه للقوانين البشرية الصارمة، شأن أمي. لا آبه لكل ما أقامته الحضارة. وليس هذا غروراً، على العكس تماماً، ولا ترفعاً من باب التحقير، بل إنه بالأحرى ألم. والمرء يبلغ اللامبالاة عبر درب الألم، والخواء، وانعدام الجاذبية.” (ص. 291)

“الحياة عبثية، ولذا فهي على هذا القدر من الجمال.” (ص. 316)

“لا يملك مثوى حتى يسقط فيه ميتاً.” (ص. 322)

“الإثم الوحيد الذي قد يقع فيه البشر هو الإمساك عن خدمة الحياة. وليس هذا بالإثم العظيم، بل إنه بالأخرى مخالفة.” (ص. 333)

“بالحب أهتدي. بفقدان الحب.” (ص. 341)

“إما تشهد موت الآخرين وإما يشهد الآخرون موتك.” (ص. 345)

الختام:

رواية «أورديسا» لمانويل بيلاس ليست مجرد سرد لأحداث عابرة أو استرجاع لذكريات متفرقة، بل هي غوص عميق في أعماق النفس البشرية، تلك النفس التي تتعثر تحت ثقل الذاكرة وتشتاق دوماً إلى الحب والانتماء.

تترك هذه الرواية القارئ مع إحساس قوي بأن هنالك دوماً مجال لتجديد الأمل والبحث عن السعادة، مهما كبرت الجراح. يجب أن تكون لدينا الشجاعة للبحث عن الحب، ومعرفة أننا لسنا وحدنا في هذه المعركة. فمهما كانت دروبنا وعرة، يبقى دائماً هنالك متسع للمحبة، والإيمان بحياة تستحق العيش.

أحدث التعليقات